( كاني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين وكأني بالأسواق قد حفت حول قبره ، فلا تذهب الليالي والأيام حتى يسار اليه من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني مروان ) . السجاد علي بن الحسين (ع)
كان أول بناء أقيمت معالمه في الحائر على الرمس الأقدس الحسيني ، والعمران الذي أحاطه ولم تتطاول اليه يد العدوان بالهدم ليومنا هو الذي أمر به الخليفة محمد المنتصر سنة سبع وأربعين ومائتين هجرية .
وأول من اتخذ الحائر وطنا ودار اقامة من العلويين ولم يتحولوا منها كما مر آنفا هو تاج الدين ابراهيم المجاب بأعقابه ، من ولده محمد الثاني الحائري في شوال سنة (247) هجـ (2) حتى يومنا هذا . وأما معرفة أول بناء أقيم على الرمس الأقدس بعد شهادته سلام الله عليه ، ومن قام به ، وفي أي تاريخ . وصورة البناء . لم يتحقق خبره لما لم يصرح به في مصدر ثقة يعول عليه .
وقد حدثني المتغمد بالرحمة السيد حسن الصدر الكاظمي نقلا عن تسلية المجالس لمحمد بن أبي طالب ، ( انه اتخذ على الرمس الأقدس لعهد الدولة المروانية مسجدا ) . الا أنني لم أقف ليومي هذا على أي أثر لهذا الكتاب (3) .
والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (ع) قادما من الكوفة لأواخر عهد الدولة الأموية ، ذكر باب الحائر وكرر لفظه بينما ابن اخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون ايراد لفظ الباب (3) . ومن الممكن ان لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر ، وجود بناء على سبيل الاجمال على التربة الطاهرة ، وكلاهما يصرخان انهما كانا على خوف ووجل من القتل ، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوقة للحفرة الطاهرة من الجند الاموي للحيلولة دون من يؤم قصده .
كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين ، واعادتهم الكرة تحت لواء ابراهيم الأشتر واستقصائهم للجندي الأموي مع زعيمهم ابن زياد مستهونين غير محتفين بكل ما سامهم معاوية من خطوب وخسف ، وما أذاقهم من مر العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن ارطأة وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب ، وابن زياد . مما خلف أثرا عميقا سيئا في نفوس آل مروان ودويا هائلا . فبعد أن تسنى لعبد الملك ابن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد باقصائه آل الزبير عن منصة الحكم والامرة ، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها ، لذلك اتبع سياسة القسوة والشدة تجاه أهل العراق ، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد ، خصوصا في ولاية الحجاج بن يوسف .
ونهج خلفاؤه عين خططه دون أي شذوذ مع تصلب بالغ كأبن هبير ،
وخالد بن عبد الله القسري ، ويوسف بن عمر .
فترى مما تقدم أن من المستحيل افساحهم المجال بأن يشيد بناء على قبر الحسين (ع) ويكون موضعا للتعظيم والتقدير . مما يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت ، والتنكيل بشيعتهم .
وان سلمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك لورود لفظ الباب ، من الممكن أن نقول ( أي وجود بناء ) في الفترة بين سنة أربع وستين لاحدى وسبعين ، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرض لهم ، وبقائه ليوم ورود الحسين بن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس .
وورد خبر لا يوثق به ولا يعول عليه ، من أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنا على القبر الشريف وأقام حوله قرية (6) . وقيل ان سكينة بنت الحسين (ع) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أم التوابون ( عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الورده ) التربة الزاكية . وازدحموا على القبر
كأزدحام الناس على الحجر الأسود (7) . لم يكن حينذاك ما يظل قبره الشريف أي ساتر . واستقصوا أمد البقية من الفترة ، المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، ومصعب ، وابن أخيه حمزة . فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (ع) عن السجاد علي والباقر (8) محمد بن علي (ع) ( لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية ) يشفان عن خوف ووجل .
ومما يؤيد وجود بناء بسيط ( بل له بعض الشأن ) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين بن بنت أبي حمزة للزيارة ما جاء من الأفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق سلام عليه لجده الحسين (ع) (9) حيث يقول في خبر . . . . بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات . فتتوجه الى القبر حتى تدخل الحير من جانبه الشرقي وتقول . . . . ثم اذا استقبلت لقبر . . .ٌثم أجلس عند رأسه الشريف . . . . ثم تحول عند رجليه . . . ثم تحول عند رأس علي بن الحسين . . . . ثم تأتي قبور الشهداء (10) وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق سلام الله عليه : اذا أتيت باب الخير
فكبر الله أربعا وقل . . . . (11) وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ اليهم وتقول . . . . (12) . وفي خبر صفوان الجمال عن الصادق (ع) يقول : فاذا أتيت باب الحائر فقف وقل ، ثم تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس وقل . . . . ثم اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (ع) . وقل . . . . ثم توجه الى الشهداء وقل (13) . وفي خبر آخر عن صفوان يقول فاذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل . . . . ثم ادخل رجلك اليمنى القبر وأخر اليسرى ، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل . . . . (14) . وهذا ما يدلك على ان له بابا شرقيا وغربيا .
فخلاصة القول ان المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق سلام الله عليه .
ومع هذا فقد كان الأمويون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين اليه من زيارته . ولم يزل القبر بعد سقوط بني امية وهو بعيد عن كل انتهاك وذلك لانشغال الخلفاء العباسيين بادارة شؤون الملك . ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بارجاع سلطة الهاشميين . وهو غير خفي ان القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان ، وأكثر هؤلاء ان لم نقل كلهم كانوا من أنصار آل البيت .
ولما رسخت قدم العباسيين في البلاد وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (ع) . ولكنها كانت خفيفة الوطأة أيام السفاح ، فتوارد الزائرون لقبر الحسين من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهارا . واشتدت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن (15) . وخفت ثانية في أيام المهدي والهادي ، فلما كانت أيام الرشيد (16) ، وكانت قد استقرت الأوضاع وثبتت دعائم الحكم وقضت على ثورات العلويين بما دبرته من طرق الغدر والخيانة . فأرغمت أنوفهم الحمية وأخمدت نفوسهم الطاهرة فأرادت القضاء عليهم في محو قبور الحمية وأخمدت نفوسهم الطاهرة فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم فسلكوا سلوك بني أمية اذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء الى تعيين موضع القبر وتعيين محل الحفرة منها السدرة ، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها (17) ثم وضع المسالح على حدوده الى أن انتقل الى طوس ومات فيها . فلم يتتبع الأمين ذلك لما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل ، فاغتنموا الحال وبادروا الى تشييد قبره الشريف وقد اتخذوا عليه بناء عاليا .
ولما جاء دور المأمون وتمكن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء واستنشقوا ريح الحرية . ولم يتعرض لذلك . وكان المأمون يتظاهر بحبه لآل البيت حباً جماً حتى انه استعاض بلبس السواد وهو شعار العباسيين بلبس الخضرة وهو شعار العلويين وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا
ابن موسى الكاظم (ع) ولعل ذلك كيد منه وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الامين واسترضاء لمناصريه الخراسانيين . وقد زعم البعض انه هو الذي شيد قبره الشريف وبنا عليه لهذه الفترة (18) وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور الى قبر الحسين (ع) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المائة حين قام ببيعة محمد بن ابراهيم بن اسماعيل طباطبا بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن السبط دليل على تشييد قبر الحسين (19) بعد مضي الرشيد الى طوس .
وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتى قام حول قبره الشريف سوقا واتخذت دورا حوله وأخذ الشيعة بالتوافد الى قبره للسكنى بجواره الى أن كان من المغنية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف ، وكانت تبعث بجواريها الى المتوكل قبل أن يلي الخلافة يغنين له اذا شرب وقد بعث اليها بعد استخلافه ، فأخبر بغيبتها . فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكل لها . فبعثت اليه بجارية وكان يألفها فقال لها أين كنتم . قالت : خرجت مولاتي الى الحج وأخرجتنا معها . فقال الى أين حججتم في شعبان . قالت : الى قبر الحسين (ع) فأستطير غضبا (20) وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان . فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنية ـ وكان الديزج يهوديا قد أسلم ـ الى قبر الحسين وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه وهدم كل ما حوله من الدور والأسواق فمضى لذلك وعمل بما أمر به وقد حرث نحو ماءتي جريب من جهات القبر . فلما بلغ الحفرة لم يتقدم
اليه أحد . فأحضر قوما من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء عليه (21) فحار الماء عند حدود قبره الشريف (22) ، ثم وكل به المسالح بين كل مسلحتين ميل ، ولا يزوره أحد الا وأخذوه ووجهوا به الى المتوكل (23) فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم ، لما طرأ على قبره من الجور ولم يعهد مثله الى هذا الحد . فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة فوطن نفسه على المخاطر وساعده رجل من العطارين فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتى بلغا الغاضرية وخرجا منها نصف الليل فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتى دنا من القبر الشريف . فخفى عليهما موضعه فجعلا يتحريان موضع القبر حتى أتياه وقد قلع الصندوق الذي كان عليه واحرق ، وفي الموضع اللبن ، قد خسف وصار الخندق فزاراه وانكبا عليه وقد شما من القبر رائحة ما شما مثلها قط من الطيب . فقال الاشناني للعطار أي رائحة هذه فقال والله ما شممت مثلها بشيء من العطر . فودعاه وجعلا حوله علامات في عدة مواضع . وبعد قتل المتوكل حضر مع بعض الطالبيين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر الى ما كان عليه أولا .
وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر . وكان هذا محبا لآل البيت مقربا لهم رافعا مكانتهم معظما قدرهم . ومن حسناته اليهم انه شيد قبر الحسين (ع) . ووضع ميلا عاليا يرشد الناس اليه (24) . وذلك في عام السابع والأربعين بعد المائتين . ولم يهدم بناء المنتصر ظلما لعدم تعرض أخلافه له . لما ظهر من الوهن في دولتهم ، وانحلال أمرهم وتسلط الأتراك عليهم ، وانشغالهم بأنفسهم ، وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة . وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا
____________
(21) نفس المصدر ص 386 .
(22) نفس المصدر ص 386 .
(23) نفس المصدر ص 387 .
(24) فرحة الغري لعبد الكريم بن طاووس .
--------------------------------------------------------------------------------
( 68 )
الملوك والأمراء والوزراء ، والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهرة ، وأنفقه على العسكر ، واعتذر بأن القبر لا يحتاج الى الخزانة (25) . الا انه لم يتعرض للبناء ولم يمسه لقصور يده وضعف شأنه لا لشيء آخر .
وكان البناء الذي شيد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومائتين (26) . فقام الى تجديده محمد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي (27) لسنة ثلاث وثمانين ومائتين (28) . وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر اياه بالعروج الى مدراج العمران يوما بعد يوم حيث أمن الناس من اتيانه واتخاذ الدور عند رمسه .
وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة ( 370 هـ ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها (29) وكان آل بويه يناصرون الشيعة . وقد استحفل التشيع على عهدهم حتى ان معز الدولة أمر سنة 352 باقامة المآتم في عاشوراء ، وكان ذلك أول مأتم اقيم في بغداد .