الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام أمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله.
جده خير البرية ومنقذ البشرية النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وهو السبط الأول له .
الإمام الحسن عليه السلام ثمرة النبوة والإمامة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
الإمام الحسن عليه السلام أحد من طهرهم الجليل بقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} سورة الأحزاب(33) وأحد ذوي القربى الذين أوجب مودتهم ومحبتهم بقوله {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (23) سورة الشورى، وأنزل فيهم أكثر آيات سورة هل أتى .
الإمام الحسن عليه السلام أحد عترة الرسول التي خلفها في أمته التي نص عليها حديث الثقلين وحديث السفينة.
الإمام الحسن عليه السلام هو أحد سيدي شباب أهل الجنة وهو الإمام إن قام وإن قعد وهو ريحانة رسول الله من الدنيا، الإمام الحسن عليه السلام هو الإمام الحسن.
الإمام الحسن عليه السلام كأخيه الإمام الحسين عليه السلام في الفضائل والعظمة والسؤدد، وهما صاحبا رسالة ومسؤولية وأمانة قد أدياها على أحسن وجه.
الإمام الحسن عليه السلام مظلوميته لا تقل عن مظلومية أخيه الإمام الحسين عليه السلام، فهما إمامان قاما أم قعدا.
الإمام الحسن صاحب رسالة:
كثير ممن جانب الصواب تصور أن الإمام الحسن عليه السلام قد أخفق في تصرفاته أو مواقفه من الحرب والسلم مع أعدائه ، أو أن سياسته غير حكيمة، فهو صاحب رسالة قد تحملها وأداها وكان أنصح خلق الله لخلقه وكان يعرف عواقب الأمور فيما أقدم عليه من هدنة مع معاوية وها هو يتكلم عن نفسه بنفسه في حرصه على الأمة الإسلامية ولم شملها فيقول من خطبة له:
(أمَّا بعدُ: فَو اللهِ إنِّي لأرجو أن أكونَ قد أَصبحتُ - بحمدِ اللهِ ومَنِّهِ - وأَنا أنصحُ خلقِ اللهِ لخلقهِ، وما أصبحتُ محتملاً على مسلمٍ ضغِيْنةً، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلةً، ألا وَإِنَّ ما تَكرهُون في الجماعةِ خيرٌ لكم ممّا تحبُّون في الفُرقةِ، أَلا وإِنِّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظِركم لأَنفسكم، فلا تُخالِفوا أمري، ولا تَرُدُّوا عليَّ رأَيي غفرَ اللهُ لي ولكم، وأَرشَدَني وإِيَّاكم لما فيه المحبّةُ والرِّضا)[2].
ونخلص من كلامه هذا بعدة أمور:
1- أن ما قام به عليه السلام طيلة حياته وبالأخص فيما يرجع إلى الهدنة مع عدوه إنما كان من باب الحفاظ على الأمة وصيانتها عن كل ضعف والنصيحة لها.
2- أن الإمام الحسن كبقية الأئمة عليهم السلام قد كانوا لكل الأمة ولم يكن أحد منهم لطائفة دون أخرى ولم يكونوا لشيعتهم ومحبيهم فحسب، بل أن إمامتهم ونصحهم وإرشادهم ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة لكل أفراد الأمة استجاب منها من استجاب ونكص منها من نكص فقد عاشوا لله وماتوا لأجل الله والأمة.
3- لم ينصب أحد من الأئمة عليهم السلام لأحد من المسلمين غائلة ولم يحمل أحد منهم لمسلم حقداً أو ضغينة أو سوءاً فهم كجدهم رسول الله في أعلى مكارم الأخلاق.
4- يدعو الإمام الحسن عليه السلام شيعته ومحبيه إلى الوحدة الإسلامية وسعة الأفق وعليهم أن ينظروا إلى المصلحة العامة ويقدموها على المصلحة الخاصة وأن لا يتبعوا الهوى ويذكرهم عليه السلام أن الحفاظ على الوحدة الإسلامية واجتماع الأمة من الأمور الواجبة المهمة التي يجب على شيعته أن يقوموا بها حتى وإن أدى بهم لارتكاب ما يكرهونه من هوى النفس أو يتصورونه من المصالح الفئوية والشخصية فإن كل ذلك لا يبرر مجانبتهم للوحدة الإسلامية .
5- أن الإمام الحسن عليه السلام يحذر شيعته ومحبيه وأتباعه مما يؤدي إلى الفرقة بين الأمة الإسلامية وضعفها فإن مثل هذه الأمور من المحرمات في الشريعة الإسلامية وأن الفرقة بين طوائف المسلمين خلاف مصلحتكم كمتابعين لنا حتى وإن كنتم تتصورون أنها من مصلحتكم المذهبية أو الفئوية أو الشخصية ، كما في النزاعات العقيمة بين طوائف المسلمين فيقول عليه السلام: (ألا وَإِنَّ ما تَكرهُون في الجماعةِ خيرٌ لكم ممّا تحبُّون في الفُرقةِ) وقد روي مثل هذا الكلام عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا الأمر وسابقه لا ينحصر بزمان حضور الإمام بل شامل لزمان الغيبة أيضاً.
6- الإمام الحسن عليه السلام على بصيرة من أمره ويقين بالله فيما قام به من هدنة وإن هذا هو المصلحة العامة للأمة الإسلامية وجمع صفوفها، وخاطب مخالفيه من أتباعه وشيعته بقوله (أَلا وإِنِّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظِركم لأَنفسكم) فلماذا هذه المخالفة والإصرار على ما عملته لكم.
7- أن كلامه عليه السلام ينبئ أن عدداً من أصحابه كانوا مخالفين له الرأي ولم يقبلوا بالهدنة بينه وبين معاوية ومع هذا كان يحاورهم باللين والمحبة ويحاول إقناعهم بالتي هي أحسن فيقول عليه السلام (فلا تُخالِفوا أمري، ولا تَرُدُّوا عليَّ رأَيي غفرَ اللهُ لي ولكم، وأَرشَدَني وإِيَّاكم لما فيه المحبّةُ والرِّضا) إن مثل هذا الكلام من الإمام الحسن عليه السلام النابع من حرصه على المصلحة العامة وتحمله من أصحابه والمقربين إليه مع تلك المواقف المؤلمة التي قد جابهوه بها وهو يداريهم ويبسط لهم كلام المحبة والدعاء لهم بالمغفرة والرضوان.
الإمام الحسن عليه السلام الرجل المظلوم:
مرَّ الإمام الحسن عليه السلام بأزمات ومصائب ومِحَن لا تقل عن الأزمات التي مرّ بها أخوه الإمام الحسين عليه السلام ويكفيه أن جملة من أصحابه والمقربين إليه ومن قواد جيشه خذلوه بل كاتبوا عدوه وأوعدوه أن يسلموه الإمام الحسن يداً بيد.
إن ظلامة الإمام الحسن عليه السلام لا تقل عن ظلامة أخيه سيد الشهداء وقد ظلم من شيعته ومحبيه والمقربين إليه كما ظلم من أعدائه ومبغضيه، إن من خاطبه منهم بقوله (السلام عليك يا مذل المؤمنين) قد أدخل على قلبه الحزن والأسى، إن هذه الكلمة لا تقل ألماً عن السيوف والرماح والنبال التي أصابت جسده، والسم الذي قطع كبده.
ومع هذا كله فقد كان في أعلى درجات التوكل على الله، قيل له: إن أبا ذر كان يقول: الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة.
فقال عليه السلام: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له[3].
وقال عليه السلام: الخير الذي لا شر فيه، الشكر مع النعمة، والصبر على النازلة [4].
الفرق بين المحبة والتشيع في نظر الإمام الحسن عليه السلام:
التشيع: مأخوذ من المشايعة والمتابعة في القول والعمل والامتثال بأوامر المتبوع والانتهاء بنواهيه، وهذا المفهوم في نظر أئمة أهل البيت عليهم السلام من المفاهيم المهمة المتميزة ومن المراتب العالية الشريفة التي يجب على مدعيها أن يكون صادقاً فيما يدعيه كما أن هذا المفهوم أرفع درجة من مفهوم المحبة فإن أكثرية الأمة الإسلامية إن لم يكن كلها تحب قربى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بنص آية المودة: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (23) سورة الشورى.
وإن كانت المحبة تختلف شدة وضعفاً ومن شخص إلى آخر ومن فئة إلى أخرى وهنا يوضح الإمام الحسن عليه السلام أهمية صدق دعوى التشيع لمن يدعيها وينتسب إليهم فقد يكون المسلم يدخل في المحبين ولكن ليس من المتشيعين.
فقد قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام إِنِّي مِنْ شِيعَتِكُمْ !!! .
فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَنَا فِي أَوَامِرِنَا وَزَوَاجِرِنَا مُطِيعاً؛ فَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنْ كُنْتَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ فَلَا تَزِدْ فِي ذُنُوبِكَ بِدَعْوَاكَ مَرْتَبَةً شَرِيفَةً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا لَا تَقُلْ لَنَا أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ وَلَكِنْ قُلْ أَنَا مِنْ مُوَالِيكُمْ وَمُحِبِّيكُمْ وَمُعَادِي أَعْدَائِكُمْ وَأَنْتَ فِي خَيْرٍ وَإِلَى خَيْرٍ[5].
وقَالَ رَجُلٌ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ.
قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَدَّعِيَنَّ شَيْئاً يَقُولُ اللَّهُ لَكَ كَذَبْتَ وَفَجَرْتَ فِي دَعْوَاكَ إِنَّ شِيعَتَنَا مَنْ سَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَغِلٍّ وَدَغَلٍ وَلَكِنْ قُلْ أَنَا مِنْ مُوَالِيكُمْ وَمُحِبِّيكُم[6].
فمفهوم التشيع أخص من مفهومي المحبة والموالاة، وهذا التصحيح قد ورد أيضاً عن رسول الله وفاطمة وعلي بن الحسين والرضا عليهم السلام.
الحملة التشويهية على الإمام الحسن:
تميزت شخصية الإمام الحسن عليه السلام بقوة الحملة التشويهية والتسقيطية له في حال حياته والأكاذيب والتهم عليه بعد وفاته حتى نسبوا له الأمور الخيالية التي لا يصدق بها العقل ولا يقبل بها الذوق السليم والتي لا تتفق مع سائر الرجال فضلا عن عظمائهم ككثرة الزواج والطلاق، والسرف والبذخ وغيرها الكثير.
الحملة التشويهية على رسول الله:
قبل 3 سنوات حصلت حملة تشويهية لرسول الرحمة والمحبة والإنسانية نبي الخير للبشرية نبينا وحبيب قلوبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وفي عموم العالم المستعمِر والمستكبر بصورة عامة وفي الدانمرك بصورة خاصة ولأسباب عديدة ومختلفة، وفي هذه الأيام تعاد الكرة مرة أخرى في 17 صحيفة دانمركية في إعادة الرسوم الكروكتورية التي نشرت سابقة وبحجة حرية التعبير عن الرأي ومناصرة من رسمها حيث هدد من قبل بعض المسلمين.
بعض الأسباب:
إن الأسباب التي تقف وراء هذه الإهانات لأكبر نبي من أنبياء الله وأحبهم للناس ولإهانة أكثر من مليار مسلم من أتباعه في العالم عديدة ومختلفة؛ منها:
1- محاربة الإسلام والمسلمين حيث انتشر المسلمون في أرجاء العالم وأصبح الناس يبحثون عن الإسلام الذي يحل مشاكل العالم.
2- الأحقاد القديمة التي يحملها أسلافهم المستعمرون.
3- ضعف المسلمين وتفرقهم فيما بينهم.
4- عدم تقديم الإسلام على حقيقته للعالم، ذلك الإسلام النقي المنفتح على العالم.
ما هو الحل المطروح:
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ ما هو الحل في العاجل والآجل لمثل هذه التعديات على نبي الإسلام ورسالته الخالدة ومبادئه الحقة؟!.
وهنا لا بد في الإجابة على مثل هذا السؤال من ملاحظة الحالة المستعجلة الملحة الآن، وملاحظة الحالة المستقبلية المستمرة:
الحل العاجل السريع:
1- أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يعرفون إلا المادة والمصالح الاقتصادية وحينئذ على المسلمين أن يشعروا بكرامة نبيهم والحفاظ عليها فيقوموا بتفعيل المقاطعة التي بادروا إليها قبل 3 سنوات.
2- الاستنكار في وسائل الإعلام المختلفة.
الحل على المدى البعيد:
1- الوحدة الإسلامية: فلا عزة ولا كرامة ولا قوة ولا منعة لهذه الأمة إلا بوحدتها وتراص صفوفها ولن يهابها أحد من الأمم مع ضعفها وتناحرها.
2- التفكير طريق السعادة:
علينا أن نشغل عقولنا وقدراتنا للمستقبل وعلينا أن نفكر بكل جدية فإن تطور الحركة العلمية والفكرية سريع أكثر مما نتصور، قال الإمام الحسن عليه السلام: لا أدب لمن لا عقل له، ولا مودة لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك سعادة الدارين ومن حرم العقل حرمهما جميعا[7].
3- الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات العلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية، فمادامت هذه الأمة متخلفة وتمد يدها إلى غيرها في كل ما تحتاجه فسوف تصبح أسيرة لمن تحتاجه، وقد أخبرنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بحكمته الرائعة التي فقأت عين البلاغة بقوله: (احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغني عمن شئت تكن نظيره) فهذه معادلة واقعية على مختلف المستويات الفردية والاجتماعية والدولية فمن يحتاج إلى غيره فهو أسيره، وأما إذا استغنى عن غيره فسيصبح نظيره وسوف يقف إلى صفه.
وفي ما يلي أنقل لكم حادثة نقلها التاريخ في أهمية الاستقلال الذاتي والتي كان يحرص عليها الإسلام وقادته الميامين منذ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا:
قصة الإمام الباقر عليه السلام مع عبد الملك بن مروان حول بداية ضرب الدراهم الإسلامية، وكان ذلك سنة 85 هـ بإرشاد من الإمام الخامس (محمد بن علي بن الحسين الباقر) عليهم السلام في قصة طويلة ذكرها الدميري في كتابه حياة الحيوان، الجزء 1ص 63 عن كتاب (المحاسن والمساوي) لإبراهيم بن محمد البيهقي، ونحن ننقلها عن البيهقي صاحب المحاسن والمساوي، وإليك نص الخبر:
قال الكسائي: دخلتُ على الرشيد ذات يوم، وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير، قد شَقَّ عنه البِدَر شقا[8]وأمر بتفريقه في خدم الخاصَّة، وبيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله، وكان كثيرا ما يحدثني.
فقال: هل علمتَ أول من سَنَّ هذه الكتابة في الذهب والفضة؟
قلت: يا سيدي هذا عبد الملك بن مروان.
قال: فما كان السبب في ذلك؟.
قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.
فقال [الرشيد]: سأخبرك. كانت القراطيس للروم[9]، وكان أكثرُ مَنْ بمصر نصرانياً على دين الملك، ملك الروم، وكانت[10] تطرز بالرومية[11]وكان طِرازها: أباً وابناً وروحاً قَديساً. فلم يزل كذلك صدر الإسلام كلّه يمضي على ما كان عليه إلى أن مَلِكَ عبد الملك بن مروان فتنبه عليه وكان فطناً.
فبينما هو ذات يوم إذ مرَّ به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية فَفُعِلَ ذلك فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهو تحمل في الأواني والثياب وهما تعملان بمصر، وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها: من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، وأهله ، تخرج منه هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرّزت بشرْكٍ عليها!!
فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرّز به: من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأخذ صُنَّاع القراطيس بتطريزها بصورة التوحيد وشَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهذا طراز القراطيس خاصّة إلى هذا الوقت[12]لم ينقص ولم يزد ولم يتغير.
وكتب إلى عُمّال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.
فلما أُثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحُمِل إلى بلاد الروم منها، انتشر خبرُها ووصل إلى مَلِكهم فَتُرْجِمَ له ذلك الطراز[13]فأنكره وغلظ عليه، واستشاط غيظاً، وكتب إلى عبد الملك: إنّ عمل القراطيس بمصر، وسائر ما يطرّز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته؛ فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطئوا. فاختر من هاتين الخُلّتين أيتهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهديّة تشبه محلّك، وأحببتُ أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهديّة، وكانت عظيمة القدر.
فلمّا قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهديّة. فانصرف بها إلى صاحبه.
فلما وافاه أضعف الهدية، ورد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننُتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي فأضعفتُ لك الهدية، وإنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولا.
فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يُجبه وردّ الهدية.
فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: "إنك قد استخففتَ بجَوَابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللتَ الهدية فأضعفتُها فجريتَ على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلفُ بالمسيح لتأمرنّ، برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لآمرنّ بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي. ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام. فينقش عليها مِنْ شَتْمِ نبيّك ما إذا قرأتَه أرفض جبينك له عرقا، فأحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها ونبقى على الحال بيني وبينك".
فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلُظ عليه وضاقت به الأرض، وقال:
أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيتُ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، و لا يمكن مَحْوُهُ من جميع مملكة العرب: إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.
وجمع[14] أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به.
فقال له رَوْح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه.
فقال: ويحك مَنْ؟
قال: الباقر من أهل بيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم!.
قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه.
فكتب إلى عامله بالمدينة: " أن أشخص إليّ محمداً بن علي بن الحسين مكرماً، ومتعة بمائتي ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته وأزِحْ علته في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه".
واحتبس الرسول قِبَله إلى موافاته عليّ. فلما وافاه أخبره الخبر.
فقال [الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام]: له عليَّ لا يعظمنَّ هذا عليك؛ فإنه ليس بشيء من جهتين:
(إحداهما) أن اللَّه عز وجل لم يكن ليطلق ما يُهددك به صاحب الروم في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
(والأخرى) وجود الحيلة فيه.
فقال [عبد الملك]: وما هي؟
قال [الإمام الباقر]: تدعو في هذه الساعة بصُنّاع يضربون بين يديك سِكَكاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني.
وتجعل في مَدَار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة التي تكون العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا إحدى وعشرين مثقالا، فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة وزن سبعة مثاقيل. وتصب سنجات [قوالب] من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان. فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
- إلى أن قال - ففعل عبد الملك ذلك. وأمره محمد بن علي الحسين (الباقر عليهم السلام) أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد على السكك الإسلامية.
ففعل ذلك عبد الملك، ورد رسول ملك الروم، وقال له:
إن اللَّه عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار الأرض بكذا وكذا، وبإبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهدد به ملك العرب.
فقال: إنما أردتُ أن أغيظه بما كتبت إليه، لأني كنت قادرا عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأما الآن فلا أفعل، لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال، وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم[15]. أي إلى أيام الرشيد العباسي.
فهذه الحادثة تثبت أن العامل الأساسي في ردع العدو:
1- التوازن في القوى.
2- الاكتفاء الذاتي عن الأعداء في الجانب الاقتصادي .
3- الاكتفاء في الجانب العلمي والفكري والثقافي حتى نتمكن أن نكون كبقية الأمم إن لم نكن أفضل منها.
قال الإمام الحسن عليه السلام لبنيه: تعلموا العلم فإنكم صغار القوم وكبارهم غدا، ومن لم يحفظ منكم فليكتب[16].
وقال عليه السلام: علم الناس، وتعلم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم[17].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين