إنه "ملَك السؤال الحضاري" يلفُّك ويحاصرك، في السوق والزقاق، في المصنع والمخبر، في الجوهر والمظهر، يؤرقك ويلازمك كظلّك وأنت تغشى الحياة بدروبها وسبُلها؛ فيُثقلك بأسئلته، ويُسائلك معاتبا تارة، ومحمّلا إياك المسؤوليات تارة أخرى؛ فيطير النوم من أجفانك، ويتلظى لُبك، وتذهب شهيتك، إلا أن مزية "ملَك السؤال" هذا يجعلك تنطلق باحثا منقبا، مقلبا متبصرا... أسئلة الملَك، هذه المرة، ليست على منوال: ما دينك؟ ومَن ربك؟ فالنجاة بين يدي ملَك السؤال الحضاري؛ تتبعه النجاة بين يدي ملَك السؤال الأخروي... فما استفهامات ملَك السؤال الحضاري؟ وما أسئلته؟
يتوافق المشتغلون بنظرية المعرفة والإبستومولوجيا أن الإضافة المعرفية لا تولد إلا من رحم عقلٍ غارق في أزمة (2)، فقابلية الإحساس بالأزمة المعرفية في مجال تخصّصيٍّ ما، ورهافة الإحساس بها هي السمة الفارقة بين صُناع التحوّل المعرفي (Paradigm Shift) وغيرهم من المشتغلين الرسميين (Formel) بالعلم، وبهذا "الحد الفاصل" ترتسم في الذهن أسماء رصَّعت تاريخ المعرفة الإنسانية وذاكرتَها، وبهذا يتزايل هؤلاء الذين اتّخذوا العلم وظيفة ورغيفا، من أولئك الذين امتطوا ركبَه هَمًّا، ورسالةً، واحتراقا؛ هذا عن الأزمة المعرفية؟ فماذا عن الأزمة الحضارية؟
الأزمة، في السياق الحضاري، "مرحلة اضطراب" تلفّ الأمة في كل أحوالها ومستوياتها، تجوب شوارعها وأرصفتها، وتهبُّ ريحُها الصرصر على مآذنها وحِرابها، وتجعل نهارها وليلها بهيما أكحل سرمدا، تؤرّق العالِم، وتحاصر المتعالِم، وتفتِك بالجاهل، لا تميز الغنيّ من الفقير، ولا تعرف الصغير ولا الكبير، إنها لحظة الأزمة الحضارية التي تجعلك تنقّب في ماضيك وحاضرك عن الحل والترياق، لتثــــْــقف بذلك الملأ أحد صنفين: ثلة محترقة غارقة في أزمة، وكثير مسترخٍ متثاقل متثائب...
"ملَك السؤال الحضاري" لا يعدّد أسئلته، فطالما أن الأزمة واحدة فإن سؤاله بذلك واحد، فسؤال الأزمة ليس من جنس تلك الاستفهامات التي تَغرق فيها النخبة تقعيدا وقعودا، وليس من قبيل الشكوى والتذمر الذَين يسِمان حوارات السواد الأعظم من الناس إلا أن ملَك السؤال حاضر ببداهته؛ فتراه يتربص بالأفئدة، والألباب، والفُهوم كلٍّ حسب مداركه ومدارجه؛ فيصوغ السؤال مرات ومرات، ويلوّنه ويعدد تمثلاته ومصايده...
ما سؤال الأزمة إذن؟
لو تفحصنا الأسئلة التي تؤرقنا بين الفينة والأخرى، وإن نحن أعدنا النظر فيها ونقّبنا فيها عن خواص سؤال الأزمة في السياق الحضاري، وتقفّيْنا مواصفاته المحدِّدة وأماراته؛ لثقفناه بيِّنًا واضحا: إنه "سؤال انفصام الفكر عن الفعل"؛ وانسلاخ الفعل عن الفكر الذي يسنده ويؤطره، فغدونا نعيش حياة برزخ بين ذاكرة تاريخية تأخذ بألبابنا في رحلة تسام ورُفول، وواقعٍ يروي قصة تخلف وأفول، فغدا المسلم حائرا بين جذور معنوية تؤسس للعلم والتمكين والانتصار، وواقعٍ يسيخُ به في أوحال الجهل، والتخلف، والفقر، والقابلية للانكسار... إنها حياة برزخ كئيبة تجتث الفعل من جذوره الملِّية، وتحجِّر على الفكر، وتجثِم على صدره؛ معوِّقةً إياه عن الفعل والحركة...
إن نحن طرقنا باب "أعلام الفكر والفعل الحضاري" سنجدهم حول هذه المائدة ملتفين، ولسؤال الأزمة مواجِهين؛ مفكِّكين تارة ومركِّبين؛ تسمع "الأستاذ بيجوفيتش" وهو على جواده يؤلف ويفكر؛ فيهمس في أذنك قائلا:... « إذا وضعنا الأمر في أبسط صوره، وإذا صرفنا النظر عن أي شيء آخر في الإسلام لوجدنا أن المجتمع المسلم بدون أن يمارس أي شيء سوى الأعمدة الخمسة للإسلام: فإنه يجب عليه أن يبلغ حدا أدنى من الحضارة، ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطيع أن يكون مسلما ويبقى متخلفا»(3)، يشدّ الأستاذ "فتح الله" على يد صِنوه ورفيق دربه الأستاذ "بيجوفيتش"؛ متحدّثا عن سؤال الأزمة ذاته قائلا: « من يعلم كم من فكر عظيم بقي حبيسا في البرزخ؛ فلم يشهد الحياة، في هذا العالم المثقل بالدخان والضباب، وكم منهجٍ جادّ تحطم مصطدما بالأفكار الكدِرة للمصابين بقِصَر النظر! فهؤلاء لا يُولون أهمية ولا يَعُون معنى للعلم ولا للمعاني التي تربط بين الأشياء والحوادث، ولا للمناسبات بين الإنسان والكائنات.... »(4)، يعقِّب الأستاذ "مالك" على حديثهما وهو محاط ببَشر شطرهم "مستعمِر"، ونصفهم الآخر "قابل للاستعمار"؛ وهو يعتبر كلماته رسالة إلى جيل لم يأت بعد، ويقول: « لكل نشاط عملي علاقة بالفكر، فمتى انعدمت هذه العلاقة عمِي النشاطُ واضطرب وأصبح جهدا بلا دافع، وكذلك الأمر حين يُصاب الفكر أو ينعدم، فإن النشاط يصبح مختلا مستحيلا وحينئذ يكون تقديرنا للأشياء تقديرا ذاتيا؛ هو في عُرف الحقيقة خيانة لطبيعتها، وغمْط لأهميتها... »(5) يتنهّد الأستاذ "مالك" ثمّ يضيف قائلا: « إذن نحن نعيش أزمتنا الخاصة بنا ونعيشها بكل أبعادها.....، إن هذا معناه أن أحطَّ الحظوظ في هذه الدنيا أصبحت ملازِمة للأمة التي خصّها الله بالهداية الإسلامية، وخصّها برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الأمة أصبحت تعاني الأزمات المتنوعة التي يمكن أن نجمعها في كلمة واحدة نسميها: الأزمة الحضارية؛ وهي فعلا أزمة حضارية لا غير » (6).
"سؤال الأزمة" و"فقه الحضارة"...
قصة التداول الحضاري بين الأمم يرتسم خطُّها البياني كدالة جيبية (Sinusoïdal (7، تمر بإحداثيات تسامٍ وارتقاء إلى مرحلة "الحضارة"، وبعد تمام معالم البناء واكتماله ينحدر المجتمع بعدها إلى مهاو سحيقة "لِمَا بعد الحضارة" لترزح الأمة في حالة توتر جوهري باحثة مجددا عن روح الانبعاث، وخطة الإقلاع...
"سؤال الأزمة" يعبر عن مرحلة اضطراب قد تطول وقد تقصر، إلا أنه معلن عن تحوّل حضاري حاصل، شريطة أن يفقه المرء إحداثيات "الوعاء الحضاري" الذي فيه يتحرك، ويستوعب "المركِّب الحضاري" الذي يدفعه أو يكبله، ويدرك حال "نسيجه الحضاري" فتلا ونقضا، غزلا واهتراءً...
إن "فقه الوعاء الحضاري" يمكّن الإنسان ملَكة فهم ترسبات هويته، وانتمائه، وطبيعة جغرافيته ونَسبه على نمط تفكيره، وأثر جماع ذلك على قابليته الذهنية الفردية (المطّردة) انفتاحا وانغلاقا، استعلاء وانكسارا، فاعلية وانهزاما...، أما فقهُه للمرحلة الحضارية: يخوّله فهم المعامل الحضاري الذي يدفعه أو يُعيقه: فأن يولد المرء في أمة تحيى حالة "ما قبل الحضارة" يسودها التفاؤل لغد أفضل، أو يحيا بين أمة في أوج "الحضارة" مكتملة المعالم، أو قُدِّر له العيش بين أحضان أمة منحدرة إلى مهاوٍ سحيقة لما "بعد الحضارة"؛ كلُّ ذلك مؤثر على رسالته ودوره وإستراتيجية تحرُّكه، أما "فقه النسيج الحضاري": فهو إدراك مستوى تماسك "شبكة العلاقات الاجتماعية" وانتظامها، ومدى ذبولها، وكذا مستوى ارتباط الأمة بجذورها المعنوية وثقافتها الذاتية، ومدى تحلُّلها وانسلاخها؛ وبذلك يمكن القول إن:
فقه الحضارة= فقه النسيج الحضاري + فقه المرحلة الحضارية + فقه الوعاء الحضاري.
هذا ما يخوّلك أن تمِيز الحالة الذهنية الجماعية الحضارية لأمة قد تكون "قابلة للاستعمار" وإن غادر المستعمِر، أو قابلة للرشد والانتصار وإن فتك المتآمِر، فقه الحضارة يجعلك قادرا على أن تتموقع وفق الظاهرة بعد معرفة أسبابها، ويخوّلك ملَكة الفعالية بعد تبيّن الداء، ويمكّنك خَطَّ الإستراتيجيات وفقه الأولويات الحضارية... أما إن استعجلت التحليل والتركيب، ولم تعتبر إحداثيات "الوعاء"، ومعاملات "النسيج" فستغدو التحليلات الحضارية ونقاشاتك الفكرية أقرب ما تكون إلى أحاديث النيام، والمشي في السبات، وتغدو بذلك أفعالك كقطعة ثلج وقعَت في بِركة ماء...
كلمة السر: حركية الفكر والفعل...
في هذا السياق نفقه دلالة "حركية الفكر والفعل" وموقعها في خطة الانبعاث والتجديد، ويمكننا بذلك"تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتَي الحركية والفكر، وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمرّ عبر الحركية والفكر" (8)، ولعل البحث عن مخرج آخر من الحفرة التي وقعنا فيها من غير الجهة التي وقعنا منها في أزمتنا الحضارية هذه: مناطحة للسنن الكونية؛ وإن لم نفقه "حركية الفكر والفعل" وموقعها في الرؤية الكونية الإسلامية؛ فإننا نقوم بتحريف كبير للإسلام، «لقد كان لزاما على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يعود من "الغار" (الفكر)، فلو أنه لم يعد لبقي حنيفيا»، «ولكان إضافة تاريخية لا معنى لها لسيدنا عيسى عليه السلام»، «ولكنه عاد من الغار وشرع يدعو إلى الإسلام وهكذا تم الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع، بين التنسك والعقل، بين التأمل والنشاط» (9) ، بهذا فإن حالة "انفصام الفكر عن الفعل" واستفحالها بين مسجدنا ومدرستنا، وبين جامعتنا وجامعنا؛ ستنجب لا محالة أجيالا مشوَّهة المبنى، مقفِرة المعنى: لتتصدى بنفسها لمَهمة "تنصير المسلمين والإسلام" (La christianisation de l’islam) دون الحاجة إلى منصّرين مسيحيين (من خلال ما نقوم به من فصل الإسلام عن الحياة)، فتدفع جامعاتُنا، ومدارسُنا، وزوايانا، وتكايانا، بذلك، من رحمها، عقولا وقلوبا "فرويدية"، و"داروينية"، و"هيجلية" على سنة الله ورسوله (10) .
آن لأصحاب الهم الواحد أن يجتمعوا...
إنها سنة الله في الأزل أن تجتمع القلوب المتفطّرة شوقا وتوقا، لتجتمع على صعيد واحد باحثة منقِّبة عن الجواب لأزمة خيّم ضبابها ودخانها الكثيف على الأرجاء، والمؤكَّد أن هذه العقول والقلوب، قبل أن تنبري لهذا "الهمّ الحضاري"، تكون قد تطهَّرت من أدران التفرق والتشرذم، وتسامت عن لغة الوظيف والرغيف، وتجاوزت لغة التأنيب والشكوى، وتابت توبة نصوحا من تأليه الذات، وعبودية اللذات، أفئدةٌ فقِهت بأن عدوها في داخلها، وقلوبٌ ثقتها في الله حقيقة، وذاتيتُها في "الفكر والفعل" رصينة، لا تحُدُّها إحداثيات الزمان والمكان من الاجتماع، والانصهار، والالتقاء... لعلي أظل أسأل نفسي وأنا أقرأ وصية "مالك" قبل عقود: « الأوفى أن أخص بهذا الكلام جيلا سيأتي يعقب جيلي؛ لنؤكد لهم وهم بين أنقاض عالمنا، أن عليهم واجب بناء عالَم خاص بهم»، وتدمع عيني وأنا أقرأ رؤيا الأستاذ "فتح الله" حين يصف مشاهداته قائلا: « يُجْهِز أطباء المعنى الذين يقودون القلب والروح إلى مستوى الحياة...أطباء منفتحة قلوبهم على الروح والمعنى، منطلقون من ساحات العلم، والذكاء، والعرفان، والواردات، والفيوضات كلّها من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق... »، أقرأ الرؤيا فيشرد ذهني، ويسبح فكري سائلا متسائلا: هل حان موعد مجيئهم؟ أم ليس بعد؟ أهم واعون بدورهم ومسؤولياتهم أم أن عقبات جمة في الطريق تمنعهم ؟ إذا كنا معنيين بالخطاب: فماذا نحن فاعلون.
*يُعد المقال خلاصة حوار فكري وعصارة تداول معرفي مع أستاذي الدكتور محمد باباعمي حول دلالة سؤال الأزمة الحضاري التي يمر بها العالم الإسلامي.
(2) توماس كوهن: بنية الثورات العلمية؛ ص: 169.
(3)علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب؛ ص: 310.
(4)محمد فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح؛ ص: 82.
(5)مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي؛ ص: 88.
(6)مالك بن نبي: دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين؛ ص: 33.
(7)نجد أن "الدالة الجيبية" أقرب لتمثيل حالة "التداول الحضاري" أو الدورة الخالدة للحضارة كما يصطلح الأستاذ مالك بن نبي؛ فهي بالإضافة إلى قدرتها على تفسير حالة "الحضارة" لكونها دالة مرتبطة بالزمن؛ فهي تقدم تمثلات لظواهر كونية عدة مثل الضوء، والصوت...
(8)محمد فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح؛ ص: 57.
(9)علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب؛ ص: 279-282.
(10)هذا الصنف وهم كثر ممن يفترض أنه يمكن أن يكون مسلما في المسجد، وداروينيا في المختبر والحياة: فغدا إسلامه القائم على "التدين المجرد" أقرب إلى المسيحية منه إلى الإسلام.