نعرف أنّ مسألة الإمامة تتّسم بأهمية استثنائية في أوساطنا نحن الشيعة، لا يوازيه اهتمام فرق المسلمين الأخرى بها. والسرّ في هذا التفاوت يعود لاختلاف مفهوم الإمامة عند الشيعة عمّا هو عليه لدى بقيّة الفرق الإسلامية.
لاشك أن هناك جهات اشتراك في المسألة، لكن ثمَّ إلى جوارها جهات اختصاص في معتقدات الشيعة حول الإمامة تسبغ عليها أهمية غير عادية بالنسبة إليهم.
عندما نريد نحن الشيعة - على سبيل المثال - أن نعد أُصول الدين انطلاقاّ من رؤيتنا المذهبية، نقول إنها: التوحيد والنبوّة والعدل والإمامة والمعاد. أي إنّنا نُدخل الإمامة في نطاق أصول الدين.
ومن جهتهم، يذهب أهل السنة للقول بشكل من أشكال الإمامة، وهم - في الأساس - لا يُنكرون الإمامة في ضرب من ضروبها، بيد أنَّ الشكل الذي يؤمنون به لا يرفعها إلى مستوى أصول الدين، بل يضعها جزءاً من الفروع.
نخلص في المحصّلة الأخيرة إلى وجود اختلاف في مسألة الإمامة. فالسُّنّة يقولون بنوع من الإمامة، ونحنُ نعتقد بنوع آخر. والسؤال الذي ينطلق عندئذ: كيف رفعت الشيعة الإمامة إلى مستوى أصلٍ من أصول الدين، في حين اعتبرها أهل السُّنة من الفروع؟
تعود العلّة في ذلك إلى ما أوضحته قبل قليل من أن مفهوم الإمامة عند الشيعة يختلف عمّا هو عليه عند أهل السنّة.
معنى الإمام
لا تنطوي كلمة الإمام في حدّ ذاتها على مفهوم مقدّس. فالإمام هو المؤتمّ به، أي المقتدى والمتبع، وهو الشخص الذي يتقدّم على جماعة تتبعه، سواء أكان عادلاً ينهج صراطا سويّاً، أم ضالاًّ يهوي نحو الباطل، في المفردات (الإمام: المؤتم به إنسانا، كأن يقتدى بقوله أو فعله، أو كتابا أو غير ذلك، محقا كان أو مبطلا، وجمعه أئمة)(المفردات، ص 20).
وفي الصحاح: (الإمام: الذي يقتدى به، وجمعه أئمة) الصحاح، ج5، ص 1865.
وفي لسان العرب: (يقال إمام القوم، معناه هو المتقدم لهم، ويكون الإمام رئيسا، كقولك: إمام المسلمين) لسان العرب، ج12، ص 26.
القرآن الكريم أطلق كلمة الإمام على الموْقعين معا، ففي مكان قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(الأنبياء/73)، وقال في مكان آخر: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}(القصص41).
وبالنسبة إلى فرعون استخدم كلمة مناظرةً لكلمة (الإمام)، عندما قال {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(هود/98).
فالإمام إذن هو المقتدى، ولا شأن لنا - في هذا البحث - بالإمام الضالّ، بل الذي يعنينا هو مفهوم الإمام في نفسه.
تجري الإمامة في عدّة مفاهيم، يؤمن أهل السنة ببعضها - وإن اختلفوا معنا بالكيفية وفي شخص الإمام - وينكرون بعضها من الأصل. لا أنهم يعتقدون معنا بجميع تلك المفاهيم ثم يختلفون معنا في شخص الإمام.
الإمامة التي يشتركون بالإيمان بها معنا ويختلفون فيها بالكيفية والشكل وشخص الإمام، هي التي تبرز بمعنى رئاسة الاجتماع، وقد ذُكرت في كتب قدماء المتكلمين بمثل هذا التعبير، أو عُبّر عنها بنظائر قريبة إليه.
فنصير الدين الطوسي مثلا يعرف الإمامة في (التجريد) بأنها: (رياسة عامة) وبصدد هذه المسألة تبدو الحاجة ماسّة لذكر نقطة معيَّنة.
شؤون النبيّ الأكرم
انطلاقاً من الخصوصية التي يتحلّى بها النبيّ الأكرم في الإسلام، كانت له في زمانه بمقتضى القرآن وبحكم سيرته، شؤون متعدّدة. أي كانت له عدّة أعمال، وهو ينهض بعدد من المواقع والمسؤوليات في وقتٍ واحد.
أوّل موقع من عناوين مسئوليته (صلى الله عليه وآله) أنه كان نبيّاً مكرّماً من قِبَل الله، وقد نهض عملياً بهذه المسؤولية وتصدّى لها. فمعنى كونه نبيّاً أنه كان مبيناً للأحكام الإلهية وتعاليم السماء. يقول القرآن: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر7)، وفي مفاد الآية أن ما يبينه النبي من أحكام ويبلّغه من تعاليم، قد جاء به من عند الله. أي أن النبي لا يملك في هذا الموقع إلاّ أن يكون مبينا لما أوحي إليه.
ثم منصبٌ آخر تصدّى له النبي الأكرم هو منصب القضاء. فقد كان قاضياً بين المسلمين.
ليس القضاء أمراً اعتباطياً من وجهة نظر الإسلام بحيث يكون بمقدور أيّ إنسان أن يتصدّى له ويفصل بين المتخاصمين. إنما القضاء في الرؤية الإسلامية هو شأن إلهي، لأنه حكم بالعدل، والقاضي هو الذي يفصل ويقضي في الخصومات والاختلافات بالعدل.
وهذا المنصب فُوّض إلى النبي بنصّ القرآن الكريم: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء/65). إذا كان لرسول الله الحق من عند الله في أن يقضي في اختلافات الناس ويفصل فيها.
وهذا المنصب الذي كان للنبي، هو منصب إلهي، وليس منصباً عاديّاً، وقد كان النبي قاضياً بالفعل مارس القضاء عملياً.
ثَمَّ منصب ثالث كان للنبيّ فعلاً، وفُوّض - هو الآخر - إليه بنصّ القرآن وجرت عليه سيرته العملية أيضا، هو موقع الرئاسة العامّة. كان النبيُّ الرئيسَ وقائد مجتمع المسلمين، وبتعبير آخر: سائسهم. وقد ذكروا أن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء/59). ناظر لهذه الجهة في مسؤولية النبي ( صلى الله عليه وآله ). فالآية تدل على أنه رئيسكم وقائد اجتماعكم [المسلمين] فيما أمركم به.
وعندما نتحدَّث عن ثلاثة شؤون للنبيّ، فلا نعني به الجانب الشكلي - بمعنى سوق المناصب للنبيّ من دون أساس - بل إنَّ ما وصل عن النبي - شخصية وممارسة - يشير ضرورة إلى ثلاثة ضروب من المسؤولية.
فمن الجهة الأولى يكون كلام النبي وحياً إلهيّاً فحسب. وفي هذه الحال لا يكون للنبي أيّ اختيار من نفسه قطّ، إنّما عليه أن يُبلّغ ما أُمر به من قِبَل الله، ويكون (النبي) واسطة للإبلاغ فقط، مثاله ما أُمر به من تعاليم الدين في كيفية إقامة الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام.
أمّا ما يقضي به بين الناس، فلا يمكن أن يكون وحياً. عندما يقع الاختلاف - مثلاً - بين اثنين، يبادر النبيُّ للحكم بينهما وفق الموازين الإسلامية، فيقضي لأحدهما بالحق. وفي هذه الحال لا يهبط جبرائيل إلى النبيّ ليوحي بأنّ الحق لهذا الطرف أو ذاك. يُستثنى من ذلك الحالات التي يتدخل فيها الوحي لخصوصية فيها.
القاعدة العامّة التي ترمي بظلالها على هذا الصعيد، أن قضاء النبي يتمّ على أساس الظاهر، تماماً كما يقضي الآخرون، بفارق أنَّ ما يقضي به النبي يأتي على أحسن شكل وأفضله.
وقد ذكر النبيّ نفسه أنه أمر أن يحكم على أساس الظواهر وبمقتضاها، أي أن يكون في القضية مدّعٍ ومنكر، فيأتي المدعي بشاهدين عادلين يشهدان على صحّة دعواه، ثم يحكم النبي على أساس الأدلة الظاهرة، فيكون الحكم في القضية معبراً عن حكم النبي لا عن وحي أوحي إليه فيها.
أمّا على مستوى الشأن الثالث، فإن النبي يمارس عمله انطلاقاً من كونه قائداً للمجتمع. فإذا أمر بشيء من هذا الموقع، كان ( هذا الأمر النبويّ) غير الوحي الذي يبلغه عن الله. والله (سبحانه) هو الذي منحه هذا الموقع في القيادة وأوكل إليه هذا الحق. دأب النبي في ممارسة صلاحيات هذا الموقع بحكم كونه قائداّ، ولهذا كانَ يشاور - أصحابه - أحياناً.
عندما نعود إلى غزوة بدر وأُحد ومواطن أُخرى كثيرة، نرى أنَّ النبي الأكرم كان يشاور أصحابه، ولا يمكن التشاور في حكم الله. فهل وجدتم النبي يشاور أصحابه- ولو مرَّة - في حكم صلاة المغرب مثلاً؟ بل الأكثر من ذلك أننا نراه إذا حدّثه أصحابه عن مسائل تبرز في هذا الخط - التبليغ عن الله - يجيب أن الأمر ليس إليه، بل هو من عند الله. ولا يمكن أن يكون غير ذلك.
أما في المسائل التي ترتبط بقيادة المجتمع وإدارته، فقد كان النبي يبادر أحياناً لمشورة أصحابه وطلب رأيهم.
نخلص ممّا مرَّ إلى أنَّ النبيَّ الأكرم إذا أَمر في هذه الدائرة - قيادة المجتمع - بشيء، فإن ذلك يدخل في نطاق الصلاحيات التي منحها الله إياه. وإذا رأينا أن الوحي تدخل في قضية خاصة من هذا القبيل (تنفيذية وإدارية تقع في صلاحيات القيادة) فإن لهذا التدخل طابعاً استثنائياً لا يكتسب عنوان القاعدة العامة، بحيث يعني أن جميع ما ينهض به النبي في ممارسة تفاصيل عمله التنفيذي ومسئوليته الإدارية كرئيس للمجتمع وقائد له، يصدر عن الوحي، وأن الوحي هو الذي أمره بفعل هذا وترك ذاك، وبالشكل الذي ينتهي إلى أن يكون النبي في هذه الدائرة أيضا مبلَغاً للوحي لا غير.
يتبين مما مضى أن للنبي الأكرم - جزماً - هذه الشؤون والمواقع والعناوين المتعدَدة جميعاً، وفي وقت واحد.
الإمامة بمعنى قيادة المجتمع
الإمامة في المعنى الأوّل الذي عرضتُ له، هي الرئاسة العامّة. فواحدة من المواقع التي يتركها النبي شاغرة بعد مغادرته الدنيا هي قيادة المجتمع. فالمجتمع يحتاج إلى قائد، ولا يشكّ أحد في ضرورة هذه الحاجة.