الزّيدية غيرُ راضية عن فعل المشائخ في التّقدم على أمير المؤمنين ، كيف لا وأميرُ المؤمنين نفسُه لَم يَرَ صحّة بيعة أهل السقيفة لأبي بكر ، كيفَ لا وهُو ماكثٌ في بيتهِ ستّةَ أشهرٍ مُغاضبٌ لأبي بكرٍ ، غيرُ راضٍ عَن فعلته واستئثارهِ ، وتَقدّمه ، فإن كانَ أميرُ المؤمنين (ع) لَم يُصحِّح إمامة أبي بكرٍ ولَم يَر شرعيّتها ، أفيُصحّحَها أبناءهُ مِن بعدِه ، وهُم المُقتدونَ بسيرته ، والمُنتهجونَ بنهجه ، نعني أبناء الحسن والحسين ، سادات الأمرِ بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، انظُر أمير المؤمنين عبدالله بن حمزة بن سليمان (ع) ، يصفُ اقتفاء الأبناء بالآباء ، فيقول : (( لنا أئمةٌ نَرجِعُ إليهِم فِي أمُورِ دِينِنَا، ونُقْدِم حَيثُ أقْدَمُوا، ونُحجِمُ حَيثُ أحجَمُوا، وهُم: عَلِيُّ وَوَلَدَاه عَليهِم أفْضَلُ السّلام )) ، وقَد صحّ الاقتداء بأمير المؤمنين (ع) في هذا ، وذلكَ عندما قال في الخبر الذي روته أمّ المؤمنين عائشة ، فيما رواه البخاري في الصحيح ، لأبي بكر عندما دعاهُ في منزله : (( إنَّنَا لَمْ نَنْفَسْ عَلَيكَ خَيراً سَاقَهُ الله إليك، ولِكِنّا نَرى لَنَا فِي هَذَا الأمْرِ نَصِيباً، فَاسْتَبدَدْتَ!! بِهِ عَلَينَا، فَوَجدنَا!! فِي أنْفُسِنَا ))[1] ، فلَو كانَ (ع) يرى شرعية خلافَة المفضولِ دونَ الفاضل لما كانَ هذا الكلامُ منه إلاَّّ عبثاً ، أعني نعتهُ أبو بكر بالاستبداد والاستئثار ، ولَمَا كانَ لتأخّرِه ستّة أشهرٍ عن المصالحَة والمُسالَمة أيّ معنىً ، ولمَا كانَ لشقشقيته التي هَدَرَت أيضاً أيُّ معنىً ، لأنَّ البعض يتوهّم أنَّ مُسالَمة الكرّار لأبي بكر كانَت مُسالَمةَ رضاً بخلافته، والحقّ أنّها ما كانت إلاّ من باب (( لأسُالمنّ ما سَلِمَت أمورُ المُسلمين )) ، والبعدُ عن شقّ الصفوف ، وتهالُكِ دولَة الإسلام، وتحقيق مصلحةِ الجماعةَ على الفرد ، إذ لو كانَ موقفهُ الرّضا والتصحيح لخلافة الأول ما تشكّى منه بَعدَ أن ماتَ وماتَ معه عُمَرُ وعُثمان ، عندما قالَ (ع) : ((أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا ))، ثمّ يُوضّحُ (ع) سببَ المُصالحَة والمُسالَمة ، ويُبيّن أنَّه ما حَمَلهُ عَليها إلاَّ الصبرُ لا الرّضا ، فيقول :((فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى ، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذًى!!، وَفي الحَلْقِ شَجاً!! ، أَرَى تُرَاثي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ))[2] ، فيا باغي الجواب على هاكَ السّؤال ، تأمّل مواقف المُرتضى بعين البصيرةِ لا البَصرَ ، فَكم مِن بَصَرٍ لا يُبصِرُ إلاَّ أقوالَ الرّجال والتعنّتُ لتصحيحها وتقويتها ، فأطِلقْ بصرَك بعدَ الذي ذَكرنا مِن موقفِ أمير الءمنين وموقفهُ الأصل والفَصل في هذا اللجاج ، أطلقهُ وانظُر مقالَة ريحانة الرّسول وبِكرُ أبيه وفلذَةُ كَبِدِ الزّهراء عندما قالَ في إحدى رسائلهِ إلى أهل البصرة : (( إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحمّداً وكَانَ النّاسُ عَلى ضَلالَة، فَهَدى بِه الخلق، ثمّ قَبضَهُ وَنَحنُ أحَقُّ النَاسِ بِمَكَانِه !! ، غَيرَ أنَّ أقوامَاً تَقدّمُونَا واجتَهَدُوا فِي طَلَبِ الحقّ، فَكَفَفنَا عَنهُم تَحرّياً لإطفَاء نَارِ الفِتنَة، حَتّى جَاء قَومٌ غيّروا وبَدّلُوا فَحَاربنَاهُم ))[3] ، انظُر أبي محمدٍ الحسنَ (ع) يصِفُ القومَ بأخذٍ أمرٍ كانَ أهلُ البيت أحقّ بهِ منهُم ، وهذا نوعٌ مِن التّشكي من هذا الفِعل ، نوعٌ مِن عدَم الرّضا به ، نوعٌ مِن عدَم رؤية صحّة خلافتهم دونَ الفاضل علي بن أبي طالب (ع)، ويؤكّد هذا من أبي مُحمّدٍ (ع) تعليلهُ الكفَّ عن المشائخ وعدمِ مقاومتهم بالتّحري لإطفاء نائرَة الفتنة ، والصبرُ مادام في السّلو بُعدٌّ عن تعريض الإسلام للخطر ، فهذا قولٌ صُراحٌ بِعدَم الرّضا عن أصلِ خلافة المشائخ . أيضاً يقولُ الإمام أبو محمد الحسن بن علي (ع) في إحدى رسائله إلى معاوية الطليق : (( وَقَدْ تَعَجّبنَا لِتَوثّبِ المُتَوثّبينَ عَلينَا فِي حَقّنِا وُسُلطَانِ نَبيّنَا صَلى الله عليه وآله ، وإنْ كَانُوا ذَوي فَضِيلةٍ وسَابِقَةٍ فِي الإسلام، فَأمْسَكنَا عَن مُنَازَعَتِهِم مَخَافَةً عَلى الدّين ، أنْ يَجِدَ المُنافِقُونَ والأحْزاب بِذلِكَ مَغمَزاً يَثلِمُونَهُ بِه، أو يَكونَ لَهُم بِذلكَ سَبَبٌ لِمَا أرَادُوا بِه مِن فَسَادِه ))[4] أيضاً انظُر سيد شباب أهل الجنة (ع) يتشكّى ممّا كانَ فَعلهُ المشائخ ، ووصفهُ بالتوّثب كما وصفهُ أبوهُ قبلَهُ بالاستبداد ، وفي هذا دليلٌ على عدم الرّضا بالخلافة حتّى بعدَ المُسالمَة بينَ عليٍّ وأبي بكر ، ثمَّ انظر التعلّل الذي تعلّلَ به الحسن عن عدمِ المُنازعَة للمشائخ ، مِن حفظِ بيضة الإسلام والمُسلمين ، وعدم فتحِ الأبواب للمنافقين والمرتدّين ، وفي هذا جوابٌ على مَن قالَ ألا يستطيعُ عليٌّ أخذَ حقّه وهُو ليثُ الكتائب ومُزلزلُ الصناديد ؟ . نعم! وبعدَ الإمام الحسن يأتي أبو الحسين الإمام الشهيد السعيد زيد بن علي (ع) فيقولُ فيما روته عنه العامّة ، كما قالَ آباؤهُ الطّاهرين ، وذلكَ في خبرِ الرّافضة قبّحَهُم الله عندمَا بَلَغَهُم شدّة هشام بن عبدالملك أخزاهُ الله في تتبّع المبايعينَ له ، فأرادو التملّص من البيعة ، فقَدموُا إليه : (( فَقَالُوا لَه : مَا قَولُكَ يَرحَمُكَ الله فِي أبى بَكرٍ وعُمَرْ؟ فَقَالَ : غَفَرَ الله لَهُمَا ، مَا سَمِعتُ أحَداً مِن أهلِ بَيتِي تَبرّأً مِنهُمَا ، وأنا لا أقُولُ فِيهِمَا إلاَّ خَيراً ، قَالوا : فِلِمَ تَطلبُ إذاً بِدَمِ أهلِ البيت ؟ فَقال : إنّا كُنّا أحَقُّ النّاسِ بِهَذَا الأمْر ولِكِنَّ القَومَ اسْتأثَرُوا عَلينَا بِه ، ودَفَعُونَا عَنه ، ولَم يَبلُغ ذَلِكَ عِندنَا بِهِم كُفراً ، قَد وَلُو فَعَدَلُوا وعَمِلُوا بِالكِتَابِ والسنّة ))[5]، انظر حليف الاستقامَة والقرآن ، يقولُ بقول آبائه الكرام (على فرض تقوية هذا الخبر والصحيح أنّه محل نظر) ، يصفُ أحقيّة الفاضل على المفضول ، أحقيّة أمير المؤمنين على أبي بكرٍ وعُمَر ، ثم يُبيّن عدمَ رضاهُ بإمامة المفضول بقولهِ لَم يَبلغ بهِم كُفراً ، إذ لوكانَ يرى صحّة فِعلِهِما وخلافتهِمَا ما قارنَ ذلكَ بالكُفر أعاذهما الله منه، فهذا الأصل في المسألة ، أعني أصلَ مسألة الخلافة وعدم شرعيتها وعدم وقوعها بالقولِ الذي يَرضَى به أهل البيت (ع)، لأنّ المفضول تقدّم على الفاضل ، فافهم ذلك ، ولا تَخلِط بين عدمّ الرضا على أصلِ المسألة وبين الرّضا على ما جاءَ بعدها أو قبلَها ، أي لا تَخلِط بين عدمّ الرضا بشرعيّة وصحّة خلافة الثلاثة حالّ تقلّدهم الخلافة ، و بين الرّضا بأفعالِهم وسيرتِهم في النّاس بعدَ تقلّدهم الخلافَة ، وبينَ الرّضا بحميدِ أفعالهم بين يدي رسول الله (ص) قبل الخلافة ، وهذا أصلٌ عظيمٌ في المسألة يختلط على الكثير ، ولا يهتدي إليه إلاَّ حاذقٌ بصير ، نعم! قد ذكرنا حالَ أمير المؤمنين (ع) وموقفهُ من أصل الخلافة – حال التقلّد- ومدى بُغضه وعدمِ رضاهُ لهذا الفعل . وأمّا موقفهُ من سيرتِهم أثناء وبعد الخلافة فيُبينهُ زيد بن علي (ع) في كلامه السابق عندما قالَ : ((قَد وَلُو فَعَدَلُوا وعَمِلُوا بِالكِتَابِ والسنّة )) ، وقولُ عليٍّ (ع) مُشيداً بسيرة عُمر بن الخطاب غفر الله له : (( لِلَّهِ بِلَاءُ فُلاَنٍ ، فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ، وَدَاوَى الْعَمَدَ ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ ))[6] ، ومنها إشادَته بسيرة أبي بكرٍ وعُمرَ ، في بعضِ كلامه المُوجّهِ لعثمان بن عفّان ، فقال (ع) : (( مَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا ))[7]، فهذا كما تَرى رضاً منه (ع) بسيرتهما في النّاس ، واجتهادهما في عَمل الصّواب ، وليسَ في هذا الرّضا دلالةٌ على الرّضا بأصل خلافتهما لِمَا تقدّم ، وليسَ في هذا الرّضا أيضاً دلالةٌ على إصابة الشيخين في العَمل بالكتاب والسنّة الإصابَة المُطلَقة ، وإن كانا مُجتهدين على تطبيقها ، إذ لو كانَ ذلكَ كذلك ما وَسِعَ عُمرٌ غفر الله له أن يقول : (( لولا عليٌّ لهلَك عُمَر )) ، وما كانَ لعليٍّ (ع) أن يَرفضَ الالتزام بسيرة الشيخين يومَ الشّورى . وأمّا موقفهُ (ع) من المشائخ قبل الخلافة وفي عهد الرسول (ص) ، فهوُ الرّضا ، لِمَا كانَ لهُم من الحِرصِ والجَلَدِ في نصرة الله والرسول (ص) ، بالمال ، والعتاد ، والأنفس ، وإلى ذلكِ يُشيرُ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة ، عندما قال : وأمّا (( مَدائِحُهُ لأبي بكرٍ تَنقَسِم : فَما كانَ مِنها قبلَ الإحداثْ فغيرُ ممتَنِع))[8]، ومِن هُنا انتهجَت الزيدية مَنهجَ التوقف في حالَ الثلاثة ، فلعظيم السابقة في الإسلام توقّفوا عن السّب ، ولعظيم ما ارتكبوه في حقَّ عليٍّ (ع) من الاسئثارِ بأمرِ الخلافة توقّفوا عن الترضية ، فكانَ هذا موقفاً وسطاً ، لا إفراطٌ فيه ولا تفريط ، نعم! نعودُ لذِكرِ إجماعات أهل البيت على موقفِ أميرُ المؤمنين (ع) من خلافة المُتقدّمين عليه ، وبيانُ عَدمُ رِضاهُم ، وكُنّا قد ذَكَرنَا موقف أمير المؤمنين، والحسن ، وزيد بن علي
التعديل الأخير تم بواسطة سنية ; 24-09-2008 الساعة 08:06 AM.