لقد وردت آيات الإفك في سورة النور، والظاهر أن سورة النور قد ابتدأ نزولها في السنة الثامنة، على وجه التقريب. وذلك لعدة أدلة:
الأول: أنها نزلت بعد سورة النصر([1]). وسورة النصر نزلت في سنة ثمان، فقد ورد: أن النبي «صلى الله عليه وآله» عاش بعدها سنتين فقط([2]).
الثاني: أنها نزلت بعد الأحزاب، التي ابتدأ نزولها في سنة خمس. وبينها وبين سورة النور ـ حسب رواية ابن عباس ـ عدة سور: فالأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم الإنسان، ثم الطلاق ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله. ثم النور([3]).
وفي هذه السور شواهد كثيرة على نزول عدد من آياتها بعد سنة ست..
الثالث: أن آيات اللعان الواقعة في صدر السورة قد نزلت سنة تسع، بعد رجوع النبي «صلى الله عليه وآله» من غزوة تبوك في قصة عويمر بن ساعدة، واتهامه شريك بن السمحاء بأنه زنى بامرأته، فراجع([4]).
الرابع: إذا أضفنا إلى ذلك: أن هناك من يرى أن ترتيب القرآن هو نفس الترتيب الذي في اللوح المحفوظ، بلا تصرف، ولا تغيير،
ومالك يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي «صلى الله عليه وآله»، وكذا قال البغوي: أنهم كتبوا القرآن كما سمعوا من النبي «صلى الله عليه وآله» من غير أن قدموا شيئاً، أو أخروا([5])،
وأضفنا إلى ذلك: أنه قد ذكر في أول هذه السورة ـ سورة النور ـ ما يدل على أنها نزلت جملة واحدة، حيث قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..}،
وأضفنا إليه: أن الصحابة ما كانوا يعرفون انتهاء السورة، وابتداء غيرها إلا بعد نزول البسملة([6])،
فإننا سوف نطمئن ـ بعد كل ذلك ـ إلى أن آيات الإفك قد تأخر نزولها إلى سنة ثمان. من دون أي تصرف في آيات السورة أصلاً..
2 ـ متى كان فرض الحجاب؟
زعموا: أن الحجاب قد نزل فرضه في سنة خمس من الهجرة([7]). وذلك حين تزوج النبي «صلى الله عليه وآله» بزينب بنت جحش.
ونقول:
إن ذلك غير صحيح، وذلك لما يلي:
أولاً: تذكر قضية الإفك: أن الإفك قد كان بعد فرض الحجاب، مع أن آيات الحجاب قد وردت في سورة النور، وسورة النور قد نزلت بعد سنة ست، كما قدمنا في المبحث السابق.
ثانياً: إن الظاهر من قوله تعالى في أول سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أن هذه السورة قد نزلت كلها دفعة واحدة.. وتقدمت شواهد أخرى تدل على ذلك..
وهذا معناه: أن آيات الحجاب قد نزلت مع آيات الإفك في سورة واحدة، ودفعة واحدة، فكيف يكون الحجاب قد فرض قبل ذلك؟!
فما في روايات الإفك من افتراض الحجاب ووجوبه قبل نزول سورة النور مما لا يجتمعان.
ثالثاً: إنهم يقولون: إن الحجاب إنما فرض حينما تزوج «صلى الله عليه وآله» بزينب بنت جحش، حيث بقي الرجال جالسين، حتى تضايق النبي «صلى الله عليه وآله» منهم، ففرض الحجاب حينئذ([8]).
كما أن حمنة ـ حسب روايات الإفك ـ قد طفقت تحارب لأختها زينب.. لكن الله قد عصم أختها بالورع.
مما يعني: أن زينب كانت حين قضية الإفك زوجة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وإنما نزل الحجاب بمناسبة تزويجها به «صلى الله عليه وآله».
ولكننا نقول: إن ذلك موضع شك كبير، بل منع.. فإننا إذا أخذنا بقول من يقول: إن الإفك كان سنة أربع أو خمس، فإنما كان في شعبان منها.. ولا خلاف عندهم في كون الحجاب قد فرض في ذي القعدة سنة خمس([9])، حسبما تقدم. فهو إذن بعد قضية الإفك بلا ريب.
بل إن ابن سعد، والطبري، والبلاذري يطلقون الحكم هنا، ويقولون: إن تزوُّج النبي «صلى الله عليه وآله» بزينب قد كان بعد المريسيع([10]). أضاف البلاذري قوله: ويقال: إنه تزوجها في سنة ثلاث وليس بثبت([11]).
وإن قلنا: أن الإفك كان في السنة السادسة ـ كما هو الصحيح ـ فبالإضافة إلى حكم البلاذري، والطبري، وابن سعد المتقدم نلاحظ ما يلي:
أولاً: إن هناك رواية تقول: إن عمرة بنت عبد الرحمن سألت عائشة: متى تزوج رسول الله «صلى الله عليه وآله» زينب بنت جحش؟
قالت: مرجعنا من غزوة المريسيع، أو بعده بقليل([12]).
ثانياً: يظهر من عبد الرزاق، بل صريحه: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تزوج بزينب بعد تزوجه بصفية، حيث قال، وهو يعدد زوجات النبي «صلى الله عليه وآله»: «..ثم نكح صفية بنت حيي، وهي مما أفاء الله عليه يوم خيبر، ثم نكح زينب بنت جحش..»([13]) والحجاب إنما فرض ـ كما يقولون ـ : في قصة زينب، ففرض الحجاب إذن يكون بعد المريسيع.
فكيف تقول عائشة: إن الإفك كان بعد فرض الحجاب، وبعد تزوجه «صلى الله عليه وآله» بزينب؟! وأنها خمرت وجهها بجلبابها، وأن حمنة طفقت تحارب لأختها زينب، التي عصمها الله بالورع.. وأنه سأل زينب عن أمرها في الإفك، فبرأتها؟!
وأما دعوى: أن حديث الإفك يدل على تقدم زواجه «صلى الله عليه وآله» بزينب، وفرض الحجاب([14])، فهي مصادرة وتحكم بلا دليل.
بل إن العكس هو الصحيح، لأن حديث الإفك فيه الكثير من الإشكالات الأساسية الموجبة لضعفه ووهنه، فلا يقوى على مقاومة النصوص التاريخية الأخرى.
ولو أردنا: أن نصحح حديث الإفك لوجب ان نغير جانباً عظيماً من التاريخ ليوافقه وينسجم معه.. ولا يمكن ذلك، ولا يصح، من أجل رواية واحدة، متناقضة، ضعيفة السند والمتن.. وتنتابها العلل من كل جانب ومكان.
ثالثاً: قد عرفنا: أن سورة النور قد نزلت في سنة تسع لأجل آيات اللعان، التي نزلت في سنة تسع بعد رجوعه «صلى الله عليه وآله» من تبوك.
رابعاً: هناك روايات تذكر: أن سبب نزول الحجاب هو جرأة عمر على نساء رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين نادى سودة بنت زمعة وهي تذهب إلى المناصع ليلاً، وقال لها: قد عرفناك يا سودة([15]).
وفي نص آخر: أن آيات الحجاب نزلت في إيذاء المنافقين لنسائه «صلى الله عليه وآله» حين كن يخرجن بالليل لحاجاتهن([16]). أو حين أكل عمر مع بعض نساء النبي «صلى الله عليه وآله»، فأصابت يده بعض أيدي نساء النبي «صلى الله عليه وآله» ([17]).
3 ـ المـنـبـر:
أ ـ لقد ورد في روايات الإفك: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد صعد المنبر، واستعذر من ابن أُبي، وأن الحيين تثاورا، فما زال يخفضهم وهو على المنبر، حتى سكتوا وسكت.
مع أنهم يذكرون: أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد. وإنما اتخذ في السنة الثامنة([18])، بل في السنة التاسعة. كما يدل عليه ذكر تميم الداري في روايات المنبر، وتميم إنما قدم المدينة سنة تسع.
وذلك لأنهم يقولون: إن تميم الداري هو الذي صنعه([19]).
ب ـ وفيه أيضاً: ذكر للعباس بن عبد المطلب، الذي قدم المدينة في آخر سنة ثمان، فقد جاء في رواية: أنه «صلى الله عليه وآله»، عندما اقترح عليه تميم الداري المنبر شاور العباس بن عبد المطلب، فقال العباس: إن لي غلاماً يقال له: كلاب، أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل([20]).. الحديث.
وفي المبهمات لابن بشكوال قال: قرأت بخط ابن حبان قال: ذكر عبد الله بن حسين الأندلسي في كتابه في الرجال، عن عمر بن عبد العزيز: أن المنبر عمله صباح مولى العباس([21]).
وقد حاول البعض توجيه ذلك: بأن المقصود: أنه وقف على شيء مرتفع من الطين([22]).
ولكن هذا التوجيه لا يعدو كونه تخرصاً لا مبرر له.. ولا سيما بملاحظة: أن لفظ المنبر لا يطلق على ذلك لغة، كما هو ظاهر..
ويرده أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله» كان قبل اتخاذ المنبر يخطب وهو مستند إلى جذع. فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه، حتى سكن([23]).
قال عياض: حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر([24]).
([1]) الإتقان ج1 ص11 وفتح الباري ج9 ص37.
([2]) الكشاف ج4 ص812.
([3]) الإتقان ج1 ص11.
([4]) تفسير القمي ج2 ص98 وتفسير الميزان ج15 ص85 وتفسير البرهان ج3 ص125 و 126 وتاريخ الخميس ج2 ص133، وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص167 وراجع (ط مطبعة مصطفى محمد بمصر) ص407 والبحار ج21 ص367 و 368 عن الكازروني في المنتقى وراجع أيضاً: المواهب اللدنية، وأسد الغابة.
([5]) الإتقان ج1ص61.
([6]) راجع: مقالة العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي، في مجلة الهادي سنة 5 عدد 3 وفتح الباري ج9 ص39، كما أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، والمصنف لعبد الرزاق ج2 ص92 ومجمع الزوائد ج2 ص109 أو قال: أخرجه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح.
([7]) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج8 ص174 و 176.
([8]) أنساب الأشراف ج1 ص434 و 435 وطبقات ابن سعد ج8 ص173 و 174 والمصادر.
([9]) أنساب الأشراف ج1 ص465.
([10]) طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج8 ص157 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص414 وأنساب الأشراف ج1 ص433.
([11]) أنساب الأشراف ج1 ص433.
([12]) طبقات ابن سعد ج8 ص81.
([13]) مصنف عبد الرزاق ج7 ص490.
([14]) فتح الباري ج8 ص351.
([15]) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج8 ص174.
([16]) راجع طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج8 ص176.
([17]) طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج8 ص175.
([18]) السيرة الحلبية ج2 ص300 عن كتابي: الأصل، والنور، وفي فتح الباري ج2 ص330 ووفاء الوفاء ج2 ص397: أن ابن النجار جزم بهذا، وأما ابن سعد فقد جزم بأنه اتخذ في السابعة.
([19]) الأوائل للعسكري ج1 ص336 ووفاء الوفاء ج2 ص391 و 396، عن أبي داود، بسند أحمد، وفتح الباري ج2 ص330 عن أبي داود، والحسن بن سفيان، والبيهقي، والعسقلاني، وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة وفي البخاري أشار إليه، وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج1 ص250.
([20]) الإصابة ج3 ص304، عن الطبقات، وطبقات ابن سعد ج1 قسم2 ص9، وفي وفاء الوفاء ج2 ص393، عن الطبقات، وقيل: إن رجاله ثقات ما عدا الواقدي، وكذا قيل في فتح الباري ج2 ص330، وهو من حديث أبي هريرة، وفي كتاب يحيى بن سعيد، منقطعاً عن أبي الزناد، وغيره.
([21]) الإصابة ج2 ص175.
([22]) السيرة الحلبية ج2 ص300، عن صاحب كتاب النور..
([23]) راجع: الوفاء لابن الجوزي ج1 ص321 ـ 324 ووفاء الوفاء للسمهودي ج2 ص388، فصاعداً عن البخاري بعدة طرق، وعن النسائي، وابن خزيمة، وعن الدارمي، وأحمد، وابن ماجة، وابن عساكر في تحفته، وعياض، وابن عبد البر، وكتاب يحيى بن سعيد، والإسفراييني، وكتاب ابن زبالة، والبخاري ج2 ص11 وفتح الباري ج2 ص330 عن بعض من تقدم، وعن الترمذي، وابن خزيمة، وصححاه، وطبقات ابن سعد ج1 قسم2 ص10 و 11 و 12 ومصنف عبد الرزاق ج3 ص186 ودلائل النبوة ج2 ص274 ـ 271.