القلب السليم
قال الله في محكم كتابه: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). [الشعراء: 88 ـ 89]
إن المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، أما عالم الآخرة فإن السعادة تقوم فيه على أساس القلب السليم الذي لم يبتل بالأمراض النفسية من قبيل الحقد والحسد وسائر الصفات المذمومة.
القلب السليم هو القلب الذي أضاءت معرفة الله زواياه وانمحى الشك والشرك من طواياه، القلب الذي يؤمن بأن لهذا العالم صانع وهو الله، وإن كل شيء موجود على أساس من الحكمة. فلا وجود للعبث واللغو وإنه لا يضيع أجر المحسن كما لا تضيع عقوبة الظالم، القلب الذي يؤمن بأن الجزاء أو الانتقام قد يتأخر ولكنه قادم لا محالة.
الدنيا عالم محدود ولكن الآخرة عالم لا نهائي، الدنيا محاطة والآخرة محيطة، الدنيا عالم متغير والآخرة عالم ثابت، الدنيا عالم صغير والآخرة عالم كبير، الدنيا دار احتكاك ومواجهة وتصادم والآخرة عالم واسع مفتوح، الدنيا عالم مظلم والآخرة عالم مضيء.
وعلى هذا فإن الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون أساساً للحياة في الآخرة، ذلك أن المحدود لا يمكنه استيعاب اللانهائي، ولكن ما ينفع في عالم الآخرة يمكنه أن يكون مفيداً في الدنيا لأن الآخرة أوسع من الدنيا فهي محيطة بها.
فالإنسان الذي يفارق الدنيا لا يمكنه أن يحمل معه من وسائلها شيئاً إلا قلبه السليم وتلك الصفات السامية من الإيمان بالله والمحبة والإنصاف والعدالة والصدق والاستقامة وكل الخصال الإنسانية الطيبة التي هي أساس الحياة في عالم الآخرة، إضافة إلى كونها أساساً للسعادة حتى في عالم الدنيا.
فهل يمكن للإنسان أن يعيش راضياً مطمئناً دون أن يطهر قلبه من الشك والشرك، وأن يضيء الإيمان بالله أعماق روحه؟ وهل يمكنه أن يواجه مصاعب الحياة وتقلبات الزمن بشجاعة؟
يقول أحد العلماء: إن البعض يوظف عقله فيبتدع له أخلاقاً عالية تنطوي على ألوان من المشقة والمعاناة النفسية كما هو الحال في قوانين (اليوغا) التي تفتقد روح الأمل والإقبال على الحياة، أما الأخلاق التي تنبع من الإيمان بالله الواحد فإنها تصوغ إنساناً يواجه مصاعب الحياة بروح من الأمل بالرغم من المعاناة التي تنطوي عليها.
يقول أمير المؤمنين (ع) في عهده إلى محمد بن أبي بكر لما ولاه مصر: "فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، واس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم".
ثم يضيف الإمام قائلاً: "واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ والمتجر الرابح. أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة[1]".
إن القلب السليم والنية الطاهرة هي طريق السعادة في الدنيا والآخرة، حيث ينطلق الإنسان من العالم المحدود إلى عالم لا نهائي فيبني آخرته بدنياه، فالدنيا ـ كما قال رسول الله (ص) ـ مزرعة الآخرة.