|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 81994
|
الإنتساب : Apr 2015
|
المشاركات : 1,288
|
بمعدل : 0.37 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الإجتماعي
الشباب تطلع نحو المسؤولية
بتاريخ : 03-09-2017 الساعة : 05:57 PM
الشباب تطلع نحو المسؤولية
نقِّل بصرك في أرجاء هذا الكون الفسيح..
هل ترى من شيء إلاّ وله مسؤولية أو عدّة مسؤوليات يمارسها؟
الشمس والقمر مسؤولان عن إنارة الأرض والسّماء في النهار وفي اللّيل.. ولولا هذا السراج وهذا المصباح لغرق الكون في ظلام دامس مخيف.. ولهما أعمال أخرى..
والليل والنهار مسؤولان في تعاقبهما عن هذا التقسيم الزمنيّ لليوم.. فنهارٌ للنشاط والمعاش وليلٌ للنوم والسبات، ولولا هذا التنظيم الوقتي الدقيق لاختلّ نظام الحياة في نهار طويل لا ليل بعده، أو ليل طويل لا نهار ينسلخ عنه.
وهذه النسائم التي تحلّق بأجنحتها الرخيّة هنا وهناك.. لو لم تهبّ علينا لتنقل لنا أنفاس الحياة.. لكنّا أصبنا بحالة اختناق لا نجاة منه.
وهذا الماء العذب الرقراق الذي يسيل أنهاراً وينابيع وعيوناً.. فيسقي الزرع ويروي عطش الإنسان والحيوان.. والبحر المالح الذي يحمل على صدره السفن الماخرة.. وفي بطنه تعيش ملايين الأسماك..
وهذه الطيـور السـابحة في الجوّ.. والتي تدرج على الأرض.. والماشية والنحل والنملُ، بل حتى الحيوانات المفترسة في الغابة.. كلّ له دوره ووظائفه.
فما بالك بالإنسان وهو أشرف هذه المخلوقات وأكرمها وأعظمها عند الله سبحانه وتعالى؟
منذ بداية الخلق حدّد الله له مسؤوليته: (قالَ إنِّي جاعِل في الأرض خلِيفة)(البقرة/ 30). ومنذ ذلك الحين عرف الإنسان طبيعة مسـؤوليته: (إنّا عرضنا الأمانة على السّـموات والأرض والجِبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان)(الأحزاب/ 72)، أي حمل مسؤولية إعمار الأرض وفقاً لإرادة الله الذي استخلفه.
الكون كلّه إذاً مسؤول.. من أصغر شيء حتى أكبر شيء فيه، فلا تكاد ترى شيئاً إلاّ وله مسؤولية قد تكون معلومة بالنسبة لنا وقد لا تكون.. وإذا كانت الكائنـات الأخرى مسـيّرة لما خلقت له، أي تمضي في القيام بواجباتها حسب نظام كوني قدّره الله لها، فإنّ الكائن الوحيد المختار ذا الإرادة هو الإنسان.. إنّه ـ بحسب طبيعة خلقته أيضاً ـ عليه أن يعمل بمسؤولياته، ويمكنه أيضاً أن يتخلّى عنها. وعلى حسب اختياره ـ عملاً وتخلياً ـ تترتب النتائج فوزاً وخسارة.
فلقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون الحياة الدنيا ورشة عمل كبيرة، وساحة سباق وتنافس في الخيرات (هو الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)(الملك/ 2). حتى إذا انتهت هذه الرحلة الأرضـية منذ أبينا آدم (عليه السلام) وحتى آخر مخلوق، أقبلنا على الساحة الثانية (المحشر والقيامة) التي يعلو فيها النداء: (وقِفوهُم إنّهُم مَسؤولون)(الصافات/ 24).
هناك تتوالى الأسئلة: ماذا فعلتم بمسؤولياتكم؟ هل أدّيتموها كما يجب؟ لماذا أنجزتم بعضها وأهملتم البعض الآخر؟ هل قمتم بها إبتغاء مرضاة الله أم لأغراض دنيوية وشخصية بحتة؟.. إلخ.
وبإختصار شديد، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق كلّ مخلوق لغاية معيّنة، ولمسؤولية معيّنة، وقد هداه إلى كيفية ممارستها ضمن ما آتاه من إمكانات تتناسب وأداء هذه المسؤولية. ولا يوجد مخلوق على هذه الأرض لا يعرف ما هي المسؤولية أو المسؤوليات التي خُلِق من أجلها. فالكون الفسيح الذي يحيطنا في أرضه ومائه وسمائه مصمّم على أساس المسؤولية التي تهدف إلى خدمة الإنسان، والإنسان مزوّد بطاقات مسـؤولة عن أعمار وإصلاح وازدهار هذا الكـون، فلا عبث ولا سدى (أفحسـبتُم أنّما خلقناكم عبـثا)(المؤمنون/ 115)، (أحسب الإنسان أن يُترك سدى)(القيامة/ 26).
إنسان بلا مسؤوليات
هل فكّرت مرّة بإنسان بلا مسؤوليات؟ هل يمكن أن تتصوّر نفسك في حلّ من أيّة مسؤولية في الحياة؟ كيف يكون شكل الحياة حينئذ؟
إنّ حياة خالية من المسؤوليات هي أشبه شيء بمدرسة بلا وظائف وتكاليف، لا يشعر فيها التلاميذ بأيّة إلتزامات، كيف تسير عملية الدراسة فيها؟ وكيف يمكن تحقيق النتائج المرجوّة؟ كيف يمكن تمييز العامل من الخامل والمنتج من المتـقاعس؟ فمـجرّد التفـكير بالحـياة الفارغة التي لا يجد فيها الإنسان إنسانيته من خلال كونه مسؤولاً يجعلنا نشعر بالدوار والعبث والفراغ الهائل، لأ نّها تصبح عند ذاك حياة الغرائز المنفلتة.
انّك حين تعيش المسؤولية في البيت فإنّك تعيش الإلتزام الأخلاقي إزاء الأسرة، فللأب مسؤولياته تجاه أولاده وزوجته، وللزوجة مسؤوليات إزاء زوجها وأولادها، وللأولاد مسؤولياتهم إزاء الأبوين وإزاء بعضهم البعض، وإذا تحلّلنا من ذلك وتنصّلنا عنه تزعزعت أركان الأسرة وتصدّعت، فلا يعود هناك أب يهتم بشؤون أسرته ولا أُم ترعى مصالح أبنائها، ولا أبناء يشعرون بوجوب الإحسان للوالدين.
عالم بلا مسؤوليات هو عالم مهدّد بالفساد والخراب وبالحروب الضارية وبالتنازع والفشل والخصومات التي لا حدود لها.. إنّه انهيار كلِّي شامل، فمثل المسؤول كمثل ربّان السفينة إذا ترك سفينته في مهبّ الريح وبيد الأمواج المتصارعة فإنّه يكون قد أسلمها وأسلم ركّابها وحمولتها إلى الخطر الداهم والغرق المحقق.
ولذلك، فإنّ من بين ملامح الجمال والحكمة في هذا العالم هي هذه المسؤوليات التي تناط بنا، ونتنافس على أدائها بأفضل وجه.
بداية المسؤولية:
ها أنت تغادر مسرح طفولتك وملعب صباك لتطأ أعتاب شبابك.. تلك مرحلة انطوت لم تكن فيها مسؤولاً.. أبوك وأمّك كانا يتوليان رعايتك ويقومان بمسؤولية تربيتك والإنفاق عليك.. اليوم اختلف الأمر.. ما زلت قريباً منهما وتحظى بعنايتهما لكنّك لم تعد ذلك الطفل الصغير اللاّهي.. لقد تغيّرت فيك أشياء كثيرة سواء في جسدك أو في مداركك العقلية.. إنّك الآن تدخل عالم الكبار.. تتحوّل من طفل إلى رجل.
هذا التغيّر الذي يحصل لكل فتى وفتاة يمثل إنتقالة طبيعية لكلّ منهما، لكنّه أيضاً يمثِّل مرحلة جديدة في عالم المسؤوليات.. فمن (طفل لاه) إلى (رجل مسؤول) أو (امرأة مسؤولة).
في هذه السنّ التي يطلق عليها بـ(المراهقة) يصبح الشاب والشابّة مسؤولين أمام الله سبحانه وتعالى ضمن تكاليف وفروض وواجبات عليهما أن يمارساها خلال فترة حياتهما.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أنّ الشابّ ـ فتى كان أو فتاة لا فرق ـ سيقف منذ اليوم هو والأكبر سناً منه على قدم المساواة في ساحة المسؤولية والمحاسبة، فأنا ـ حديث العهد بالإلتزام بالمسؤولية ـ وأبي وأمّي اللذان سبقاني إلى تحمّل مسؤولياتهما مطالبون بأداء نفس المسؤوليات.. هما يتحملان مسؤولية أعمالهما وأنا أتحمّل مسؤولية أعمالي أداءً وتقصيرا..
لقد ولّى عهد التواكل والإسترخاء واللهو والعبث الطفولي، ودقّت ساعة العمل الجادّ، ففي هذا المعمل الواسع الكبير الذي اسمه الكون لك موقعك بين مواقع العمل المسؤول، وهو أشبه شيء بورشات متعددة تعمل باتجاه هدف واحد هو كسب مرضـاة الله سبحانه وتعالى: (يا أيُّها الإنسانُ إنّك كادحٌ إلى ربِّكَ كدحاً فمُلاقيه)(الإنشقاق/ 6).
مسؤولياتنا مشتركة:
قد تختلفين أنت كفتاة بالغة مع أخيك البالغ في العمر الذي يتحمّل فيه كلّ منكما مسؤوليته ـ بحسب طبيعة تكوين كلّ منكما ـ لكنّ المسؤوليات بينكما مشتركة.. فهو مكلّف بأمور معيّنة، وأنت كذلك أصبحت مكلّفة بالأمور نفسها. وقد تكون هناك بعض الفوارق في مسؤولياتك ومسؤولياته إلاّ أنّكما بصفة عامّة لكما مسؤولياتكما التي لا تختلف بين فتى أو فتاة.
فمنذ أن عاش أبونا آدم وأمّنا حوّاء في الجنّة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، توجّهت المسؤولية إليهما معاً: (ألم أنهكما) و(أقل لكما) و(إنّ الشّيطان لكما عدو)(الأعراف/ 22)، وهذا واضح من التثنية في الخطاب، فلآدم مسؤوليته ولحواء مسؤوليتها.
على ضوء هذا نعرف أنّنا كشبّان أو كفتيات نتحمّل مسؤولياتنا كلٌّ بصفته الشخصية، فإذا استقام الشاب وأحسن فله جزاء عمله الحسنى وزيادة، وإذا قصّر وأخطأ فهو يدفع ضريبة تقصيره وأخطائه (يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها)(النحل/ 111).
وقد يتصور بعض الشباب خطأ أنّ مسؤولية الفتى الشاب هي أخفّ من مسؤولية الفتاة الشابّة، وكأنّ سمعة الفتاة غير سمعة الفتى. في حين أنّ المسؤولية في الأخطاء واحدة. وكما تتحمّل الفتاة الخاطئة نتائج ومسؤولية عملها، فكذلك الفتى المخطئ، حتى لو اختلف الناس في النظرة إلى كلّ منهما.
إنّ كلّ خطاب في القرآن الكريم سواء جاء بلغة الجمع المخاطَب أو بكلمة (الناس) أو (الّذين آمنوا) أو (يا بني آدم) هو خطاب للجنسين معاً: الذكر والأنثى، وقد وردت بعض الآيات التي تقرن وتجمع بينهما في إطار المسؤوليات الملقاة على عاتق كلّ منهما كما في الآية الكريمة: (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّـادقين والصّـادقات والصّـابرين والصّابرات والخاشـعين والخاشـعات والمتصـدِّقين والمتصـدِّقات والصّـائمين والصّـائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثـيراً والذّاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) (الأحزاب/ 35).
نماذج قرآنية:
على شاشـة القرآن الكريم، يمكن مشـاهدة العديد من النماذج والعينات الشبابية التي عرفت مسؤوليتها بعمق وتحملتها بشرف، فقدّمت بذلك المثال الذي يحتذى لكل شاب أو شابّة يريدان أن ينهضا بمسؤولياتهما في هذه الحياة.
ففي عالم الأنبيـاء (عليهم السلام) نلتقي بـ(الفتى إبراهيم) في مرحلة تفتّح شبابه لنطالع وجهاً ينضح بالفتوّة ويطفح بالثقة، هازئاً بما يعبد الآباء من الأصنام، حتى أنّه يغافل قومه المشركين فيحطّم أصنامهم بفؤوس أصنامهم، وذلك عندما يعلّق الفأس التي كسّر بها الأصنام في رقبة الصنم الكبير ليجعله في موضع اتهام ومساءلة، وقد عرف قومه ذلك من خلال مواقفه الهازئة المستخفّة بعبادة ما لا يضرّ ولا ينفع (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يُقال له إبراهيم) (الأنبياء/ 60).
إنّ فتوة إبراهيم (عليه السلام) المسخّرة في إلفات نظر قومه إلى ضرورة عبادة الله الواحد الأحد، سواء من خلال محاورة النجوم، أو محاورة الحاكم الطاغية (نمرود) أو في دعوة أبيه إلى الهدى، وصبره ومقاومته في تحمّل نتائج مسـؤوليته، ترسـم لنا صـورة الفتـوّة الإبراهيمـية المسؤولة التي يراد لنا أن نقتدي بها (لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والّذين معه)(الممتحنة/ 4).
ثمّ يطل علينا وجه الغـلام (إسماعيل) الذي شرب من نهر أبيه إبراهيم (عليه السلام) ماء الفتـوّة المطيعة لله سـبحانه وتعالى، وكيف أبدى استعداداً عالياً للتضحية بنفسه من أجل تنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى، ثمّ وهو يساعد أباه في مهمّة بناء الكعبة المشرّفة.
وعلى مثل هذه الفتـوّة المطيعـة لله، المعـينة على البرِّ والإحسان (وصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب قال يا بني إنّ الله اصطفى لكم الدِّين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون) (البقرة/ 132).
ويشرق على شاشة القرآن وجه الفتى (داود) الذي يوظّف فتوّته اليافعة في مقاومة الظالمين وإدهاشهم بالروح الاستشهادية من أجل الحقّ.
وأمّا فتوّة الشاب الجميل النبيل (يوسف) (عليه السلام) فكانت مسؤولة عن ضرب المثل الرائع للشاب العفيف الذي يربأ بنفسـه أن يقع في أحضان الرذيلة، والشاب الذي يمارس الدعوة إلى توحيد الله حتى وهو في السجن.
وتتجلّى فتوّة (موسى) (عليه السلام) في استقامته على الإيمان رغم أنّه نشأ وترعرع في الأجواء الكافرة، وفي (مدين) حينما يسقي للفتاتين بكلّ شهامة وحياء إيماني، وفيما يجابه من غطرسة فرعون وجبروته.
ثمّ يطلّ علينا وجه الفتى (عيسى) (عليه السلام) برّاً بوالدته ولم يكن جباراً عصياً، فلقد حمل مسؤوليته منذ نعومة أظفاره في رسم منهج أخلاقي لقومه يربطهم من خلاله بعبادة الله تعالى وحده.
وأمّا (محمّد) (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّنا لم نقرأ في القرآن شيئاً عن مسؤولياته في شبابه، ولكنّنا عرفنا من خلال سيرته المطهّرة كيف أنّه كان ينصرف عن الترّهات والخرافات والأوهام ليتعبّد في (غار حراء).. وكيف بنى شخصيته التي اتسمت بالصدق وطبعت بالأمانة حتى صارت مضرب الأمثال بين قريش.
وعلى غير صعيد الأنبياء (عليهم السلام) يطالعنا على الشاشة القرآنية، التي تعرض لنا صوراً عن الفتوّة المسؤولة، (الفتية أصحاب الكهف) الذين شعروا أن مسؤوليتهم هي في اجتناب التعامل مع الحاكم الظالم، وعدم الانخراط في مشاريعه الإفسادية.
وتتألق صورة الشابة المسؤولة (مريم بنت عمران) (عليها السلام) في مثل أعلى من الحياء والعفاف والصون والعبادة يحـتذى، و(أخت موسى) التي تلعب دوراً مسؤولاً في إنقاذ أخيها من الموت جوعاً بعدما حرّم الله عليه المراضع، والعمل على إنفاذ وعد الله لأمِّه في عودته سالماً كي تقرّ به عيناً.
هذه المشاهد القرآنية للشباب المسؤول تريد أن تقول:
الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنون كانوا جميعاً مسـؤولين في شبابهم.. وهم قدوات وأسوات حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.. فخذوا من شبابهم لشبابكم.. ومن عطائهم لعطائكم.. إن كنتم تريدون معرفة: ما هي المسؤولية في الإسلام؟!
نماذج من السـيرة:
احتضن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الشباب المسلم ورعاه وأولاه من المسؤوليات ما يجعلنا ـ كشباب ـ نعيد النظر في أدوارنا في الحياة، وما ذاك إلاّ لأ نّه كان يرى أنّهم الأرقّ أفئدة والأنقى سريرة والأقدر على التعاطي مع الحياة المتفتحة، والتفاعل مع المسؤوليات الثقيلة بإيجابية كبيرة. جاء في الحديث الشريف: «عليكم بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير».
ولعلّك قرأت في سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أرسل ذلك الشاب الوديع (مصعب بن عمير) في أوّل مهمّة تبليغية للإسلام إلى المدينة المنوّرة، وقد اعتمد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأسلوب في تسـخير طاقات الشباب واهتمامهم بمسؤولياتهم الرسالية في أكثر من نموذج.
- فـ(سعد بن مالك) لم يكن يتجاوز السابعة عشر من عمره، لكنّه كان إسلامياً متحرّكاً، وداعية للإسلام نشيطاً ينافس الكبار في عطائهم، ويحرّك في أمثاله من الشبان استعدادهم لفعل الخير، فكان موضع تقدير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة.
- و(عمار بن ياسر) كان إبّان شبابه ـ كما بقي حتى آخر عمره ـ شعلة وهّاجة من الإيمان، لا يدع فرصة في زيادة الخـير والأعمال الصالحة وخدمة الإسلام والدفاع عنه إلاّ واغتنمها، بل وكان السبّاق إليها.
- و(عليّ بن أبي طالـب) هذا الذي وصـف النـبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتـوّته بالقول «لا فتى إلاّ عليّ» كان يمثِّل فتـوّة الإسلام النمـوذجية الذي لم يدّخر طاقة من طاقات شبابه إلاّ وفجّرها في طريق الإسلام سواء في ساحات الجهاد، أو في ساحات البذل والعطاء.
- ولقد عيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) (عتاب بن أسيد) قائداً لمكّة بعد الفتح وهو لمّا يناهز الحادية والعشرين من عمره، تقديراً منه لكفاءة الشباب المؤمن العامل المكافح.
- كما عيّن (صلى الله عليه وآله وسلم) (أسامة بن زيد) قائداً للجيش في حربه ضدّ الروم، وكان عمره آنذاك (18) عاماً، وطلب إلى شيوخ قريش أن يسيروا تحت لوائه.
- وهكذا تعامل مع (معاذ بن جبل) و(معاذ بن عمرو بن الجموح) وغيرهم من شبان المسلمين من خلال رؤية واعية لدور الشاب المسلم وتقدير دقيق لمؤهلاته في حمل المسؤولية، وإدارة الأمور، أو قيادة الجيوش، أو التبليغ لرسالة الإسلام، فهم أقدر على تحمّل المشاق والصعاب، والدفاع عن الإسلام، وحمل همومه وتطلّعاته.
وقد لعب الشبان المسلمون والشابّات المسلمات ـ حتى بعد عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أدواراً مشرّفة.. وما زالوا يشكّلون العماد في كلّ حركة وثورة وإصلاح وتغيير.
مسـؤولياتنا اليوم:
مسـؤولياتنا اليوم كشبّان مسلمين كما هي مسـؤولياتنا بالأمس وزيادة. فبالإضافة إلى المسؤولية الرِّسالية التي يفرضها الإنتماء إلى الإسلام وما يستتبع ذلك من العمل به ونشر تعاليمه وتوسيع رقعته والدفاع عنه، هناك مسؤوليات حضارية علمية وثقافية وعملية يتطلّب واقع المسلمين والتحدِّيات التي تواجههم النهوض بها.
هذه هي بعض مفردات هذه المسؤوليات وبشيء من الإختصار:
1- المسؤوليّة أمام الله تعالى:
كلّ المسؤوليات تجتمع في النهاية لديه، فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا عبثا: (إنّا هديناه النّجدين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (الإنسان/ 3)، فهناك خط مستقيم واحد وإلى يمينه وشماله خطوط متعرجة كثيرة، ولا سبيل للفوز برضوان الله وجنّته إلاّ بسلوك الصراط المستقيم (اهدنا الصِّراط المسـتقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالِّين) (الحمد/ 6-7).
ولذا فإنّ مسؤوليتنا كشباب إزاء خالقنا ومحمّلنا مسؤولياتنا ومحاسبنا عليها، يمكن أن نتعرّف عليها من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة: ممّ ؟ وفيمَ ؟ وإلامَ؟
ممّ؟ وهو السؤال الخاصّ بمعرفتنا بالله.. فنحن نعرفه على نحو الإجمال، ولكن نحتاج أن نعرفه على وجه التفصيل: في آياته في الكون، وفي آياته في الكتاب الكريم، فكلّما ازددتَ معرفةً بالله ازددت إيماناً به وحبّاً له وطاعة لما يريد.
وفيم؟ وتختصّ بالسؤال عن الهدف من وراء الخلقة؛ هل خلقنا ليُعذِّبنا؟ هل خلقنا لنكون تُعساء في هذه الحـياة؟ هل أوجدنا لنمثِّل مسرحية معينة ثمّ ينتهي دور كلّ واحد منّا ليغادر المسرح وتنطفئ الأضواء؟ أم أنّ الغاية أسمى وأعظم؟
هذا بناء شامخٌ كبير.. لكلّ منّا يدٌ مساهمة فيه بلبنة أو بعدّة لبنات.. وهناك تصميم هندسي يشـبه ذاك الذي يضعه مهندس كبير لبناء ضخم.
هناك من يحاول أن يهدم البناء وأن ينسفه وأن لا يتركه يكتمل، ولذلك فالمهمة شاقّة لا تسير بلا معوقات أو عقبات.. إصلاح هنا وترميم هناك، وإعادة بناء هنا واستكمال للبناء هناك.
وإلامَ؟ وهذا سؤال يتعلّق بالاتجاه وبالمصير.. فإلى أين يراد بنا؟ هل نحن في سفينة تتلاطم بها الأمواج لا تعرف وجهتها؟ أم أنّ هناك مناراً تستنير به لتتجه نحوه؟
بالإجابة على هذه الأسئلة نكون قد عرفنا مسؤوليتنا أمام الله في الإنطلاق، وأثناء المسير، وفي نقطة الهدف.
أنت إذاً مسؤول أمام الله بقدر ما أعطاك من مواهب عقلية وجسدية ونفسية وروحية، وبما هداك إلى سبل الإيمان، وما مكّنك من أعمال، وأسبغ عليك من نعم.
الطريق إلى معرفة هذه المسؤولية يمرّ عبر: العقل، وكتاب الله، وسنّة نبيّه وشعور عال بالمسؤولية.
2- مسؤولية الإنتماء إلى الإسلام:
أنت مسلم؟ إذاً أنت مسؤول.
فالإسلام مسؤولية الإنسان المسلم، وهو ـ كما نعرف ـ ليس مجرّد نطق بالشهادتين، ولا مجرد عبادات شكلية، بل هو عملٌ كلّه، فإذا دخلت شركة الإيمان فعليك أن تلتزم ببرامج عملها وأنشطتها وفعالياتها المختلفة، أي أنّك اخترت بإرادة حرّة أن تكون عضواً فيها، والعضوية في أيّة شركة لها حقوق ولها واجبات لابدّ لكلّ عضو منتسب أن يتعرّف عليها وإلاّ تحرّك كالمكفوف أو المعصوب العينين.
فأن تشهد بوحدانية الله يستوجب أن تمتنع في حركتك في الحياة عن كلّ ما هو شرك وكفر وضلال وعصيان، وأن تشهد بنبوّة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يتطلّب منك أن تجسّد ذلك بالطاعة والإمتثال والتصديق والعمل بما جاء به (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب/ 36). وأن تُصلِّ فإنّ صلاتك تنهاك عن الفحشـاء والمنكر، وأن تصـوم فإنّ صومك يستدعي الإعراض عن كلّ المحرّمات المادية والمعنوية مما يمكن أن نطلق عليه صفة الإنحراف.
ولهذا السبب نرى أنّ هناك عدداً من الأحاديث أخرجت بعض المسلمين من أسرة المسلمين أو من شركة الإيمان لأنّهم لم يلتزموا ولم يعملوا بمتطلبات هذا الإيمان، ومنها:
- «مَن أصبحَ ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم».
- «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه».
- «ليس منّا مَنْ لم يبجِّل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف عالمنا».
- «ليس منّا مَنْ دعا إلى عصبية».
- «ليس منّا مَنْ لم يحاسب نفسه كلّ يوم».
- «ليس منّا مَنْ باتَ شبعاناً وجاره جائع».
- «ليس منّا مَنْ لا يرى دنيا لآخرته».
- «ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره».
إنّ نظرة فاحصة في هذه الأحاديث تبيّن لنا أنّ (الإسلام مسؤولية) في كلّ شيء، وأن كلمة (ليس منّا) هي استبعاد، لكلّ من لا يشعر بمسؤوليته، عن دائرة الإسلام.
3- مسؤولية الوقت:
أعمارنا هبة الله إلينا.. وهي المساحات الواسعة أو الضيِّقة من الأراضي الزراعية التي ترك لنا خيار زراعتها، حتى إذا كان يوم الحصاد الأكبر (يوم القيامة) سألنا عمّا فعلنا بمزارعنا، وعن محاصيلنا فيها.
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى كلّ واحد منّا آنية وقال له: خذها واملأها بما تشاء فأنت وما تملأ.. واختلفنا: فمنّا من ملأ آنيته تراباً، ومنّا من ملأها معدناً ثميناً، ومنّا من ملأها سمّاً زعافاً.
وهي الآن بأيدينا.. فلينظر كلّ واحد منّا بمَ يملأ إناءه (عمره)؟
- فنحن كشباب مسؤولون عن اغتنام فرصة شبابنا لأنّها الأثمن والأغنى في حياتنا كلّها، ولأنّها ميدان الخير وحقل العطاء ومسرح التطوّر والرقي في مجالات خدمة الدين من خلال خدمة الإنسان ذاته.
- ومسؤولون عن عدم تضييع أوقاتنا باللهو العابث الطويل، وبالثرثرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالتسكّع على أرصفة الشوارع وفي الأسواق وأمام واجهات المحلاّت، وعن تعبئتها بالنافع الصالح المثمر من الأعمال ممّا يذهب عناؤه ويبقى أجره وثوابه وأثره في الناس.
- ومسؤولون عن بناء شخصيتنا في فترة نموها ونضجها لنكون مميزين في عطائنا بين الناس، تماماً كما يعمل أحدنا ليكون مميزاً بجدِّه واجتهاده بين تلامذة فصله ومدرسته.
- ومسؤولون أيضاً عن مسابقة الزمن وليس مواكبته فقط، وذلك بأن نعتصر كلّ دقائقه وثوانيه ـ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ـ في تطوير وتنمية كل ما يقع تحت أيدينا من جوانب شخصيتنا أو من واقع أمّتنا.
إن مسابقة الزمن هي أن تنظر إلى الأفق البعيد أيضاً وليس إلى ما يقع عليه بصرك في اللحظة الراهنة.. فأنت مسؤول عن أمسك ويومك ومستقبلك أيضاً.
الزمن يمضي.. إرم ببصرك في أقصى الغد وسترى أنّ الزمن ـ على قصر أيامه ولياليه، وبالرغم من ركضه السريع ـ يمكن أن يقدم ما هو أوسع من الساعات والأيام والأشهر والسنين.
وتذكّر.. أنّ يومك هو يوم مساو ليوم أي مكتشف أو مخترع أو عالم أو مبدع.. فليس هناك يوم طوله (24) ساعة وآخر (30) ساعة، ولكنّه الفرق بين إدراك مسؤولية الزمن وبين تمزيقه إرباً.
إنّ مسؤولية الوقت لا تتعلق بالزمن الذي نحياه بل تمتد إلى ما بعد الممات أيضاً حيث انّ الذكر العاطر والسيرة الحسنة وما يخلفه الإنسان من تجارب علم وعمل يبقى أثراً خالداً في الناس، وفي ذلك يقول الشاعر:
احفظ لنفسك بعد موتك ذكرها إنّ الذِّكر للإنسان عمر ثاني
4- مسؤولية العلم والمعرفة:
كان العلم والمعرفة منذ البدء وسيبقيان سلاحين في معركة الإنسان ضدّ الجهل والكـفر والتخلّـف.. فالفرق كبـير بين (مَن يعلم) و(مَن لا يعلم).. الأوّل في نور والثاني في ظلمات.. الأوّل قوي والثاني ضعيف.. الأوّل غني والثاني معدم.
والعلم والمعرفة ليسا مجرّد عملية تخزين أو تكديس للمعلومات، فالمعرفة في الإسلام مسؤولية «من عرف دلته معرفته على العمل». ومن هنا فلابدّ من العمل على تنويع وتوظيف معارفنا وعلومنا في خدمة أمّتنا والإنسانية كلّها.
والعلم والمعرفة ليسا قراءة في الكتب فقط، وإنّما هما تأمّل وتفكّر وتجريب، ولا يعني ذلك الإعراض عن قراءة الكتب والتزوّد بزادها الذي يمثِّل تراث الأجيال وملكيتها الفكرية المشتركة.
ثمّ أنّ مسؤولية المعرفة هي أن تكون حائزاً على قسط وافر منها، وأن تعمل على نشرها بين الناس، ولذا قيل: «زكاة العلم أن تعلِّمه مَن لا يعلمه» فلا تخشَ نفاداً أو شحة، فالعلم من الأرصدة التي لا تنتهي بل تزيد مع الإنفاق «العلم يزكو على الإنفاق».
ومسؤولية العلم لا تجوّز لك أن تكتم علمك أو تحجبه أو تخفيه عمّن هم بحاجة إليه فذلك أخطر من أن تحتكر غذاء، ذلك أنّ العلم الذي حصلت عليه بالدراسة، أو من خلال تجارب الحياة الواسـعة، أو بالمساعي الشخصية من خلال تنمية المواهب والمهارات هو مسؤوليتك أمام الله: هل أعطيته لمن يحتاجه؟ هل جعلته في طريق الدمار والتخريب؟ هل سخرته في المصالح الحيوية النافعة التي تغني الحياة وتطورها؟ هل أودعته في صناديق مقفلة؟... إلخ.
إنّ العلم للجميع ومن بخل بعلمه سلبه الله إيّاه.
وفي عصر موصوف بأنّه (عصر العلم) نحتاج إلى معرفة الكثير مما يبحثه وينتجه هذا العلم «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». وأن نربط عجلة المعهد أو الجامعة بحركة المجتمع، فعربة الحياة لا تسير إلاّ بهذين الحصانين، وأن نتعلم أوليات وأسس البحث العلمي والتخصص في مجالاته المتنوعة، ذلك أنّ المسؤولية الشرعية تقتضي أن يكون لدى المسلمين الكم الكافي من الطاقات والاختصاصات التي تسد حاجات المسلمين في شؤون العلم والمعرفة كلّها[1].
إنّ مسؤولية العلم تتطلب كذلك عدم الإستسلام للواقع العلمي الموجود فلا يصح أن نراه نهائياً أو على غاية في الكمال، بل علينا أن نعمل كشباب ـ كل حسب طاقته ـ على مزيد من الإبتكار والإبداع والتجديد، فكما لغيرنا عقول تفكر وتتأمل وتنتج، فإن لنا عقولنا التي تفعل ذلك أيضاً، فليست عقول الآخرين من ذهب وعقولنا من حديد أو أن عقولهم من حديد وعقولنا من تراب، إلاّ انّ ذلك لا يكون إلاّ من خلال منهج في التفكير يعتمد السؤال والإستشارة والتنافس والحوار، وشمولية في التفكير بأن نلم بالموضوع من جوانبه كلّها، ولا يتناقض ذلك مع التركيز في البحث على مشكلة محددة حتى لا نضيع في شعاب البحـث. ولابدّ أيضاً من تربية الحس النقـدي الذي يرفض الخطأ والباطل والإنحراف والتحريف من أيّة جهة صدر.
مسؤوليتنا العلمية تقتضي أيضاً الاسـتزادة من المعارف القديمة والعـصرية (وقُل ربِّ زدني علماً) (طه/ 114). فالقوي اليوم هو الأكثر علماً، والمؤمن القوي هو المؤمن العالم العامل، وهو بالتأكيد خير من مائة مؤمن ضعيف. على أن هذه المسؤولية تتطلب اجتناب الغرور العلمي الذي يصد عن اكتساب المزيد من المعرفة «الإعجاب يمنع الإزدياد»، واجتناب الترف الفكري وهو العلم الذي لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، وتجاوز حالة التناقض الفكري بين ما هو أصيل وما هو دخيل، والانفصام بين العلم والعمل. وان تساهم بما حباك الله من طاقات عقلية باضافة ولو لبنة واحدة في بناء الحضارة الإسلامية.
5- مسؤولية الكلمة:
ليست الكلمات التي نتفوه بها فقاعات صابون تطفو على سطح ألسنتنا لتنفجر في الهواء بسرعة.. فالكلمة في الإسلام مسؤولية (ما يلفظ من قول إلاّ لديهِ رقيب عتيد) (ق/ 1)، رقيب يراقب أقواله في الخير وفي الشّر، ذلك لأنّ اللسان كما في الحديث «مفتاح خير ومفتاح شر».
ومسؤولية الكلمة تتحدد في التفكير بها قبل إطلاقها، واختيار الأحسن من بين الكلمات الحسنة الكثيرة، واتباع الأسلوب الأمثل في إطلاقها، ودراسة انعكاسها وتأثيرها على من يتلقّونها.
وتلك عملية تحتاج إلى شيء من التدريـب، فالتسرّع في قذف الكلمات كثيراً ما يؤدي إلى نتائج سلبية وأحياناً وخيمة، والتأني في انتقاء الألفاظ وصياغتها بأسلوب محبب، غالباً ما يؤدي إلى نتائج إيجابية طيِّبة.
إن كلماتنا الجميلة هي مثل الهدايا.. يستحسن أن نقدمها مغلّفة بغلاف جميل حتى تسر الذين نقدمها إليهم.
وكلماتنا الناقـدة مثل وخزات الإبر.. يفضل أن لا تكون موجعة للدرجة التي تجرح سامعيها.
وبعد حين من المراس والتمرين سـيكون لنا قاموسـنا الخاص في الكلمات المهذبة والكلمات النقدية الصريحة، فنحن في الحالين نريد أن نصل إلى عقول الناس عن طريق قلوبهـم، ولا يكون ذلك إلاّ باتباع الأسلوب الذي علّمنا القـرآن إيّاه (وقُل لعـبادي يقـولوا الّتي هي أحسن) (الإسراء/ 52).
فالكلمات كالبضائع في السوق، فيها الجيد وفيها الرديء.. وعلينا أن نتخير (الكلمة الطيِّبة) في لفظها وفي معناها وفي مرادها لتكون رسولنا إلى الآخرين.. وتلك ليست مهمّة سهلة لكنّها ليست صعبة على من يعيش مسؤولية الكلمة.
والكلمات بعد ذلك درجات (طيِّبات) و(خبيثات).
هناك (الكلمة المعروفة) التي درج الناس على تقديرها واستحسانها: (وقولوا لهم قولاً معروفاً) (النِّساء/ 8).
وهناك (الكلمة اللينة) التي تخفق بأجنحتها فوق سمع السامعين فلا تجرحهم (فقولا له قولاً ليناً لعلّه يتذكّر أو يخشى) (طه/ 44).
وهناك (الكلمة السديدة) المطبوخة على نار هادئة، والموزونة بميزان الذهـب، والتي تهدف إلى الرّشـاد والتسديد لخطى السامع (فليتّقوا الله وليقولوا قولاً سديدا) (النِّساء/ 9).
وهناك (الكلمة الكريمة) بما تحمله من جود وسخاء نفس قائلها بحيث تثري سامعها إنْ بموعظة أو نصح أو توجيه أو تصحيح للأخطاء ونقد للعـثرات، أو في ثناء وتشـجيع وحث وشكر (وقل لهما قولاً كريما) (الإسراء/ 23).
وهناك (الكلمة البليغة) التي تبلغ أسماع الناس فتؤثر فيهم، فكأن قائلها يتريث كثيراً في تقدير إصابتها للهدف، كمن يطلق سهماً وهو مطمئن أنّه سيصيب كبد هدفه (أعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا) (الذاريات/ 63).
إنّ انتقاء الكلمات الأحسن، واختيار الأسلوب الأمثل في إطلاقها، محاولة وتمرين منّا، وتوفيق وهدايـة من ربّ العالمين (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) (الحج/ 24).
وأمّا الكلمات الخبيثة التي تحتاج إلى تمرين آخر في اجتنابها، والإعراض عنها، والهروب منها هروبنا من الجراثيم والميكروبات، فمنها:
(كلمة الزور): وهي الكلمة التي لا أساس لها من الصحّة أو هي الشهادة بالباطل (واجتنبوا قول الزّور)(الحج/ 30). (وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزورا) (المجادلة/ 2).
و(كلمة التشهير والتسـقيط): بما لا يبقي حرمة للآخر المسلم (لا يحبّ الله الجهر بالسُّوء من القول إلاّ من ظلم) (النِّساء/ 148).
و(الكلمة المزخرفة): التي لها شكل جمـيل، وهي إمّا خاويـة من الداخل أو تحمل مضموناً قبيحاً (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) (الأنعام/ 112). ومثلها (الكلمة المزوقة المزيفة) التي لها رنين ووقع في السـمع لكنّها منقـوعة بالسم (ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدُّنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام) (البقرة/ 204).
و(الكلمة المتأففة): التي يطلقها الابن العاق أو المسيء بوجه أبويه وكأنّه يصفعهما بها (فلا تقل لهما أُفٌّ ولا تنهرهما) (الإسراء/ 23).
فنحن في سوق الكلمات، كما نحن في سوق البضائع، لابدّ أن نتخيّر أجودها.. فالكلمة الجيِّدة كالبضاعة الجيِّدة تحتاج إلى أن ندفع من أجلها ثمناً أكبر لكنّها تدوم أكثر وتترك تأثيراً أكبر، والكلمة السيِّئة أو الرديئة علاوة على أنّها سريعة التلف فإنّ لها ضريبتها أيضاً في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة.
فإذا كانت الكلمة من نوع الكلمات الطيِّبة فهي: الهادية، والمرققة للقلوب، والفاتحة للأذهان، والمشجّعة على فعل الخير، والمعلّمة، والمربية، والمفتّحة لنوافذ البرّ والإحسان.
وإن كانت من صنف الكلمات الخبيثة فهي الجارحة للمشاعر، المخدشة للذوق، المثيرة للعواصف، المفجّرة للغضب، الفاتحة لأبواب الشر.
كلمتك إذاً مسؤوليتك، وما دامت في عهدتك وتحت طي لسانك فأنت قادر على التحكّم بها، فإذا خرجت صارت في عهدة الآخرين وعليها تترتب النتائج السلبية والإيجابية.
وكشباب، ما زلنا نتعلم درس الكلمات في مدرسة المسؤولية، ستواجهنا كلمات: الوعد والعهد والتعليم والوعظ والدعوة إلى الله والتأييد للعدل وللحق والرفض للباطل وللظلم.. وهي كلمات تحتاج إلى الصدق أوّلاً. فعلى سبيل المثال فإن كلمة (الوعد) مسؤولة، فأنت حين تعدني بشيء لابدّ أن تفي به، ذلك أنّ «المؤمن إذا وعد وفى» وكما قيل في الأمثال «وعد الحر دين».. ولنتذكر دائماً أن كلمة (نعم) ليست سهلة كما نظن.
وستواجهنا كلمات: السخرية والإستهزاء والإنتقاص والتجريح وإثارة الحساسـيات والتناقض والافتراء والمداهنة. وهي كلمات شـائعة للأسف يتداولها بعض الناس غير ملتفتـين إلى أنّها تشـبه الشرارات التي تشعل الحرائق، أو المعاول التي تهدم البيوت، أو المطارق التي تكسر القلوب.
كلمتك صوتك.. هي أنت.. فلا تتبرع بها بالمجان.. ولا تجعلها السفلى في تأييد باطل هنا ومنكر هناك.
كلمتك ليست نبرة صوتك أو أحرفاً تائهة.. إنّها مسؤوليتك.
6- مسؤولية العمل:
إذا كانت مسـؤولية الكلمات والأقوال هي هذه، فكيف يا ترى تكون مسؤولية الأعمال؟
نحن أتباع دين يريد لنا أن نقرن (القول) بـ(العمل).. وأن لا تكون كلماتنا فضفاضة أوسع من حنجرتنا، وأكبر من حجم قدراتنا، ولاتلتقي بأقوالنا من أي طريق (أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم) (البقرة/ 44). (يا أيُّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف/ 2-3).
فلو أنّك وجدتني أتحدث عن قيمة الصدق وأثره في إشاعة الطمأنينة بين الناس، وحين تصحبني تجد لي كذبة هنا وكذبة هناك، فكيف سيكون انطباعك عنِّي؟
ستعتبرني منافقاً أو متناقضاً أعيش الإزدواجية بين كلمتي وموقفي مما يدعوك إلى النفور منِّي، وقد تتقلص الثقة وتنعدم بيننا جراء ذلك.
والمسلم الذي يحمل فكر الإسلام ولا يعمل به يصدق عليه تشبيه (مثلهم كمثل الحمار يحمل أسـفاراً بئسَ مثل القـومِ الّذين كذّبوا بآيات الله) (الجمعة/ 5)، إذ ما فائدة مكتبة فيها كتب قيمة يحملها حمار؟ إنّه يتحسس ثقلها على ظهره لكنّه لا يشعر بثقلها المعرفي في عقله وقلبه وحياته.
ولعلّ الذين يقولون إنّ العمل هو أفضل أسلوب للتأثير محقّـون، فالأعمال عادة تتكلم بصوت أعلى من الأقوال، ولذا جاء في الحديث: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم حتى يروا منكم الورع والاجتهاد والتقوى فذلك داعية». وكلمة (فذلك داعية) دلالة على قدرة العمل الخارجي على التأثير.
فأنت مثلاً تقرأ في الكتاب الكريم (وقُل اعْملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (التوبة/ 105)، فهل تغلق سـمعك عن النداء وكأنّ الأمر لا يعنيك؟ ألست المسلم الذي يقول الخير ويعمل الخير؟
وكما أنّ اللغو واللهو والثرثرة والتصرفات اللاّمسؤولة ضيعت من طاقات شبابنا الكثير، فإنّ الخمول والكسل والتقاعس والإسترخاء الطويل أفقدنا من طاقاتهم أكثر وأكثر.
ولذا ففي موسم العطاء (مرحلة الشباب) نحن مسؤولون عن كل عمل ينفع الناس ويكون لله فيه رضا، وأن نقول قليلاً ونعمل كثيراً، وأن نجانس بين أعمالنا وأقوالنا حتى يرى الناس منّا الصدق.
هناك لعن كثير للظلام يتفشى بين الشبان وبين الأكبر سناً، ولكنّ القليلين هم الذين يشعلون الشمعة.. فكن من هؤلاء الذين يقلصون الدوائر السوداء ويفتحون ويوسعون الدوائر البيضاء، إنّها مسؤولية الحياة المسلمة.
7- المسؤولية الشرعية:
التفقّـه في الدين مسؤوليتك كشاب منذ أن تطأ قدماك ساحة البلوغ. وهي مسـؤولية تتطلب التعرف على حلال الله وحرامه في شؤون الحياة كلّها.
إنّ الثقافة الفقهية ليست حاجة كمالية بل هي حاجة أساسية على اعتبار أنّها تحدد لك موقفك الشرعي من الأحداث والسلوك والمعاملات والعلاقات، ذلك انّ الشريعة هي قانون الحياة الإسلامية ودستورها، وأي جهل بالقانون يؤدِّي لا محالة إلى عدد من المخالفات التي تضر بالمخالف نفسه من جهة وبمن يتعامل معهم في المحيط الإجتماعي من جهة ثانية.
فالحلال ما سـمحت به الشريعة ورخصت العمل به، والحرام ما لا تجوّز فعلـه، فهو خط أحمر. والحلال أوسع دائرة من الحرام.. وما حرّم الله شيئاً إلاّ وفيه ضرر وأذى، وما أحلّ شيئاً إلاّ وفيه نفع ومصلحة سواء عرفنا النفع هنا والضرر هناك أو لم نعرف.
والشريعة الإسلامية هي أشبه بإشارات المرور في شوارع الحياة.. منها ما هو أخضر يفتح المجال للحركة بشروط، ومنها ما هو أصفر يدعو للتوقف والتريث، ومنها ما هو أحمر يمنع الحركة ويجمدها، ومنها ما هو مفتوح بلا قيد ولا شرط.
والمسؤولية الشرعية تتطلب منِّي كشاب أن لا أقدم رجلاً ولا أؤخر أخرى إلاّ بمعرفة: هل هذا يرضي الله أم يسخطه؟ هل هذا ما أجازه بحدود أم لم يجزه مطلقاً؟ هل يكره لي أن أفعل ذلك أم أنّه يستحب، أم أنّه مباح؟
إنّ الطريق إلى هذه المسؤولية يمر عبر الرجوع إلى الأمناء على الشريعة ممن وثق الناس بعلمهم وبدينهم وبأخلاقهم ممن يستنبطون أحكام الحلال والحرام من مصادرها الشرعية المعتبرة.
ثمّ إنّ السؤال عن كل ما يعترض طريق الشاب من أمر لا يعلم هل هو مما يقع في دائرة رضا الله أو خارج تلك الدائرة، يقلل من احتمالات الإنزلاق في مطبات المخالفة الشرعية والوقوع في الإثم والمعصية.
لقد سادت النظرة إلى أنّ التفقّه في الدين يعني التعرف على مسائل الصلاة والصيام والزكاة والطهارة ونسيان ما عدا ذلك من حركة الشريعة في مدار الحياة كلّها، حتى جاء في الحديث: «ما من واقعة إلاّ ولها حكم». كما أنّ التفقّه بالدين أخذ معنى أوسع من المعنى الدارج فهو (وسيلة لإصلاح المعتقدات والأخلاق والأعمال، والإنسان من خلال معرفتـه بالدين يتمكّن من التفـريق بين العقـيدة الصحيحة والخرافات، وبين الفضائل والرذائل، والخير والشرّ، ومن ثمّ فإنّ التفقّه في الدين يعني معرفة طريق السعادة في جميع الشؤون المادية والمعنوية. فالتفقّه بالدين بشكل جامع وكامل هو أساس سمو وتكامل الإنسان، وطريق للوصول إلى أعلى درجات الإنسانية. عن موسى ابن جعفر (عليه السلام): «الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة»)[2].
يتبع
|
|
|
|
|