الظلـــــــــــــــــم الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
وعرفاً هو: بخس الحق، والاعتداء على الغير، قولاً أو عملاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية أو المعنوية.
والظلم من السجايا الراسخة في اغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، مما جهّم الحياة، ووسمها بطابع كئيب رهيب.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد*** ذا عفة فلعلة لا يظلم
من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.
وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمه والتحذير منه:
قال تعالى: «إنه لا يفلح الظالمون» «إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين»
«واللّه لا يحب الظالمين»
«إن الظالمين لهم عذاب أليم»
«ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا»
وقال تعالى: «ولا تحسبن اللّه غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار»
وقال سبحانه: «ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون»
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على ان أعصي اللّه في نملة أسلبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإن دنياكم لأهون عليّ من ورقة في فم جرادة، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذة لا تبقى»(6). وعن أبي بصير قال: «دخل رجلان على أبي عبد اللّه عليه السلام في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامها قال: أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم. ثم قال: من يفعل الشرّ بالناس فلا
ينكر الشر إذا فُعل به، أما إنه انما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المرّ حلواً، ولا من الحلو مراً، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما»
وقال عليه السلام: «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده اليه، أكل جذوة من النار يوم القيامة»
وقال الصادق عليه السلام: «من ظلم سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه».
قال (الراوي) يظلم هو فيسلط على عقبه؟ فقال: إن اللّه تعالى يقول: «وليخش الذين لو تركوا مِن خَلفِهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللّه،، وليقولوا قولاً سديداً» (النساء: 9)
وتعليلاً للخبر الشريف: أن مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء انما هو في الابناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجر عاطفي رهيب، يردع الظالم عن العدوان خشية على أبنائه الأعزاء، وبشارة للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام، مشفوعة بثواب ظلامته في الآخرة.
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من أصبح لايهم بظلم غفر اللّه له ما اجترم»
أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين اللّه عز وجل في ذلك اليوم.
الى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث. أنواع الظلم:
يتنوع الظلم صوراً نشير اليها إشارة لامحة:
1 - ظلم الانسان نفسه:
وذلك باهمال توجيهها الى طاعة اللّه عز وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضي، مما يزجها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.
«ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها»
2 - ظلم الانسان عائلته:
وذلك باهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوة والعنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، مما يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم، مادياً وأدبيا.
3 - ظلم الانسان ذوي قرباه:
وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزمات، وحرمانهم من مشاعر العطف والبر، مما يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.
4 - ظلم الانسان للمجتمع:
وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم،
وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع وضعف طاقاته.
وأبشع المظالم الاجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطعيون صد العدوان عنهم، ولا يملكون الا الشكاة والضراعة الى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.
فعن الباقر عليه السلام قال: لما حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة، ضمني الى صدره، ثم قال: «يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه، قال: يابني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الاّ اللّه تعالى»
5 - ظلم الحكام والمتسلطين:
وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصة.
من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأمة ومقدراتها.
قال الصادق عليه السلام: «إن اللّه تعالى أوحى الى نبي من الأنبياء، في مملكة جبار من الجبابرة: أن إئتِ هذا الجبار فقل له: إني لم استعملك على سفك الدماء، واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فاني لن أدع ظلامتهم وان كانوا كفاراً»
وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: «تكلم النارُ يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال.
فتقول للأمير: يا من وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
وتقول للقارئ: يا من تزَين للناس وبارز اللّه بالمعاصي فتزدرده.
وتقول للغني: يا من وهب اللّه له دنيا كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده»
وليس هذا الوعيد الرهيب مقصوراً على الجائرين فحسب، وإنما يشمل من ضلع في ركابهم، وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنه وإياهم سواسية في الاثم والعقاب، كما صرحت بذلك الآثار:
قال الصادق عليه السلام: «العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم»
لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات الى اللّه عز وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيبة في حياة الانسان المادية والروحية.
قال الامام الكاظم عليه السلام لابن يقطين: «إضمن لي واحدةً أضمن لك ثلاثاً، إضمن لي أن لا تلقى أحداً من موالينا في دار الخلافة الا بقضاء حاجته، أضمن لك أن لا يصيبك حدّ السيف أبداً، ولا يظلك
سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً»
وقال أبو الحسن عليه السلام: «إن لله جل وعزّ مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن أوليائه».
وفي خبر آخر: «أولئك عتقاء اللّه من النار»
وقال الصادق عليه السلام: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان»
وعن محمد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو ممن يدين بطاعتك، فان رأيت أن تكتب لي اليه كتاباً. قال: فكتب اليه أبو عبد اللّه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم سُر أخاك يسرك اللّه».
فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه عليه السلام، فقبله ووضعه على عينيه ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.
قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل، ثم قال له: هل سررتك؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فقال له: هل سررتك؟ قال: نعم جعلت فداك.
فأمر له بمركب، ثم أمر به بجارية وغلام، وتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟ فكلما قال: نعم، زاده حتى فرغ، فقال له: إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ إليَّ كتاب مولاي فيه، وارفع إليّ جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل فصار الى أبي عبد اللّه عليه السلام، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما فعله.
قال له الرجل: يابن رسول اللّه قد سرّك ما فعل بي؟ قال: اي واللّه، لقد سرّ اللّه ورسوله وخامة الظلم:
بديهي أنّ استبشاع الظلم واستنكاره، فطري في البشر، تأباه النفوس الحرّة، وتستميت في كفاحه وقمعه، وليس شيء أضرّ بالمجتمع، وأدعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه.
فالاغضاء عن الظلم يشجع الطغاة على التمادي في الغيّ والاجرام، ويحفّز الموتورين على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الامم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها وسلطانها. علاج الظلم:
من العسير جداً علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أن من الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:
1 - التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من اشاعة السلام، ونشر الوثام والرخاء.
2 - الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادية والمعنوية.
3 - تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقيم الايمان ومفاهيمه الهادفة الموجهة.
4 - استقراء سيَر الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.
جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحجلان: أن بعض مقدّميُّ الأكراد حضر على سماط بعض الأمراء، وكان على السماط حجلتان مشويتان، فنظر الكرديُ اليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلما أردت قتله، تضرّع فما أفاد تضرعه، فلما رآني أقتله لا محالة، التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل، فقال: إشهدا عليه إنه قاتلي، فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه» فقال الأمير: قد شهدتا، ثم أمر بضرب عنقه
وفي سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي: أنّ عبد الملك بن مروان أرق ليلةً، فاستدعى سميراً له يحدثه، فكان فيما حدّثه أن قال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة، وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل الى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل الا أن تجعلي صداقها مائة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا، سلمه اللّه تعالى سنة واحدة فعلت ذلك، فاستيقظ عبد الملك، وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمر الولاة