بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم واللعن اعدائهم من الاولين والاخرين
نسمع او نقرأ الكثير حول ما يسمى عقيدة الطينة فما هي حقيقة عقيدة الطينة!
اقتباس :
(روى ابن بابويه بسنده: عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يا ابن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر (يقصدون بذلك الرافضي)، إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيشرب الخمر؟
قال: لا، قلت: فيأتي بكبيرة من الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟
قال: لا..، قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطريق ويخيف السبل، ويزني، ويلوط، ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصلاة والصيام، والزكاة ويقطع الرحم، ويأتي الكبائر فكيف هذا ولم ذاك؟
فقال: يا إبراهيم هل يختلج صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله أخرى أعظم من ذلك، فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟
قال: فقلت يا ابن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم (يقصد بذلك أهل السنة) من يكثر من الصلاة والصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحج والعمرة، ويحرص على الجهاد، ويأثر كذا على البر، وعلى صلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط، وسائر الفواحش فما ذاك؟ ولفمَ ذاك؟ فسّره لي يا بن رسول الله وبرهنه وبينه، فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي، وضاق ذرعي).
قال الامامع : (يا إسحاق) ليس تدرون من أين أوتيتم؟
قلت: لا والله، جعلت فداك إلا تخبرني.
فقال: يا إسحاق إن الله (عز وجل) لما كان متفرداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها، ثم نضب (أي نشف) الماء عنها فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين وهي طينتنا أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه ، فلو أن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم، وسرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله (عز وجل) أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضته، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون (وهو الطين الأسود المتغير)، وهي طينة خبال (أي فاسدة)، (انظر: المصدر السابق) وهي طينة أعدائنا، فلو أن الله (عز وجل) ترك طينتهم كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقروا بالشهادتين، ولم يصوموا ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين طينتكم وطينتهم! فخلطهما وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالمائين فما رأيت من أخيك من شر لفظ ، أو زنا، أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة، أو حج بيت، أو صدقة، أو معروف فليس من وهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الأيمان اكتسبها هو اكتساب مسحة الإيمان.
قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فمه؟ قال لي: يا إسحاق أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل مسحة الإيمان منهم فرّدها على أعدائنا، وعاد كل شيء إلى عنصره الأول..
قلت: فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا؟ وتؤخذ سيئاتنا فترد إليهم؟
قال: اي والله الذي لا إله إلا هو.
انظر، علل الشرائع، ص 490 ـ 491، وبحار الأنوار: 5/247 ـ 248..
ولعل المخالفين الذين يعيبون علينا هذه الروايات لا يعلمون انّ أحاديث الطينة و مضامينها ليست ممّا تنفرد بها الشيعة ، كيف وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال عند أهل السنّة.
فعلى سبيل المثال جاء (... وجعلت شيعتكم من بقيّة طينتكم ....) (درّ بحر المناقب للشيخ ابن حسنويه الحنفي / 65 مخطوط).
و(...وخلق محبّينا من طينة تحت العرش وخلق مبغضينا من طينة الخبال) (الاربعين للحفاظ أبي الفوارس / 43 مخطوط ).
و(...فيها طينة خلقنا الله تعالى منها وخلق منها شيعتنا ، فمن لم يكن من تلك الطينة فليس منّا ولامن شيعتنا...) (كفاية الطالب للكنجي الشافعي / 179 ط الغري - ميزان الاعتدال للذهبي 2/147 ط القاهرة - لسان الميزان 4/124 ط حيدر آباد - تاريخ دمشق لابن عساكر 1/129 ط بيروت ).
و(انّ الله عزّوجل خلق علييّن، وخلق طينتنا منها ، وخلق طينة محبّينا منها ، وخلق سجّين وخلق طينة مبغضينا منها ، فأرواح محبّينا تتوقّف إلى ما خلقت منه) (ذيل اللئالي للسيوطي / 66 ط لكنهو ).
وأيضاً وردت أحاديث فيها مضامين دالّة على معنى الطينة.
فمنها (السعيد من سعد في بطن امّه والشقي من شقي في بطن امّه) (المعجم الاوسط للطبراني / ح 2613 ، 7871 ، 8465 - المعجم الصغير للطبراني / ح 773 - جامع معمر بن راشد الازدي بتحقيق حبيب الاعظمي (منشور ملحق بمصنّف الصنعاني ج 10) 11/116) .
ثمّ إنّ علمائنا الابرار رضوان الله عليهم ذكروا وجوهاً للتفصّي في المقام : منها انّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ، بل وانّ في اسناد بعضها ضعف بيّن حتّى انّ الشيخ المجلسي (ره) في شرحه للكافي ضعّف كافّة أسانيد روايات هذا الباب السبعة (مرآة العقول للمجلسي / ج 7 ) مضافاً إلى معارضتها مع ما يدلّ على خيار الانسان بين الخير والشر (( انّا هديناه النجدين )) ؛ ومنها انّها تدلّ على الاختلاف التكويني في قابليّات النوع البشري ؛ ومنها - وهو الصحيح على التحقيق - انّها منزّلة على العلم الالهي، فكما انّ علم الله لا ينتج منه الجبر - كما قرّر في محلّه - هذا الامر في المقام أيضاً لا يوجب الجبر ؛ وعليه فالواجب علينا أن نقتفي الاحكام الظاهريّة ونسعى في سبيل هداية الناس لانّ العلم الالهي لا يولّد وظيفةً قطّ .
و تفصيل رد العلماء ما ذكره العلاّمة السيد عبد الله شبر في كتابه (مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار 1: 11) وجوهاً تسعة في بيان المراد من أحاديث الطينة، نوردها لكم بتمامها عن كتابه الموسوم أعلآه:
الوجه الأول:
أنها أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً فيجب ردّها وطرحها سيما وهي مخالفة للكتاب الكريم والسنّة القطعية وإجماع الإمامية والأدلة العقلية والبراهين القطعية.
وفيه أن هذه الأخبار وقد رواها العلماء الأعلام في جوامعهم العظام بأسانيد عديدة وطرق سديدة ولا يبعد أن تكون من المتواترات معنى فلا معنى لطرحها وردّها بل لابد من توجيهها وقد رواها ثقة الإسلام في الكافي بطرق شتى ومتون عديدة والشيخ في الأمالي والبرقي في المحاسن والصدوق في العلل وعلي بن إبراهيم والعياشي في تفسيريهما والصفار في بصائر الدرجات وغيرهم في غيرها بأسانيد وافرة وطرق متكاثرة بل الأولى حينئذ أن يقال إن هذه الأخبار متشابهة يجب الوقوف عندها ورد أمرها وتسليمه إليهم عليهم السلام فأنّ كلامهم عليهم السلام كالقرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه كما ورد عنهم (ع) إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكمه فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
الثاني:
أنها محمولة على التقية لموافقتها لروايات العامة ولما ذهب إليه الاشاعرة وهم جلّهم ولمخالفتها أخبار الاختيار والاستطاعة المعلومة من طريقتهم عليهم السلام وهذا مشارك لما قبله في الضعف فإن الظاهر من بعضها أنها من أسرار علومهم وكنوز أسرارهم.
(في القول الثاني وهو الحمل على التقية مجال للتأمل وأي معنى للتقية في حديث يأمر الإمام فيه بالكتمان ويتوعد على إذاعته بالبلاء في النفس والمال والأهل والولد) .
الثالث:
أنها كناية عما علمه الله تعالى وقدره من أختلاط المؤمن والكافر في الدنيا واستيلاء أئمة الجور وأتباعهم على أئمة الحق وعلى أنّ المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولي أئمة الحق لسياستهم فيعذرهم لذلك ويعفو عنهم ويعذب أئمة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.
الرابع:
أنها كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون فأنه تعالى لما خلقهم مع علمه بأحوالهم فكأنه تعالى خلقهم من طينات مختلفة ولا يخفى ضعفه.
الخامس:
أنها كناية عن اختلاف استعدادهم وتفاوت قابلياتهم وهذا أمر بين لا يمكن إنكاره إذ لا شبهة في إن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبا جهل ليسا في درجة واحدة من الاستعداد والقابلية وهذا لا يستلزم سقوط التكليف فإنّ الله تعالى كلف النبي (صلى الله عليه وآله) حسبما أعطاه من الاستعداد لتحصيل الكمالات وكلف أبا جهل سبما أعطاه من ذلك ولم يكلفه ما ليس في وسعه ولم يجبره على شيء من الشر والفساد.
السادس:
إن غاية ما يلزم من الخلق من الطينتين الميل والمحبة لما يقتضيه كل منهما من خير وشر بالاختيار وذلك لا يستلزم الجبر سيما بعد تصريحه (ع) بخلط الطينتين الموجب لتدافع الطبيعتين والوقوف على حد الاعتدال بحيث يصير المؤمن قادراً على السيئة والكافر قادراً على الحسنة ويؤيده قوله عليه السلام في بعض أخبار هذا الباب فقلوب المؤمنين تحنّف إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه، وظاهره أنّ ذلك الخلط والمزج صار سببا لمجرد الميل لا أنه رفع القدرة والاختيار وصار علة للإجبار، ولعلّ الحكمة والمصلحة في مزج الطينتين إظهار قدرته تعالى في أخراج الكافر من المؤمن وبالعكس دفعاً لتوهم استنادهم إلى الطبايع أو رحمته تعالى في فساق المؤمنين بغفران ذنوبهم أو تعيّش المؤمنين في دولة الكافرين إذ لو لم تكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلهم بمنزلة الشياطين فلم يتخلص أحد من بطشهم أو لوقوع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أن الغالب فيه الخير أو الشر أو رفع العفجب عنه بفعل الطاعات أو الرجوع إليه تعالى في حفظ نفسه من المعاصي أو غير ذلك من الحكم والمصالح التي لم تدركها عقولنا القاصرة وإفهامنا الفاترة.
السابع:
ما اعتمده أكثر الأصحاب وعولوا عليه في هذا الباب وهو أن ذلك منزّل على العلم الإلهي فأنه تعالى لما خلق الأرواح كلها قابلة للخير والشر وقادرة على فعلها وعلم أن بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان وبعضها يعود إلى الشر المحض وهو الكفر باختيارها عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيبة أو الخبيثة فحيث علم الله من زيد أنه يختار الخير والإيمان البتة ولو لم يخلق من طينة طيبة خلقه منها ولما علم من عمرو أنه يختار الشر والكفر البتة خلقه من طينة خبيثة لطفاً بالأول وتسهيلاً عليه وإكراماً له لما علم من حسن نيته وعمله وبالعكس في الثاني وعلم الله ليس بعلة لصدور الأفعال وهذا معنى جيد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم (ع) كما أشير إليه في الحديث المذكور بقوله(ع) حكاية عنه تعالى : أنا المطلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه ويستفاد ذلك من أخبار أخر ذكرها يفضي إلى التطويل.
الثامن:
إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرواح قبل خلق الأبدان في عالم الذر وكلفها بتكليف حين تجردها أجج لها ناراً وأمرها بالدخول إليها والإقتحام فيها فامتثل بعضها وبادر إلى الإطاعة فكانت عليه برداً وسلاماً وأبى بعضها ولم يمتثل فندم وخسر ثم طلب الرجوع مرة أخرى فأبى ولم يمتثل أيضاً فقامت هناك الحجة وثبتت المحجة وتحقق الإيمان والكفر بالإطاعة والعصيان قبل استقرار الأرواح في الأبدان ووقع معلوم الله تعالى مطابقاً لعلمه فخلق تعالى للأرواح المطيعة مسكناً مناسباً لها وهو البدن من طينة علييّن وخلق للأرواح العاصية مسكناً من طينة سجين كما خلق تعالى للمؤمن جنة وللكافر ناراً وذلك ليستقر كل واحد فيما يناسبه ويعود كل جزء إلى كله وكل فرع إلى أصله فظهر أن الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبب عن العمل دون العكس فلا يلزم الجبر ولا ينافي الاختيار، ألا ترى أن الله تعالى لما علم أن بين النبيين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر لأن المؤمنين يوافقونهم في العقايد ويخالفونهم أحياناً في الأعمال لصدور المعصية منهم خلق قلوب المؤمنين من طينة النبيين وخلق أبدانهم من دون ذلك لانحطاط درجتهم وشرفهم فوضع كلاًّ في درجته وإنك إذا قررّت لعبدك المطيع بيتاً شريفاً ولعبدك العاصي بيتاً وضيعاً صح ذلك عقلاً وشرعاً ولا يصفك عاقل بالظلم والجور إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يلزم لو أنعكس الأمر أو وقع التساوي فبان أن الخلق من طينتين عليين وسجين تابع للطاعة والمعصية والإيمان والكفر دون العكس.
التاسع:
ما صار إليه المحدّث المحقق الكاشاني في الوافي حيث قال بعد إيراد الخبر المذكور باختلاف يسير في ألفاظه ما نصه جملة القول في بيان السرّ فيه أنه قد تحقق وثبت أن كلا من العوالم الثلاثة له مدخل في خلق الإنسان وفي طينته ماودته من كل حظ ونصيب فلعل الارض الطيبة كناية عمّاله في جملة طينته من آثار عالم الملكوت الذي منه الأرواح المثالية والقوى الخيالية الفلكية المعبر عنها ((بالمدبرات أمراً)) والماء العذب عمّاله في طبيعته من أفاضات عالم الجبروت الذي منه الجواهر القدسية والأرواح العالية المجردة عن الصور المعبّر عنها ((بالسابقات سبقاً)) والأرض الخبيثة عمّاله في طينته من أجزاء عالم الملك الذي منه الأبدان العنصرية المسخرة تحت الحركات الفلكية المسخرة لما فوقها والماء الأجاج المالح الأسن عماله في طينته من تهييجات الأوهام الباطلة والأهواء المموهة الردية الحاصلة من تركيب الملك مع الملكوت مما لا أصل له ولا حقيقة ثم الصفوة من الطينة الطيبة عبارة عما غلب عليه إفاضة الجبروت من ذلك والثفل منه ما غلب عليه أثر الملكوت وكدورة الطين المنتن الخبيث عما غلب عليه طبايع عالم الملك وما يتبعه من الأهواء المضلة وإنما لم يذكر نصيب عالم الملك للأئمة(ع) مع أنّ أبدانهم العنصرية منه لأنهم لم يتعلقوا بهذه الدنيا ولا بهذه الأجساد تعلق ركون وإخلاد فهم وإن كانوا في النشأة الفانية بأبدانهم العنصرية ولكنهم ليسوا من أهلها كما مضى بيانه ، قال الصادق(ع) في حديث حفص بن غياث يا حفص ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها فلا جرم نفضوا أذيالهم منها بالكلية إذا ارتحلوا عنها ولم يبق معهم منها كدورة وإنما لم يذكر نصيب الناصب وأئمة الكفر من أفاضة عالم الجبروت مع إنّ لهم منه حظ الشعور والإدراك وغير ذلك لعدم تعلقهم به ولا ركونهم إليه ولذا تراهم تشمئز نفوسهم من سماع العلم والحكمة ويثقل عليهم فهم الأسرار والمعارف فليس لهم من ذلك العالم (( إلاَّ كَبَاسط كََّفيه إلَى المَاء ليَبلغَ فاه وَمَا هوَ ببَالغه وَمَا دعَاء الكَفارينَ إلاَّ في ضَلاَل )) (سورة الرعد:14).(( نَسوا اللَّهَ فأَنسَاهمْ أَنفسَهمْ )) (سورة الحشر: 19).
فلا جرم ذهب عنهم نصيبهم من ذلك العالم حين أخلدوا إلى الأرض وأتبعوا أهواءهم فإذا جاء يوم الفصل وميّز الله الخبيث من الطيب ارتقى من غلب عليه أفاضات عالم الجبروت إلى الجبروت وأعلى الجنان والتحق بالمقربين ومن غلب عليه آثار الملكوت إلى الملكوت ومواصلة الحور والولدان والتحقق بأصحاب اليمين وبقي من غلب عليه الملك في الحسرة والثبور والهوان والتعذيب بالنيران إذ فرق الموت بينه وبين محبوباته ومشتهياته فالأشقياء وإن انتقلوا إلى نشأة من جنس نشأة الملكوت خلقت بتبعيتها بالعرض إلا أنهم يحملون معهم من الدنيا من صور أعمالهم وأخلاقهم وعقايدهم مما لا يمكن أنفكاكهم عنه مما يتأذون به ويعذبون بمجاورته من سموم وحميم وظل من يحموم ومن حيات وعقارب ذوات لدغ وسموم ومن ذهب وفضة كنزوها في دار الدنيا ولم ينفقوها في سبيل الله واشرب في قلوبهم محبتها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (سورة التوبة: 36) ومن آلهة يعبدونها من دون الله من حجر أو خشب أو حيوان أو غيرها مما يعتقدون فيه أنه ينفعهم وهو يضرهم إذ يقول لهم: (( إنَّكم وَمَا تَعبدونَ من دون اللَّه حَصَب جَهَنَّمَ )) (سورة الأنبياء: 98).
وبالجملة، المرء مع من أحب فمحبوب الأشقياء لما كان من متاع الدنيا الذي لا حقيقة له ولا أصل بل هو متاع الغرور فإذا كان يوم القيامة وبرزت حواقّ الأمر وكسد متاعهم وصار لا شيئاً محضاً فيتألمون بذلك ويتمنون الرجوع إلى الدنيا التي هي وطنهم المألوف لأنهم من أهلها ليسوا من أهل النشأة الباقية لأنهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فإذا فارقوها عذبوا بفراقها في نار جهنم بأعمالهم التي أحاطت بهم وجميع المعاصي والشهوات يرجع إلى متاع هذه النشأة الدنيوية ومحبتها فمن كان من أهلا عذّب بمفارقتها لا محالة ومن ليس من أهلها وإنما أبتلي بها وأرتكبها مع إيمان منه بقبحها أو خوف من الله سبحانه في إتيانها فلا جرم يندم على ارتكابها إذا رجع إلى عقله وأناب إلى ربه فتصير ندامته عليه والاعتراف بها وذل مقامه بين يدي ربه حياء منه تعالى سبباً لتنوير قلبه وهذا معنى تبديل سيئاتهم حسنات فالأشقياء إنما عذبوا بما لم يفعلوا لحنينهم إلى ذلك وشهوتهم له وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسر لهم لانهم كانوا من أهله ومن جنسه (( وَلَو ردّوا لَعَادوا لمَا نهوا عَنه )) (سورة الأنعام:28)
والسعداء إنما لم يخلدوا في العذاب ولم يشتد عليهم العقاب بما فعلوا من القبائح لأنهم ارتكبوا على كره من عقولهم وخوف من ربهم لأنهم لم يكونوا من أهلها ولا من جنسها بل أثيبوا بما لم يفعلوا من الخيرات لحنينهم إليه وعزمهم عليه وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسر لهم فإنما الأعمال بالنيات.
وإنما لكل أمريء ما نوى. وإنما ينوي كل ما يناسب طينته وتقتضيه جبلته كما قال الله سبحانه: (( قل كلٌّ يَعمَل عَلَى شَاكلَته )) (سورة الأسراء:82).
ولهذا ورد في الحديث إن كلاً من أهل الجنة والنار إنما يخلدون فيما يخلدون على نياتهم وإنما يعذب بعض السعداء حين خروجهم من الدنيا بسبب مفارقة ما مزج بطينتهم من طينة الأشقياء مما أنسوا به قليلاً وألفوه بسبب ابتلائهم به ما داموا في الدنيا.
وروي الصدوق(ره) في اعتقاداته مرسلاً أنه لا يصيب أحداً من أهل التوحيد ألم في النار إذا دخلوها وإنما تصيبهم الآلام عند الخروج منها فتكون تلك الآلام جزاءً بما كسبت أيديهم وما الله بظلام للعبيد.(انتهى كلامه رفع مقامه).