خلال ولاية الإمام الباقر عليه السلام، تعاقب على حكم العالم الإسلامي كلّ من الوليد وسليمان، ابني عبد الملك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد وهشام ابنا عبد الملك أيضاً. وكانوا إذا زار أحدهم المدينة، يحضرون للقاء الإمام الباقر عليه السلام، مراعاةً لقدره ومكانته بين المسلمين، كما كانوا يوجّهون له الدّعوات أحياناً للحضور إلى دمشق، وكانت غايتهم من ذلك إبعاده عن المدينة، فوجوده فيها كان يسبّب لهم القلق. ويخشون تأثيره على الناس. خاصةً وأنّ الحكم الأمويّ في تلك الفترة كان يميل إلى الضعف، وكانت تقوم جماعات في نواح وأطراف مختلفةٍ من البلاد تنازع الأمويّين وتخاصمهم. الأمر الذي خفّف الضغط عن الإمام عليه السلام، وأتاح للناس حرّيّة أكبر في زيارته والجلوس إليه والتزوّد من علومه ومعارفه. واستطاع أن يعقد المجالس كلّ صباح، ويقدّم فيها لتلاميذه شتّى أنواع العلوم والتربية الدينية. لهذا فإنّ الروايات التي وصلتنا عنه كثيرة جداً، وقد تقدّمت العلوم والمعارف في عصره حتى سمّي بالعصر الذهبيّ.
كما كان عصره، من ناحية أخرى، عصر يقظةٍ في صفوف المسلمين، وكان الناس قد أدركوا بعد خمسين سنةً من واقعة كربلاء أنّ الأموييّن يحكمون باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وأنّ مسلكهم كان بعيداً كلّ البعد عن الإسلام. وأنّ الرّجال العظام الذين قدّموا أرواحهم في سبيل توعية المسلمين وتقويم الانحراف، قد تركوا لهم دروساً بليغة واضحة المدلول، فقام المجاهدون في كلّ مكان، يرفعون لواء الثورة على الظلم والفساد، ومشعل ثورة كربلاء ينير لهم الطريق.
وفي هذا النطاق أعلن كثير من العلويّين الثورة، لكنّ ثوراتهم فشلت ولم تثمر، وحتى ثورة زيد بن عليّ، أخي الإمام الباقر عليه السلام، كان مصيرها الفشل، فقد تفرّق عنه الناس، وتركوه مع نفر من أصحابه الصادقين، يقارعون الطغاة ببسالة وإيمانٍ، حتى غلبتهم الكثرة، وقتل زيد وأصحابه. كان زيد رحمه الله ورعاً تقيّاً. وكان لمقتله وقع أليم على أخيه الإمام الباقر عليه السلام وأهله جميعاً.
وعلي أيّ حالٍ، فإلى جانب ما رآه الإمام الباقر عليه السلام من طغيان الأمويّين، شهد كذلك قيام طغاة بني العباس، وكما رفع أولئك لواء الإسلام كذباً، رفع هؤلاء لواء أهل البيت زوراً وبهتاناً، وصار أبو مسلمٍ وأبو سلمة وسفاح بني العباسا «مجاهدين ثائرين». حين تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم، حاول إصلاح أمور أفسدها من سبقه من حكّام بني أميّة، فأبطل لعن أميرالمؤمنين عليه السلام على المنابر. تلك الوصمة السوداء في تاريخ الحكم الأمويّ، كما أمر بإعادة «مزرعة فدك» إلى أهل البيت عليهم السلام، بعد أن انتزعت منهم إلى بيت المال، رغم معرفة الجميع بالحقيقة، وهي أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله كان قد أعطى هذه المزرعة الصغيرة نحلةً لابنته الزهراء عليها السلام. وهذا التصرّف السليم من جانب عمر بن عبد العزيز يلقي الضوء على وجهٍ من وجوه الإجحاف الكثير الذي لحق بآل الرسول صلى الله عليه و آله من بعده. كما أنّه من جانب آخر، أمر بإعادة تدوين الحديث الشريف، بعد أن حضر تدوينه لمدّة مئة عام كاملة، لكنّ عمر بن عبد العزيز كسر هذا الطوق عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه و آله.