[مصطفى الهادي]

(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).(1)
مصطفى الهادي.
يقول البعض: أن اليهود لا يُطالبون ولا يُريدون أحدا أن يدخل ملتهم. ولذلك فهذه الآية غير صحيحة.
أغلب الذين يُثيرون هذه الإشكالات لم يطلعوا ويتعمدوا عدم الاطلاع، اليوم عالم المعرفة رحب واسع جدا وفي كل يوم تُضاف أدوات جديدة تُسهّل عملية البحث . أصبح كل شيء في متناول اليد إلا النيّة الصادقة فأنها عند البعض بعيدة المنال.
اليهود لم يرفضوا من ينتمي لدينهم، ولكن الناس عزفت عنهم نظرا لسوء نواياهم وغموضهم وتسترهم مما يُثير الريبة في القلوب مثل قول إنجيل بولص : (اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا... بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي).(2) هذا النص المخيف جعلهم يتمددون إلى أغلب مفاصل الأديان والدول يخترقونها ويهيمنون على قراراتها عبر سلسلة من العملاء المأجورين أو اليهود المتسللين المنتحلين للديانة. فاليهود في واقعهم اليوم لا يحتاجون أن ينتمي لهم أحد فالمسيحية عمقهم فقد هيمنوا عليها منذ زمن بولص بعد رحيل السيد المسيح مباشرة. فقد وقفوا وراء كل عمليات التبشير والتنصير في المسيحية لجذب الأمم الأخرى للمسيحية التي صنعوها هم ، لأن المسيحية في جوهرها تعمل بالناموس (التوراة) بعد ان أتلف اليهود إنجيل عيسى.(3) ووضعوا نصا مفاده أن السيد المسيح قال (ما جئت لانقض الناموس بل لأكمل وأن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس).() إنجيل متى 5 : 17. و: إنجيل لوقا 16: 17.
وأما من يقول بأن اليهود لا يقبلون في دينهم أحد لأن ديانتهم قومية منغلقة خاصة بهم فهي لا تُرحب بغير الإسرائيليين (العبرانيين) اتباعا، فهذا ادعاء الصهيونية ومؤسساتها السياسية المتطرفة. وقد ثبت أن الديانة اليهودية تبشيرية شأنها شأن المسيحية والإسلام ،وهذا ما يؤكده الحاخام حاييم ناحوم حاخام اليهود في مصر): اليهودية دين يمكن أن يؤمن بها الفرنسي، والإيطالي، والمصري، وأي إنسان؛ فهي ليست قومية، وإنما هي دين، والدين لله والولاء للوطن).(4) ففي بداية دعوة موسى وما بعدها ، كان اليهود يُبشرون بدينهم وكتب الديانات الثلاث شاهدة على ذلك .
أن التوراة تشهد أن شعوبا بكاملها اعتنقت اليهودية مثل بابل وفارس كما نقرأ (وَصَارَ كَثيرٌ مِنْ شُعُوب تِلْكَ الأَرْضِ يَهُودًا).(5) وفي سفر يهوديت ، وإشعياء ، ويونان ، تجد نصوصا تدعو إلى جذب الناس للدين اليهودي وإقناع العالم قاطبة بقبول ديانة موسى.(6)
التلمود وحده يُعارض الانتماء للدين اليهودي كما ورد على لسان الحاخام (حليفو) الذين قال : (المتهودون أخطر على إسرائيل من الجرب).(7) وهذا رأي شخصي لا يُمثل اليهودية ولكن الكثير من المتطرفين يتبنون قوله هذا. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أقوال طبقة السنهدريم العليا ومنهم على سبيل المثال الحاخام أليعازار الذي كان حازما في مسألة انتماء الأمم لليهودية ، قال : (لم ينف المقدس تبارك إسرائيل بين الأمم إلا لكي ينضم إليها متهودون).(8) يعني النفي والشتات كان وسيلة للتبشير بديانة موسى .
والإنجيل أكد على لسان عيسى (ع) بأن اليهود في زمنه كانوا جدا متحمسين لجذب الآخرين لدينهم كما نقرأ في الإنجيل قوله لهم موبخا (ويلٌ لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون؛ لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا ومتى حصل تصنعونه ابنا لجهنم).(9)
الغريب حتى اليهود الغير متدينين علمانيين وغيرهم ـ الأمميين ـ يدعون الناس لليهودية، وهذا قديم جدا حيث ورد على لسان الرسول بولس شاول الطرسوسي حيث خاطب اليهود قائلا (إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميا لا يهوديا، فلماذا تُلزم الأمم أن يتهودوا؟).(10) الأممي هو الغير ملتزم بالدين ويشمل الأمم الوثنية أيضا. وقوله (تُلزم) أي تُكره وتجبر الأمم على التهود. ومع دعوة اليهود الحماسية لجذب الناس إلى دينهم إلا أننا نرى عزوفا وعدم استجابة وذلك بسبب الناموس اليهودي والتزاماته المعقدة. من ختان وقوانين الطهارة ومنع الاختلاط. إضافة إلى عجرفتهم وغرورهم وسمعتهم السيئة بقتلهم الأنبياء واستخدامهم لعمليات الاغتيال والعمل بالربا والتآمر والخبث والغدر، كل هذه الأمور أدت إلى ضعف الانتماء لليهودية مع حماستها ومغرياتها في جذب الناس إليها.
القرآن يؤكد بأن موسى (ع) بعثه الله تعالى إلى فرعون لهدايته إلى دينه: (اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لكإلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى).(11) إضافة إلى إيمان السحرة برسالة موسى (ع) (قالوا آمنا برب هارون وموسى).(12) وكذلك تأكيده تعالى على أن اليهود والنصارى كانوا مثابرين على نشر ديانتهم وأن من يعتنق ديانتهم برأيهم هو المهتدي (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا).(13) وهذا ما فعلوه مع النبي محمد (ص) فقد كان اليهود والنصارى يرجون أن يُصلي النبي إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا أن يوافقهم على دينهم. فاستخدموا طرق أخرى، منها إرسالهم لبعض الصحابة من حلفائهم بنسخ وأوراق من التوراة ولمرات عديدة ليعرضوها على النبي، حتى تضايق من ذلك وغضب وقال (ص) : (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي).(14) وفي رواية : ( جاء عمر بصحيفة فقال : يا رسول الله بعث إلي بهذه الصحيفة رجل من بني قريظة فيها جوامع التوراة أقرأها عليك فتغير وجه رسول الله ثم قال : والذي نفسي بيده لو أصبح اليوم فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم).(15) فغضب النبي هنا وتغير شكله نابع من دعوة اليهود له ولأصحابه بأن يعتنقوا اليهودية، ونظرا لكثرة توجه اليهود لدعوة المسلمين لليهودية قال رسول الله (ص) لأصحابه: (لو كان فيكم موسى فاتبعتموهُ وعصيتموني لدخلتم النار).(16) ومن هنا خاطب تعالى نبيه قائلا : (ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم).(17) وما ذلك إلا لحماسة اليهود الكبيرة للتبشير بدينهم في أوساط المسلمين.
وتدلنا حادثة المباهلة بأن أحد أهم مهامها هو إبطال مزاعم اليهود والنصارى بصحة أديانهم والحد من تبشيرهم بها على ضوء الدين الجديد الناسخ لديانتهم. فلا يجوز لهم بعد المباهلة التبشير بأديانهم ولذلك أمر النبي بإجلائهم من جزيرة العرب، وقاتل من وقف في طريق دعوته منهم.
واليوم لو نظرنا إلى اليهود في العالم لوجدنا أن حماسهم في العصور القديمة لنشر دينهم ، تسبب في اعتناق الكثير من الأمم لدينهم مثل الأفارقة ومنهم قبائل الفلاشا السود ــ أثيوبيا ــ. وكذلك يهود الصين ، ويهود روسيا ويهود اليمن والمغرب وتونس وتركيا، ناهيك عن يهود الخزر(18) والعرب والملايين في أوربا وأمريكا وكذلك البربر في شمال أفريقيا.(19)
كل هذه الدلائل تنفي قول من يزعم أن اليهود لا يطالبون ولا يُريدون أحدا أن يدخل ملتهم وأن قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).(1) صحيح وثابت تاريخيا ودينيا. وأنهم حتى زمن النبي (ص) كانوا يفعلون ذلك ويدعون الناس إلى اتباع دينهم.
المصادر :
1- البقرة آية : 12.
2- رومية 2. 28 : 29.
3- (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس ــ التوراة ــ. ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) إنجيل متى 5 : 17 ـ 18. هيمنة يهودية توراتية على رسالة عيسى (ع).
4- محمد أحمد محمود حسن (اليهودية التبشيرية في الكتب المقدسة)، ط. مكتبة النهضة المصرية، نشر مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع، القاهرة 1998م. ص 54.
5- سفر أستير 15 : 8 ــ 17.
6- كتاب (اختراع الشعب اليهودي) شلومو ساند، ص : 202. ترجمة سعيد عياش، ط. مكتبة الأهلية، عمان- الأردن، والمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (2011 ).
7- شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عياش، ط. مكتبة الأهلية، عمان- الأردن، 2011.
8- شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عياش، ط. مكتبة الأهلية، عمان- الأردن، 2011.
9- إنجيل متى 15 : 23. وهذا أكبر دليل على أن اليهود كانوا إلى عهد عيسى يُبشرون بحماس بدينهم.
10- رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 2 : 14.
11- النازعات آية : 18.
12- سورة طه آية: 70.
13- البقرة آية : 135.
14- مسند أحمد بن حنبل حديث رقم 15195.
15- الخطيب في آداب الجامع، حديث رقم : 1350.
16- رواه محمد بن هارون الروياني في مسنده حديث رقم 225.
17- سورة البقرة آية : 21.
18- على يد التجار اليهود اعتنق ملك الخزر الخاقان بولانوحاشيته والطبقة العسكرية الحاكمة الديانة اليهودية سنة 740م. ثم امر بأن تكون اليهودية ديانة الدولة. آرثر كيستلر، القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم ص : 23.
19- تاريخ ابن خلدون 4/12، و 6/107.