إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟
بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله .
إنك لو ألقيت على شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن .
إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (ع) أفضل منهاج تربوي ، وإنهم - بحق - أسمى قدوات الخير والفضيلة ، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوى حجة على سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة ، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق ، أوليسوا من البشر ؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة ، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم ؟ بلى ، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة ؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها .
والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً ، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتى أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي ، وكان على الشاعر دعبل أن يحمل على كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن ، ويهيم على وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت . ومع ذلك فإن ما تبقّى من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق .
ولأن عاش إمامنا الكاظم (ع) في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل ، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة ، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة على ما لم تصل إلينا وهي الأكثر .
أ - عبادته وزهده :
من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد ، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلى اللـه تعالى ، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي ، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون ، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة ، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول : ( دخلت على أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة (1) وسيف معلق ومصحف ) (2).
وكان (ع) يسعى إلى بيت اللـه الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله ، واجتهاده في العبادة ، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب ( 400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز ، عرفنا مدى تحمل الإمام للصعاب في سبيل اللـه .
يقول علي بن جعفر (ع) : ( خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً ) (3).
أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقى الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي :
“ روي أنه كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : اللـهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرر ذلك ، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك ، وكان يبكي من خشية اللـه حتى تخضلّ لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يفتقد فقراء المدينة “ (4) .
والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية ، هو السبب الذي بعثه اللـه به مقاما محموداً . وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّى بما لديه في سبيل تبليغها ، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة ، فهذا أحمد بن عبد اللـه ينقل عن أبيه فيقول : ( دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه :
“ اللـهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك ، اللـهم وقد فعلت فلك الحمد “ (5) .
أما قراءته للقرآن ، فيحدثنا عنها حفص ويقول : ( ما رأيت أحداّ أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (ع) ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً (6).
لقد علّمه القرآن الكريم أسمى القيم ، ومن أبرزها الإشفاق على نفسه ، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب ، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه .
بينما كان يرجو للناس كل خير ، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل ، بل كان (ع) يتقرب إلى اللـه بالإحسان إلى الناس ، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك ، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو)(7).