فاتَّصل بي بعد نهاية البرنامج (بحكم العلاقة التي كانت بيني وبينه) ليسألني عن رأيي في الحلقة، فقلتُ له أنَّ الكثيرين قد استاؤوا مما قلتَه عن المراجع، وأنَّ قولك بأنَّ من يرى أنَّ مدار الأعلمية هو الفقه والأصول بأنَّه فكر بائس متخلف، يلزم منه أنَّ جميع مراجعنا وأعلامنا متخلفون، فقال لي : إنَّ هذه النظرة ليست نظرة جميع الأعلام، وعدَّد لي بعض الأسماء، وهذه هي الأسماء التي ذكرها :
1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
2- السيد محمد باقر الصدر.
3- السيد الخوئي.
4- السيد عبد الأعلى السبزواري.
5- السيد الخميني.
6- السيد الطباطبائي (صاحب الميزان).
فقال لي : الدليل على ذلك أنهم كتبوا مؤلفات في غير الفقه والأصول، فقلتُ له : سيدنا، كتابتهم في غير الفقه والأصول لا يلزم منه أنهم يرون ارتباط كل هذه الأمور التي كتبوا فيها بالأعلمية، فقال لي : أرسل لي ما حصل من انطباع على الإيميل.
فأرسلتُ له هذه الرسالة في ليلة الخميس بتاريخ 1 - 8 - 2012م، الساعة 1:55 بعد منتصف الليل :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سماحة السيد
أردتُ أن أنقل بعض التأثير الذي حَصَلَ من حلقة هذه الليلة (ليلة الخميس)، فقد استاء الكثيرون من حلقة هذه الليلة، وعبَّروا عن استيائهم الشديد من الكلام عن الحوزات العلمية، ومنها أن اعتبار مدار الأعلمية على الفقه والأصول هي رؤية متخلفة، وهذا يلزم منه أن يكون جميع علمائنا متخلفين، فكل علمائنا يعتبرون الأعلمية في استنباط الأحكام الشرعية مرتبطاً بالفقه والأصول، فمثلاً يقول السيد السيستاني في (منهاج الصالحين) :
"إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم (أي الأقدر على استنباط الأحكام، بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك وبتطبيقاتها، بحيث يكون احتمال إصابة الواقع في فتاويه أقوى من احتمالها في فتاوي غيره)
"...الخ.
وهو عين كلام السيد الخوئي والسيد عبد الأعلى السبزواري وغيرهما من الفقهاء.
وكون بعضهم قد كتب في جوانب أخرى لا يلزم منه أن تكون نظرتُه للأعلمية تشمل الجوانب الأخرى التي كتبَ فيها إلا أن يُصَرِّحَ هو نفسه بأن الأعلمية في استنباط الأحكام الشرعية يشمل الجوانب الأخرى التي كتب فيها، مع ملاحظة أنَّ عدم صدور كتابٍ لعالمٍ في العقيدة أو التفسير أو غيرها لا يلزم منه أنه غير عارفٍ بهذه الأمور.
وأما القول بأن حَصْرَ الدِّين بمسائل الحلال والحرام هو الرؤية المتخلفة، فالجواب على ذلك أن هذا ما لم يقله أحدٌ من مراجع الدين لا المتقدمين ولا المتأخرين، بل لم يقله أحدٌ من جهلة الشيعة فضلاً عن طلبة العلوم الدينية، فلا يوجد مرجعٌ أو عالمٌ قالَ بأنَّ العقائد ليست من منظومة الدين أو أنها لا أهمية لها، وحتى طلبة العلم المنشغلين بالفقه والأصول فقط لا يقول أحدٌ منهم أنه يحصر الدين في هذه المسائل، بل هم متفقون على أنها من الدين، ولا أظن مسلماً يقول أن معارف التوحيد وغيرها من العقائد خارجة عن منظومة الدين.
وأما القول بأن الأعلم لا بدَّ أن يكون الأعلم في جميع المعارف ليكون الأعلم في استنباط الأحكام الشرعية، فهذا مخالفٌ لما عليه جميع علماء الطائفة، ويقتضي أن نخرج كثيراً من الأعاظم عن دائرة الاجتهاد، فمثلاً : الشيخ الأنصاري والشيخ صاحب الجواهر والسيد محسن الحكيم وغيرهم من كبار علماء الشيعة لا يوجد لهم بحوث في التفسير ولا في العقيدة ولا في الفلسفة وغيرها من الأمور، وكل تراثهم مقتصرٌ على الفقه والأصول، فعلى حسب ميزانكم فهؤلاء ليسوا مجتهدين فضلاً عن كونهم من أعاظم علماء الشيعة.
فأنتم مثلاً عبَّرتُم عن السيد محسن الحكيم منذ ليالٍ بأنه من أعاظم فقهاء الشيعة، والسؤال : ما هو الفرق مثلاً بين السيد محسن الحكيم الذي هو من أعاظم فقهاء الشيعة حسب تعبيركم، وبين السيد محمد سعيد الحكيم، فهذا تراثه مقتصرٌ على الفقه والأصول، وذاك تراثه مقتصرٌ على الفقه والأصول، بل إن السيد محمد سعيد الحكيم له تراثٌ في العقيدة ككتابه أصول العقيدة وكتاب في رحاب العقيدة، وله كتاب بعنوان (المرجعية الدينية) وله كتاب (فاجعة الطف) وهو بحث تحليلي في واقعة الطف.
فلماذا يكون السيد محسن الحكيم من أعاظم فقهاء الشيعة مع اقتصار تراثه على الفقه والأصول، ولا يكون السيد محمد سعيد الحكيم من أعاظم فقهاء الشيعة مع أن تراثه يتجاوز الفقه والأصول إلى العقيدة والتاريخ وغيرها.
بل لو نظرنا إلى أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، فلا يختلف أحدٌ من الشيعة في أنَّ زرارة كان أفقه أصحاب الإمام الصادق في مسائل الحلال والحرام، بينما كان هشام بن الحكم أعلمهم في معارف التوحيد والعقائد، فلا أعلمية هشام بن الحكم جعلته متفوقاً على زرارة في الأحكام الشرعية، ولا أعلمية زرارة في مسائل الحلال والحرام جعلته متفوقاً على هشام بن الحكم في المعارف الاعتقادية، فكل منهما كان أعلم في فن من الفنون.
وأما كلامكم منذ ليالٍ عن الأعلمية، وأن الإمام كان يرشد الناس إلى نفسه، وكذلك العالِم، لا أن يقول له اسأل أهل الخبرة، فكل فقهاء الشيعة يفتون بالرجوع إلى أهل الخبرة لتحديد الأعلم، وكتاباتهم في الرسالة العملية أن العمل بها مجزئ ومبرئ للذمة وأنه يجب تقليد الأعلم لا يلزم منه أنهم يقولون للناس ارجعوا إلينا دون سؤال أهل الخبرة، بل العمل بالرسالة مجزئ ومبرئ للذمة إذا توصل المكلف إلى تحقق شروط التقليد في المرجع من خلال شهادة أهل الخبرة.
فمثلاً السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة يشترط الأعلمية في التقليد، ويقول في باب التقليد :
"المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة، وأكثر اطلاعاً لنظائرها وللأخبار، وأجود فهماً للأخبار، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً. والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط".
وهذا استفتاء ورد في كتاب (الفتاوى المنتخبة ج2 ص19) للسيد كاظم الحائري :
مسألة (28):
سمعت شهادة السيّد محمّد محمّد صادق الصدر قدس سره بأعلميّتكم فعدلت إلى سماحتكم، فهل تقليدي صحيح؟
الجواب:
إن كان ذو الخبرة الواحد كلامه مورثاً للوثوق عندك جاز الاعتماد عليه في التقليد، وإلّا فالاحتياط يقتضي تحصيل البيّنة، أي شهادة شخصين من أهل الخبرة.
فحتى إن كان يرى نفسه الأعلم، ولكنه لا يرى صحة تقليده بشهادتِه هو لنفسه بأنه أعلم، وعلى هذا جميع فقهاء الشيعة، إذ كيف يُقبل شهادة الإنسان لنفسه بأنه أعلم، فمثلاً نرى أن الشهيد السيد محمد باقر الصدر يبين الطرق التي يرجع فيها إلى معرفة الأعلم ومنها الرجوع إلى أهل الخبرة، ولو كان الأمر يثبتُ عنده بشهادتِه هو لنفسه لما كانت هناك حاجة إلى ذكر طرق معرفة الأعلمية.
وكيف يكون العامي قادراً على تشخيص الأعلم من خلال مؤلفاته وهو ليس من أهل الاختصاص، فهل يمكن للناس من خلال قراءة المؤلفات الطبية أن يعرفوا الأعلم في الطب إذا لم يكونوا من أهل الاختصاص في الطب، وهكذا في كل مجال.
وبعد كل هذا : لماذا تصفون من يخالفكم بأنه صاحب رؤية متخلفة؟ لماذا لا تقولون أن هذه رؤيتي، ولماذا تُقحم مثل هذه الأمور في برامج هدفها الدفاع عن مذهب أهل البيت عليهم السلام؟فأنتم تطالبون المشاهدين بعدم الخروج عن الموضوع، وموضوعكم كان يتعلق بمقامات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، فلماذا خرجتم عن الموضوع وتكلمتم عن الأعلمية ووصفتم فقهاء الطائفة بأن رؤيتهم متخلفة في الأعلمية وشروط المرجعية؟ ولماذا تُستغل هذه البرامج للترويج لأفكاركم الخاصة ومرجعيتكم؟
وهناك سؤال مهم أيضاً، وهو أنكم قلتم في تسجيل لكم في سنة 2007 بأنكم تؤيدون مرجعية السيد السيستاني، وأنكم ترون أن المرجعية لا ترتبط بالبعد العلمي فقط، بل ترتبط بالبعد الغيبي أيضاً، وأنها توفيق من الله عز وجل، وهذا كان بعد سقوط نظام الطاغية في العراق بأربع سنوات كانت كافية لأن تقيموا مواقف هذه المرجعية، ومع ذلك قلتم أنه مع وجود مرجعية السيد السيستاني لا داعي لأن يسألكم أحد أو يسأل غيركم عن طرح المرجعية، فما الذي تغير الآن؟ وكيف صارت هذه المرجعية التي كنتم تعتقدون أنها بتوفيق من الله عز وجل إلى واحدة من المرجعيات التي لها رؤية متخلفة؟
وعندما انتشر التسجيل المنسوب إليكم، قلتم أنه مفبركٌ وأنكم لم تذكروا الأسماء، وقلتم في إحدى حلقات برامجكم أن المراجع حصون المذهب وثغور المذهب، والآن رجعتم وقلتم أنهم أصحاب رؤية متخلفة. فما هو الفرق بين ذكر الأسماء وعدم ذكرها؟
مع العلم أنني سمعتُ البعض يقول في هذه الليلة : عندما انتشر التسجيل الذي أثار فتنة كبيرة بين المؤمنين برَّرنا للسيد بأنه ينفي هذا عنه، فبماذا سنبرِّر له الآن؟ وهل سيقول السيد أنَّ هذا مفبركٌ أيضاً؟
إنَّ الكثيرين يعلمون بأنَّكم غضبتم عندما وُصِف الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره منذ سنوات بأنه صاحب فكر التقاطي، فما هو الفرق بين هذا القول وبين قولكم عن المراجع بأنهم أصحاب رؤية متخلفة فكرياً.
وأخيراً أقول من خلال ما أراه وأعايشه : أن الاستمرار بطرح هذه الأمور سيؤدي إلى إضعاف هذه البرامج ونفور الناس عنها، وقد رأينا بأن كلام السيد هاشم الهاشمي وهو رجل واحد يعيش في بلد صغير كالكويت قد أدى إلى انقسام المجتمع الشيعي في الكويت حول برامجكم وأدَّت إلى ابتعاد الكثيرين عنها لما يملكه من ثقل ديني واجتماعي في بلده، بل إنها أثَّرت حتى في الكثيرين من الشيعة في البحرين، وهذا ما رأيتُه بأم عيني، فما بالكم لو تكلم عشرون أو خمسون شخصاً لهم ثقلهم الديني والاجتماعي في بلدانهم؟
فالرجاء ثم الرجاء التوقف عن طرح هذه الأمور التي تُحدث شرخاً كبيراً في الطائفة، وأن تكون البرامج مختصة بالدفاع عن مذهب أهل البيت عليهم السلام ودفع الشبهات عنه، ففي السابق كانت برامجكم لكل الشيعة، فمن يقلد السيد السيستاني والسيد الحكيم والشيخ الوحيد والشيخ التبريزي والشيخ الفياض والسيد الشيرازي وغيرهم كلهم كانوا يتابعون البرامج ويروِّجون لها، أما الآن فصرتم وكأنكم تيارٌ في مقابل تيارات شيعيةٍ أخرى، وصار الكثير من هؤلاء - بعد أن كان يروِّج لبرامجكم – من المروِّجين ضدكم والمحذرين للناس منكم، وكل هذا بسبب تصريحات كنتم في غنى عنها.
انتهت الرسالة
وقد اتصل لي في اليوم الثاني، وقال لي أنَّ الرسالة وصلته.
التعديل الأخير تم بواسطة حفيد الكرار ; 30-08-2013 الساعة 01:33 AM.