السلام عليكم أترككم مع هذا الدرس الرائع متمنية لكم النفع
1- "التّفويض" في قبال "الجبر"
بازاء الاعتقاد بالجبر، الذى يقع في جانب "الافراط"
هناك اعتقاد آخر باسم "التفويض"، ويقع في جانب "التفريط".
يرى الذين يعتقدون بالتفويض أنَّ الله قد خلقنا وترك كل شيء بيدنا،
فلا دخل له في أعمالنا وأفعالنا، وبناء على ذلك
يكون لنا الحرية كاملة والاستقلال التام فيما نفعل بلا منازع!
لاشك في أنَّ هذا المعنى لايتفق ومبدأ التوحيد،
إذ إنَّ التوحيد قد علمّنا أنَّ كل شيء ملك الله،
وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه،
بما في ذلك أعمالنا التي نقوم بها مختارين
وبملء حرية إرادتنا، وإلاّ فإنَّه شرك.
وبعبارة أوضح: ليس بالامكان القول بوجود إلهين،
أحدهما هو الاله الكبير، خالق الكون، والآخر الاله الصغير،
أي الانسان الذي يعمل مستقلاً وبكل حرية
بحيث أنَّ الله الكبير لا يستطيع أنْ يتدخل في أعماله!
هذا، بالطبع، شرك وثنائية في العبادة، أو تعدد في المعبود،
فعلينا إذن أنْ نعتبر الانسان صاحب اختيار فيما يفعل،
وفي الوقت نفسه نؤمن بأنَّ الله حاكم عليه وعلى أعماله.
2- المدرسة الوسط
إنَّ النقطة المهمّة والدّقيقة هنا هي أنْ لا يختلط علينا الأمر
فنحسب هذين الأمرين متناقضين.
الدقّة في الأمر هي إنَّنا نؤمن بعدالة الله إيماناً تاماً،
ونؤمن في الوقت نفسه بحرية عباد الله ومسؤوليتهم،
وبالتوحيد وشمول حكمه عالم الوجود كلّه،
وهذا هو ما يعبّر عنه أنَّه الأمر بين الأمرين،
أي الامر الوسط بين معتقدين متطرفين غير صحيحين.
ولمّا كان هذا الموضوع على شيء من التعقيد، فسنورد مثالاً توضيحياً:
أفرض أنَّك تقود قطاراً كهربائياً في سفرة،
فلابدّ أنْ يكون هناك سلك كهربائي قوي يمتد فوق القطار.
تنزلق عليه الحلقة المتصلة بالقطار،
فيتحرك هذا بانتقال طاقة كهربائية قوية
من محطة لتوليد الكهرباء الى ماكنة القطار باستمرار.
بحيث لو انقطع التيار لحظة واحدة لتوقف القطار فوراً.
بديهي أنَّك قادر أنْ تتوقف أثناء الطريق حيثما تشاء،
ولك أنْ تزيد من سرعة القطار أو أنْ تخفف منها.
ولكنك على الرّغم من حريتك هذه،
فإنَّ الشخص القائم على إدارة محطة توليد الكهرباء
قادر في أية لحظة أنْ يوقف حركتك،
وذلك لأنَّ قدرتك كلها تعتمد على تلك الطاقة الكهربائية
التي يتحكم فيها شخص غيرك.
إذا دققنا النظر في هذا المثال نجد أنَّه على الرغم من حرية سائق القطار في الحركة والسكون،
إلاّ أنَّه يقع في قبضة شخص آخر، وأنَّ هذين الأمرين لا يتعارضان.
مثال آخر
أفرض إنَّ شخصاً أصيبت يده بالشلل على أثر حادث مؤسف،
فلا يستطيع تحريكها، ولكننا إذا أوصلناها بطاقة كهربائية خفيفة
أمكن ايصال الحرارة اليها بحيث تتمكن من التحرك.
فاذا ارتكب هذا الشخص بهذه اليد جريمة، فقتل شخصاً أو صفع أحداً،
فإنَّ مسؤولية ذلك لاشك تكون عليه، لأنَّه كانت له القدرة والارادة،
وأنَّ الشخص إذا ملك القدرة والارادة يكون مسؤولاً عن أعماله.
ولكن الشخص الذى يوصل القوة الكهربائية الى يد الجاني
ويولّد فيها القدرة يكون هو المسيطر الحاكم عليه،
في الوقت الذي يكون فيه صاحب اليد مالكاً لحرية إرادته واختياره.
فلنعد الآن الى موضوعنا
لقد وهبنا الله القدرة والقوة، ومنحنا العقل والذكاء
وهي طاقات لا ينقطع وصولها إلينا من الله،
ولو توقف لطف الله عنّا لحظة واحدة
وانفصمت رابطتنا به لقضي علينا قضاء تاماً.
إنَّنا إذا كنا قادرين على إنجاز عمل،
فقدرتنا قد وهبها الله لنا ومازالت تصل إلينا باستمرار بلا انقطاع،
بل إنَّ حرية إرادتنا أيضاً من عنده،
أي إنَّه هو الذي أراد لنا أنْ نكون أحراراً في إرادتنا
لكي نواصل مسيرتنا نحو التكامل بهذه الهبات الالهية.
بناء على ذلك فاننا في الوقت الذي نملك فيه حرية إرادتنا واختيارنا،
نظل تحت سيطرة القدرة الإلهية، ولا يمكن أن نخرج من نطاق حكمه.
إنَّنا في لحظة القدرة والقوة نكون مرتبطين به تعالى
ولا يمكن أن نكون شيئاً بدونه.
هذا هو معنى الأمربين الأمرين.
وبهذا لا نكون قد وضعنا أحداً رديفاً لله تعالى ليكون شريكا له،
ولا نكون قد اعتبرنا عباد الله مجبرين في أعمالهم لنقول إنَّهم مظلومون، فتأمل!
لقد تعلمنا هذا الدرس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام،
فعندما كان الناس يسألونهم عمّا إذا كان هناك سبيل بين الجبر والتفويض
كانوا يقولون، نعم، أرحب ممّا بين السماء والارض.
3- القرآن ومسألة الجبر والتفويض
يؤكد القرآن المجيد في هذه المسألة على حرية إرادة الانسان
بجلاء ووضوح في المئات من الآيات التي تصرح بحرية إرادة الانسان.
أ- جميع الآيات التي تتناول الأوامر والنواهي والفرائض
تدل على حرية إرادة الانسان في اختيار سبيله،
إذ لو كان الانسان مجبراً في أعماله لما كان ثمّة معنى في الامر والنهي.
ب- جميع الآيات التي تذم المسيئين وتمدح الصالحين
تدلّ على حرية الارادة، وإلاّ فلا معنى في للذّم والمدح
إذا كان الانسان مجبراً.
ج- جميع الآيات التي تتحدث عن الحساب يوم القيامة
ومحاكمة الناس في تلك المحكمة، ثم الحكم بالعقاب أوبالثواب،
أي النار والجنّة، هي دليل على حرية الانسان في ما يعمل،
لأنَّه بالفرض والاجبار لا يكون هناك معنى للمحاسبة والمحاكمة
ويكون إنزال العقاب بالمسيئين ظلماً محضاً.
د- جميع الآيات التي تدور حول: (كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِيْنَة)(المدثر:37).
و(وَكُلُّ امْرِىءٍ بِما كَسَبَ رَهِين)(الطور:21).
تدلّ دلالة واضحة على حرية إرادة الانسان.
هـ- ثمّة آيات مثل:(إنّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إمّا شاكِراً وَإمّا كَفُوراً)(الدهر:3).
واضحة الدّلالة على هذا الامر.
إلاّ أن هناك آيات في القرآن المجيد تعتبر دليلا على "الأمر بين الامرين"،
غير بعض الجهلاء يخطئون فهمها فيرونها دليلاً على (الجبر)
منها:(وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللهُ)(الدهر:30).
من الواضح أنَّ هذه الآية وأمثالها لا تعني تجريد الانسان من حرية الاختيار،
بل تريد أنْ تؤكد للانسان إنه في الوقت الذي يكون فيه تام الحرية والاختيار،
لا يخرج عن أمر الله، كما مرّ بنا توضيحه.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، ط2. ص263-269