ان موسم عزاء الحسين من المواسم التى من الممكن تحويلها من مجرد مناسبة إحياء ذكرى إمام شهيد ، الى محطة من محطات التكامل والتى يحتاجها كل مؤمن في حركة حياته .. فكما ان قوى الشر في عالم الوجود من : الشيطان ، والنفس الامارة ، وبطانة السوء تسعى لصرف العبد عن طريق الطاعة لرب العالمين ، فكذلك قوى الخير في عالم الوجود ايضا تسعى لدفع العبد الى عالم القرب الالهى والمتمثل بـ : رب الوجود الذى خلق الخلق لكى يُعرف ، وبالفطرة السليمة التى اودعها في طينة الخلق ، والجماعة الصالحة التى عبرعنها في القران الكريم بالفتية الذين امنوا ، والامة الداعية الى الخير ، وخير امة اخرجت للناس .. وبعد هذه المقدمة الموجزة نذكر بعض التوصيات في هذا المجال ، عسى ان يشفع لنا الحسين عند ربه وهو الشهيد المرزوق، والشفيع المشفع :
1- ان كل حركة عبادية او شعائرية تحتاج الى رصيد فكرى داعم لها أولا ، ومزود لحركتها ثانيا ، وحافظا لها من كل انحراف ثالثا .. وعليه لا بد لتحقيق تلك الاهداف من استيعاب حقيقة الامامة أولا ، وظيفة الامام ثانيا ، وفلسفة النهضة الحسينية ثالثا ، إذ أن باستيعاب هذه المعانى يصل الانسان الى درجة التفاعل الواعى ، والا فان البكاء على مظلوم من دون معرفة انتسابه الى مصدر الوجود ، لا يصب في تغيير مسيرة العبد وسوقه الى عالم الكمال ، فكم من المظلومين قتلوا بغير حق من شتى الملل ، فان من لوازم حب المولى حب أحبائه ، والتألم لما جرى عليهم .. وهذه من لوازم الحب البديهية .
2- انه لا بد من استيعاب فلسفة الحركة الحسينية من بداياتها الى نهاياتها ، والمتمثلة بتحقيق العبودية الشاملة لله رب العالمين .. فان سيد الشهداء كان كما أراد والده على لهجا بذكر الله تعالى كما كان متيما بحبه ، وهو ما تجلى منذ صغر سنه ، الى سنوات مرافقته لأبيه ، الى حكومة اخيه الحسن ، الى حركته من المدينة الى كربلاء ، الى ان قضى نحبه في ميدان المعركة .. فكان همّ القرب الالهى هو الغالب على كل حركاته صلوات الله تعالى عليه ، ومن هنا جعل ساعة مقتله ساعة المناجاة مع رب الأرباب ، وحول موضع مقتله الى محراب للعبادة ، حيث لخض فلسفة حياته ومماته بقوله : ( الهى رضى بقضائك ، وتسليما لامرك ، لا معبود لي سواك ) .. فعلى كل من يدعى الولاء الحسينى ، ان ينظر الى هذا الشعار الحسينى ، ويرى مدى مدى مطابقة حركته في الحياة لهذا الشعار المقدس .
3- ان موسم عاشوراء بل محرم ، بل شهرى العزاء ، بمثابة الرياح الموسمية الدافعة للسفينة الى الأمام ، فاذا كانت هنالك سفينة راسية غير مثقوبة الجوانب، وشراع مرفوع غير ممزوقة الأطراف ، فان الرياح الموسمية تدفعها الى الأمام ، ولكن ما بال سفينة فاقدة لما ذكر، فان الرياح قد تضرها أكثر مما قد يفيدها .. فعلى كل فرد منا ان يجهز سفينته قبل المواسم ، لتاتى الرياح ببركاتها المعهودة .
4- ان الالتفات الى فقه الآفات ضرورى جدا لضمان نجاح الوصول الى الاهداف المنشودة في الحياة ، ولا شك ان الحركة العاطفية مما يمكن ان تبتلى بالآفات ايضا ، فمن الافات ترضية النفس بالحركة العاطفية التى لا تستلزم كثيرا من العناء عند الإحساس بالتقصير ، وبالتالى يتقاعس العبد عن الحركة التغييرية العملية ، والتى تحتاج الى شيئ من المعاناة والمجاهدة .. ومنها اقتراب النفس من دائرة العجب ، فان الذى تمر عليه الحالات الروحية المتألقة ، قد يظن انه وصل الى دائرة القرب من الحق المتعال ، ووصل الى نهايات المطاف ، والحال ان المقياس الاول والاخير في هذا المجال هو الرصيد العملى الذى له خلفية عاطفية لا خلفية مجردة من كل رصيد .
5- ان من المشاكل التى يعانى منها كل الذين وفقهم الله تعالى لاحياء ذكر أبى الاحرار انهم يفقدون معظم المكاسب الروحية بعد انتهاء الموسم مباشرة في اغلب الاحيان ، ولا شك ان هذه خسارة كبرى ، وهي ان يتراجع العبد عما كان عليه ، والحال ان من تساوى يوماه فهو مغبون في فكر اهل البيت .. والحل الاساسى هو ايصال هذا الماء الرويّ الى جذور النفس ، لا تندية التربة المحيطة بالشجرة ، والحاصل في غالب الاوقات هو الثانى لا الاول .. اما كيف نوصل ماء التوحيد والولاية الى اعماق النفس ، فيحتاج الى حديث مفصل في محله ، ولكن مجمله يتلخص في امرين : ازالة عوائق ايصال المدد في النفس ، من ترك المعاصى والذنوب ، ومن التعرض للنفحات الالهية ، فان الله تعالى يختص برحمته من يشاء ، وهذه المشيئة ليست جزافية أبدا ، فلها قواعدها التى تكتشف من خلال ممارسة الطاعة ، والاستلهام من رب الارباب .
6- ان من السمات البارزة في حركة الحسين هو حمله لهموم الامة ، والا فلو كان همه الوحيد التقرب الفردى الى الله تعالى ، فان روضة جده المصطفي كانت له نعم الصومعة ، ليعكف على عبادة فردية الى آخر عمره المبارك ، ومن المعلوم ان السلطة الحاكمة آنذاك لم تكن تتأثر بهذه الحركة بل قد تشجعه عليه ، لتأمن هذه الوجود الذى كان يمثل قمة الامتداد لخط اهل البيت ولكنه الحسين الذى لا يرى اثنينة بين العبادة في الخلوات ، والجهاد في الجلوات ، وهو تربية على حيث يقول عن خاصة أولياء الله تعالى طالبا منه نحقيق هذه الامنية : ( فتاجيته سرا وعمل لك جهرا ) .. وعليه فان من مصاديق التأسي به ، هو ان نحمل هموم الامة في جوانحنا ، بالاضافة الى كل ما يتعلق بالجانب التوحيدى من المحبة الالهية ، ومن الممكن ان يتجلى ذلك من خلال الدور الاجتماعى الفاعل في حركة حياة الامة ، ومن المعلوم ان هذا الدور يختلف من مرحلة الى مرحلة ، ومن فرد الى فرد ، ومن بيئة الى بيئة ، والجامع لذلك كله هو ان يبحث الفرد بموضوعية ونزاهة عما يقربه الى الله تعالى في خلقه ، وهذا معنى السفر الى الحق بالخلق في الخلق ، وهى صورة موازية للسفر الى الخلق بالحق ومع الحق .
7- ان العطاء الحسينى كشعاع الشمس منتشر في عالم الارواح كانتشار نور الشمس في عالم التكوين ، ولكن كما أن الإنتفاع باشعة الشمس يحتاج الى التعرض لها ، فكذلك الامر في عالم الارواح ، فان من يريد الهبات الالهية من خلال عبده الشهيد ، لا بد له من التعرض لتلك النفحات من خلال مجانبة المعاصى واتقان الواجبات ، فان القوم ما وصلوا الى درجات القرب الا من خلال العبودية المستوعبة لكل شؤون الحياة ، ومن هنا وصفنا في التشهد النبي بالعبودية ، قبل وصفه بالرسالة .. واخيرا أوصي اخواني بضرورة مخادعة النفس المتثاقلة في طريق الهدى ، بان ندعوها للالتزام الكامل ولو في موسم قصير، كالايام المعدودات في شهر رمضان المبارك ، والايام المعلومات في اشهر الحج ، وأيام العزاء في محرم الحرام ، ولا شك ان النفس اذا الفت الطاعة وتذوقت حلاوة القرب من المولى ، فانها لا يمكنها الانفكاك عن هذا العالم العلوي ، الذى لا يمكن قياسه الى العالم الارضى ، بالمبتلى بالفناء والتصرم في كل شيئ ، اذ كل شيئ هالك الا وجهه الكريم .
اسال الله تعالى لنا ولكم ، ان يجعل موسمنا هذا خير موسم مر علينا بمنه وكرمه .