دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات
بقلم الشيخ : علي الكوراني
ودور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي! فقد صوروا أبا ذر رحمه الله كأنه بدوي ساذج متزمت سئ الخلق ، وكأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، وأنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، وقائداً شجاعاً ذكياً ! (وكان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه وكان زاهداً متقللاً من الدنيا...وكان قوالاً بالحق).(تهذيب الأسماء للنووي:2/513).
(وكان أبو ذر طويلاً عظيماً) . (أسد الغابة:5/188 ، ومستدرك الحاكم:3/51) .
(رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس واللحية). (الطبقات:4/230) .
(فجلس... فرجف به السرير ، وكان عظيماً طويلاً) (سير أعلام النبلاء للذهبي:2/69).
وكان له فرس أصيل يقال له: الأجدل . (أنساب الخيل لابن الكلبي ص 6، وأسماء خيل العرب وفرسانها لابن الأعرابي ص 2). ومضافاً الى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام(سير أعلام النبلاء:1/329 ، وتاريخ دمشق:65/250) ،
فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام:2/254: (ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك).
وقال الواقدي أيضاً:2/583: (ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، وأمَّره على خمسمائة فارس ، وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
سأمضي للعداة بلا اكتئاب وقلبي للِّقا والحرب صابي
وإن صال الجميع بيوم حرب لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي) .انتهى .
بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر رحمه الله سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، وعاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده ونفاه الى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة32 هجرية . وهذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .
أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه ويروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال: (ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). رواه أحمد:5/162، و170، والنسائي:6/223، وفي الكبرى:3/36 ، والبيهقي في سننه:6/330 ، وعلل أحمد بن حنبل:3/404 ، وعلل الدارقطني:6/266 ، وسنن سعيد بن منصور:2/204، والعظمة لأبي الشيخ:5/1780، وحلية الأولياء:8 /387 ، والفردوس بمأثور الخطاب:4/53 ، وتفسير ابن كثير:2/334 ، والفروسية لابن قيم الجوزية ص130، وكنز العمال:6/321 ...الخ. روته هذه المصادر وغيرها ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي ! إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !
قال السيوطي في الدر المنثور:3/197: (وأخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية(يقصد ابن حديج التميمي)بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرساً له فسلم عليه ووقف ، ثم قال: يا أبا ذر ما هذا الفرس؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال: وهل تدعو الخيل وتجاب ؟ قال: نعم ، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). (وحياة الحيوان للدميري ص930). وفي نهاية الإرب: ص2036: (لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال...)
وأما دوره في فتح قبرص ، فقال البلاذري في فتوح البلدان:1/182: (لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب وقدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .
قالوا: وغزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، وأبو الدرداء ، وأبو ذر الغفاري ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد الأنصاري ، وعمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، وعبد الله بن بشر المازني ، وشداد بن أوس بن ثابت ، وهو ابن أخي حسان بن ثابت ، والمقداد ، وكعب الحبر بن ماتع ، وجبير بن نفير الحضرمي). انتهى .
أقول: حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! وكذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس(وغزا مع معاوية) ، مع أن تاريخ كعب ومعاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً وحاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! ولذا قال في الإستيعاب:4/1931: (ويقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، ومعه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ). انتهى .
ويشير النص التالي الى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس!
ففي مسند الشاميين للطبراني:2/73 ، عن جبير بن نفير قال: (أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال: إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم: سهم لكم ، وسهم للسفن ، وسهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن والقبط . فقام أبو ذر فقال: بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم: أتقسم يا معاوية للسفن سهماً وإنما هي فيؤنا ، وتقسم للقبط سهماً وإنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر) . (ونحوه في:2/120 ، وتاريخ دمشق:66/193 ، وحلية الأولياء:5/134) .
أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر ، ولا أبي أيوب ، ولا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، ويروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !
قال بخاري في:3/203: (أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي(ص)يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت: فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام ، فقربت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت) . انتهى. وقد صحح ابن حجر وغيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب:12/411: (والصحيح العكس ، فقد قال غير واحد وثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، وماتت في غزاتها وَقَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، وذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني وقبرت بقبرس . قلت: والإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال: رأيت قبرها ووقفت عليها بقبرس). (ونحوه في صحيح ابن حبان:10/468 ، وطبقات ابن سعد:8/435 ، ورجال صحيح البخاري للكلاباذي:2/851 ، وتاريخ دمشق:70/217، وغيرها . وفي تهذيب التهذيب:12/82: ركبتْ البحر عام قبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ).
أقول: يصعب تصديق حديث بنت ملحان وأمثاله ، الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، وينام في بيتها ويرى رؤية تتعلق بها !
وأنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، وكأن رأس النبي صلى الله عليه وآله فيه قمل كرؤوس رجالهم !