أنقل هنا عبارة لخبير أمني استراتيجي فرنسي يُدعى (فرانسوا توال) كتب كتابه (الجغرافيا السياسية للشيعة) بعد سقوط الطاغية صدام ونشر في مراكز الدراسات الغربية حيث يذكر فيه أنَّ الاعتقاد بالإمام المهدي يضخّ وينبض بالأمل وبالإرادة وبالثبات وبقوّة الاستقامة وقوّة الشخصية لأتباع أهل البيت، لأنَّ وجود الأمل يجعلهم لا ينكسرون ولا ييأسون ولا يستيئسون، بل حينئذٍ يدوم ثباتهم وغايتهم وقوّتهم، وكذلك ذكر في كتابه أنَّ معنى الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) يعني فيما يعنيه الخفاء في الحركة والنشاط وحيوية الحركة في أفق واسع متّسع في الغيبة.
فهو باعتباره خبيراً أمنياً فَهـِم والتقط الشفرة العقائدية المهمّة في معنى الغيبة، وأنَّها ليست بمعنى أسطورة وخرافات، وإنَّما الغيبة تعني خفاء وسرّية الحركة في ظلّ نشاط وأدوار في النظام البشري، هذا الذي استوحاه من معنى عقيدة الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام)، بل الملفت للنظر في كلامه أنَّه لا يتعرَّض لغيبة المهدي (عليه السلام) تحت عنوان أنَّ الشيعة تزعم ذلك، بل يتعاطى مع غيبته كحقيقة راهنة مفروغ عنها وأنَّها سرّ قوّة التشيّع والشيعة.
كما قال أيضاً حول العقيدة بالعدالة المهدوية: (هذه العقيدة مرشّحة لأن تعتنقها المجتمعات البشرية أجمع بين ليلة وضحاها، وبأسرع ممَّا انتشرت فيه الشيوعية)، هذا نصّ عبارته، ومن ثَمَّ يكتب عن هذه الحقيقة فيقول: (أنا أهيب بالساسة الدوليين والمراقبين الدوليين أن يتعرَّفوا على نظرية وعقيدة العدالة المهدوية، لأنَّها هي الأطروحة المستقبلية التي لا بدَّ أن يتصدّى في قبالها نظم وأنظمة الغرب)، ومن ثَمَّ هو يهيب بالمراقبين الدوليين والساسة العالميين أن يولوا العناية والتفكير بدراسة مثل هذه الأطروحة لأجل التصدّي، وما شابه ذلك حسبما هو يذكره.
وهناك جملة من الباحثين في علم الاجتماع يذهبون إلى أنَّ الغرب وحتَّى شرق آسيا قد ينعم بنسبة من الحرّية ونسبة من العدالة، ولكن إلى الآن لم ينعم هؤلاء بالعدالة، وهم يتطَّلعون إلى العدالة الكاملة ومن ثَمَّ الأطروحة التي تحقّق مثل هذا الأمل، أو هذه الأنشودة التي تخفق بها قلوب البشر، سرعان ما تنجذب البشرية إليها بشكل خفّاق وسريع وأخّاذ بمجامع القلوب والعقول.
والحاصل إنَّ أدنى منصف نخبوي يفهم لغة الأمن الاستراتيجي، ولغة الأدوار النظمية يفسّر معنى الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) أنَّها عبارة عن هذا المنهاج وهذا التقدير الإلهي الذي هو في الواقع نوع من التوطيد الأكثر دقّةً لقيام الإمام المهدي (عليه السلام) مع الشبكة التي تحيط به، وهي ظاهرة الخضر ومجموعته المزوَّدون بالعلم اللدنّي بقيامهم بدور الحكومة الخفيّة.
وهنا يحضرني كلام لوزير الدفاع الأمريكي كتبه في مجلة اسمها ما ترجمته (الشؤون الخارجية الأمريكية) في عددها الصادر في (2002م) لعدد شهر مايو الشهر الخامس والسادس الميلادي، حيث تحدَّث عن التحوّلات العسكرية في المنطقة وفي العالم، قال: (إنَّ التحدّي الذي يواجهنا في القرن الجديد تحدٍّ مختلف، علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول غير المعلوم غير المرئي وغير المتوقّع).
لماذا وصف العدوّ في زعمه أنَّه عدوّ (مجهول) علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول؟، ويا ليته ينتشل أمّته من الفقر ومن الحرمان الذي يفرضه واقع الطبقة الاقطاعية، لأنَّه كما تحدَّثت منظّمة الأمم المتّحدة قبل سنين في تقرير لها: أنَّ ما يقرب من تسعين بالمائة من ثروات أمريكا هي بحوزة ما يقرب من أربعة بالمائة من الشعب الأمريكي. وبقيّة الشعوب الأمريكية من الطبقات المتوسّطة أو المحرومة المسحوقة، وهنا يدّعي الدفاع عن أمّته، والحال أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يبعثه الله لإفشاء ونشر العدالة والقسط في الأرض. فذكر أربع صفات: المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، غير المتوقّع. هذا يكتبه في مقالة تصدر في مجلة رسمية تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية، بعد ذلك يواصل عبارته:
(ممكن أن يبدو ذلك مهمّة مستحيلة، لكن هذا هو الحلّ للقيام به، علينا أن نضع جانباً الطُرق المريحة للتفكير والتخطيط، وأن نأخذ المخاطر ونجرّب أشياء جديدة)، يقول هو حسب زعمه: (هكذا يمكننا مواجهة وهزيمة الخصوم الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا)، خصوم وصفهم بأنَّهم لم يبرزوا بعد، ولا يشير هذا الوصف إلى القاعدة فإنَّها إن صحَّ مواجهتها للدول الغربية وما شابه ذلك، فهي الآن أصبحت معلومة، وبرزت في ميدان مع الغرب على حسب السيناريو الظاهر المطروح.
فالمقصود بتعبيره: (الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا)، وتعبيره: (ضدّ المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، غير المتوقّع) أنَّهم يقرأون من هذه الأدبيات أنَّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي غيبة خفاء وليست غيبة مزايلة عن ساحة الحدث وابتعاد عن مجريات الأمّة، بل هو في كبد شؤون الأمّة، وتحيطه مجموعة من خلالها يقوم بأدوار يعيى ويعجز البشر بالرغم ممَّا أعدّوا من أسلحة عملية وقنوات استخباراتية وآليات ضخّ المعلومات؛ لأنَّهم لا يستطيعون إلى الآن أن يكتشفوا مثل هذه المجموعة المؤثّرة التي نقرأها في أدبيات المسلمين وأحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) حول الإمام المهدي (عليه السلام)