لغة الرمز والإشارة والأمثال لغة استخدمها الأنبياء أسوة بخالقهم ومُرسلهم ، وسبب ذلك ان هذه الأدوات إما لإخفاء حقيقة ما قد يؤدي كشفها إلى الخطر على رموزها ، أو أن استخدام هذه الوسائل يُسهل عملية الفهم عند الناس، ففي الكتب السماوية نرى وبكل وضوح أن الأنبياء استخدموا لغة الرمز والأمثال والإشارة، فكانت هناك أسفار كاملة على شكل امثال كما نرى في سفر أمثال سُليمان بن داود (1) وكذلك الاستخدام الواسع للأمثال في لغة السيد المسيح حتى تعجب تلاميذه : (كلم يسوع الجموع بأمثال، وبدون مثل لم يكن يُكلمهم).(2) حتى تعجب الحواريين وقالوا : (لماذا تُكلمهم بأمثال؟ فأجاب وقال : أكلمهم بأمثال، لأنهم مبصرون لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون).(3) وهذا ما ذهب إليه القرآن عندما استخدم تعالى لغة الأمثال : (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).(4) وسبب استخدام لغة الأمثال من قبل الله وأنبيائه يعود إلى نفس السبب الذي بيُنهُ عيسى من أن الكثير من الناس مبصرون لا يُبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون فيقول القرآن عن امثالهم : (صمٌ بكمٌ عمي فهم لا يفقهون).(5) فهؤلاء يسمعون ويُبصرون ولكنهم يتعمدون عدم السمع كما يقول تعالى عنهم : (جعلوا اصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم).(6)
من كل ذلك نفهم أن لغة الرمز والإشارة والأمثال وسيلة استخدمها الأنبياء لإيقاظ الفهم الحقيقي للأحداث عند الناس. أو للإجابة على اسئلة المؤمنين من خلال الرمز لأن تلك الإخبارات تحمل اسرار لا يُمكن للنبي ان يبوح بها لأنهُ يعرف أيضا قصد البعض من طرح تلك الأسئلة . كما اخبرنا تعالى بقوله : (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض).هنا وثق النبي ببعض ازواجه فأسر لهن سرا ولكنهما اذاعتا وقامتا بالزيادة عليه كما نفهم من قوله : (عرف بعضه وأعرض عن بعض). أي عرف حديثه من الحديث المدسوس.
ولكن بما ان النبي من اولى مهماته البيان للناس والإجابة على اشكالاتهم وأسالتهم فإنه يستخدم لغة الرمز والإشارة للإجابة على بعض وخصوصا فيما يتعلق باخبارات الغيب كما نقرأ في رد السيد المسيح على أعقد سؤال تم طرحه عليه.هذا السؤال الذي وصفهُ المفسر المسيحي بقوله : (طرح التلاميذ سؤالا يحمل مغزى عميقا لنا اليوم.فقد سألوه : ماذا تكون علامة حضورك واختتام نظام الأشياء؟. (قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟).(7) فلم يُجبهم السيد المسيح بتحدي تاريخ ومكان معين بل كان جوابه لهم بأن هناك علامات سوف ترافق مجيئة ثم بدأ يذكر لهم هذه العلامات.
قال لهم:
العلامة الأولى : أنه اخبر حوارييه بأنهم سيبقون معهُ أحياء فقال : (الحق أقول لكم : إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته).(8) وهذا النص اثبت لنا بقاء الحواريين كلهم أحياء مع السيد المسيح إلى أن يتحقق يوم العدل الإلهي.
العلامة الثانية : اخبرهم أنه قبل مجيئه سوف يكون في العالم علامات عظيمة يعقبها مجيء المخلّص ابن الإنسان فيقول : ( قال لهم : تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة،وتكون زلازل عظيمة في أماكن، ومجاعات وأوبئة، وعلامات عظيمة من السماء.ومتى رأيتم أورشليم ــ إسرائيل ــ محاطة بجيوش، فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها.وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم، وعلى الأرض كرب والأمم بحيرة. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام لأنه يكون ضيق عظيم على الأرض. والناس يغشى عليهم من خوف وانتظار. وحينئذ يُبصرون ابن الإنسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير).(9) في هذه النص بعد أن أخبرهم بالعلامات المصاحبة لمجيئه قال لهم مؤكدا : (وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء).(10) وفي هذا النص أيضا تأكيد من السيد المسيح على أن من العلامات أن حوارييه سيبقون معهُ أحياء ويشهدون ذلك اليوم.وهذا يعني أنهم سيبقون أحياء الوف السنين. ولذلك لانرى قبور لحواريين عيسى.
العلامة الثالثة وهي المهمة : أخبرهم السيد المسيح بأنه سيكون تابعا لشخص آخر اعظم منه فقال لهم : (اذكروا الكلام الذي قلته لكم : ليس عبد أعظم من سيده).(11) ثم قال لهم أن سيّده سيبقى حيا لكي يُعطي الطعام الروحي لهم وهو عبد الله الأمين الحكيم الفطين. فقال لهم : (من هو العبد الأمين الحكيم الفطين الذي اقامه سيده على خدم بيته ليعطيهم طعامهم في حينه؟ طوبى لذلك العبد إذا جاء سيده ويجدهُ يفعل هكذا).(12) فلم يفهم الحواريين معنى كلامه . من هو العبد ومن هو سيده الأمين الحكيم.ولمّا رأى حيرتهم قال لهم : (الذي أرسلهُ الله يتكلم بكلام الله،لست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني الله).(13) قال ذلك محاولا أن يطمئنهم بأن ما يقوله لهم هو من الله وليس من عنده.
وهكذا بقي الناس في حيرة محاولين معرفة من هو العبد ومن هو سيده، وجائهم الجواب بعد سنوات قليلة من رحيل السيد المسيح حيث اخبرهم بولص بما ورد في نبوءة إشعياء النبي فقال : (يقول إشعياء: سيكون أصل يسيّ والقائم ليسود على الأمم، عليه سيكون رجاء الأمم وليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان). (14) إذن هما شخصان يسوع المسيح وشخص آخر اسمهُ القائم.
إذن مما تقدم نفهم الآتي: أن السيد المسيح بيّن للحواريين وللناس بأن هناك علامات سوف تكون قبل وبعد مجيئه الثاني ومن هذه العلامات بقاء الحواريين أحياء وقد اكد المسيح ذلك في اكثر من نص. وستكون هناك علامات وآيات أيضا قبل مجيئه ، وأنه سيكون تابعا لسيده الذي أعطاه الله قدرة إطعام الناس روحيا، ولربما أيضا اطعامهم بسبب بركة وجوده. وبعد البحث من قبل الحواريين وجدوا أن هذا العبد هو السيد المسيح وأن سيّده هو شخص آخر اسمه (القائم). ولما كان بولس قد أحالنا إلى نبوئة إشعياء بحثنا في التوراة عن نص النبوة التي اقتبس منها بولص فوجدنا إشعياء النبي يتحدث عن آخر الزمان وعن ظهور شخص سيعم العدل على يديه كما نقرأ : (ويخرج قضيب من جذع يسي، ويحل عليه روح الرب وروح الحكمة والفهم/ روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب. فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه،بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي ، والعجل والشبل معا. ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الإفعوان ، والأرض تمتلئ من معرفة الرب ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسي القائم راية للشعوب ، إياه تطلب الأمم ويرفع راية للأمم من أربعة أطراف الأرض).(15)
ونفهم من ذلك أن السيد المسيح سوف يأتي مع شخص آخر للقضاء على الفساد والظلم والجور وبحسب نص إشعياء فإن هذا الشخص اسمه (القائم). وهو فرع من اصل نبي ويحكم بحكم سليمان حسب الباطن وليس الظاهر كما يقول : (فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه).ومن علاماته أنه يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، والأرض تمتلئ من معرفة الرب ويكون راية لجميع الشعوب في اطراف الأرض الأربعة.
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة والحاج من أجل رفع الغشاوة عن عيون البعض وقطع الطريق على من يقولون بأن كل ما ورد أعلاه هو وصفٌ للسيد المسيح . فنقول لهم : متى أشاع السيد المسيح العدل وأين ذلك . وهل السيد المسيح ولد من صلب رجل كما يقول النص : (يخرج قضيب من جذع يسّي). فمن أي صلب او جذع خرج المسيح؟ وهل امات السيد المسيح المنافقين وهل سكن في زمنه الذئب والخروف معا؟ وهل امتلأت الأرض معرفة في زمنه علما أن نبوته لم تستمر اكثر من ثلاث سنوات. وهل رفع راية العدل للأمم في أطراف الأرض الأربعة؟.
إذن ما هو دور السيد المسيح في رجوعه الثاني؟
أن الذي يقطع الطريق على المتقولين بأن السيد المسيح سيأتي في آخر الزمان ليُشيع العدل والسلام هو قوله تعالى (فإن من أهل الكتاب ليؤمنن به قبل موته).(16) فإن عودة السيد المسيح ومهمته الأولى حسب هذه الآية هي ستكون لدفع المسيحيين للإيمان بالدين الجديد (الاسلام) وكذلك قتل المسيح الدجال.(17) حيث يقود بقية المسيحيين في الأرض إلى الإيمان الصحيح ونبذ عبادته وكذلك نبذ العبادات الباطلة الأخرى، والسيد المسيح نفسه لا يحتاج ان يعتنق الإسلام ، لأنه على الدين الصحيح (الاسلام) الذي هو دعوة جميع الأنبياء.(إن الدين عند الله الإسلام).(18) وكذلك ورد في الأحاديث بأنهُ (يقتل الدجال الذي سوف ينتحل شخصيته، ثم يمكث عيسى في الأرض اربعين سنة). وهناك أيضا مهمات كثيرة منها : (كسر الصليب). أي انهاء العبادات الباطلة مثلا عبادته وأمه كآلهة. وكذلك (يقتل الخنزير). أي يقضي على العادات السيئة وينهي عن الفساد. وأصعب مهمة له هي أنهُ (يضع الجزية). (19) أي يُسقط الجزية عن المسيحيين لأنهم سيتّبعون الدين الإسلامي بأمر السيد المسيح وبذلك تسقط عنهم جزية.(20)
المصادر:
1- سفر الأمثال 1 : 1 : أمثال سليمان بن داود.
2- إنجيل متى 13 : 34.
3- إنجيل متى 10 ـ 13 .
4- سورة الحشر آية : 21.
5- سورة البقرة آية : 171.
6- سورة نوح آية : 7.
7- إنجيل متى 24 :3.
8- إنجيل متى 16 : 28.
9- إنجيل لوقا 23 : 28.
10- إنجيل يوحنا 15 :27.
11- إنجيل يوحنا 13 : 16.
12- إنجيل متى 24 : 45.
13- إنجيل يوحنا 3 : 34. و: إنجيل يوحنا 8:28.
14- رسالة بولس إلى رومية 15 : 12.
15- سفر إشعياء 11 : 1 ـ 12.
16- سورة النساء آية : 159.
17- كما ورد في الحديث (فيقتل الدجال ثم يمكث عيسى في الأرض اربعين سنة). لوامع الأنوار . الجزء الثاني ص 98. والسيوطي في الحاوي الجزء الثاني ص : 380.يقول القمص تادرس يعقوب في شرح الكتاب المقدس تفسير إنجيل متى : علامات مجيء الملكوت: إن فكر المسيح الدجال ـ ضد المسيح ـ له خداعاته، ليس فقط من خلال العجائب المضلّلة،وإنما يحمل أحيانا صورة التقوى والنسك ، فيظهر في البرية ويلتف حوله الكثيرون،ويتسلل خفية إلى داخل القلب، ومعنى خروجه في البرية : هي حياة الناس الخالية من الإيمان.
18- استنادا إلى ما جاء في القرآن بأن الأنبياء الذين سبقوا محمد لم يكونوا يهودا او نصارى بل مسلمين وكذلك نستفيد من الحديث النبوي (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب ألم آت بها بيضاء نقية، لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي). أخرجه أحمد في مسنده الجزء الثالث صفحة 387. وقال الحافظ في الفتح ج 13 ص 284. رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار، ورجاله موثقون.
19- (لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).فتح الباري شرح صحيح البخاريكتاب المظالم . باب كسر الصليب وقتل الخنزير.
20- الحديث متواتر وقد رواه البخاري حديث رقم (2222) ورواه مسلم ايضا حديث رقم (155).