ثباتُ القيم على مدى قرونٍ من الزمن في قضيّةٍ ما، يفيد اقترانها بإيمانٍ مطلق من قبل جهةٍ ما بدون تأثيرات سلبيّة، ووضوح القيم واستقرارها في حركة السير إلى الهدف، يفيد ارتكاز هذه الجهة في هذه القضيّة على مرجعية إنسانية لابدّ وأن تكون متكاملة.
إنّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يُقاس بهم أحد، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لا يُقاس بآل محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) من هذه الأمّة أحد، ولا يُسوّى بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدِّين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة» (نهج البلاغة: الخطبة 2 ــ من خطبة له بعد انصرافه من صِفّين).
ونحن نعرف تماماً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان مثالاً للخضوع الكلّي لأمر الله تعالى، وله (سبحانه وتعالى) أسلَمَ واسترجع، ومن ذلك استهلّ الحسين (عليه السلام) خروجه من المدينة قاصداً كربلاء بالتصريح لأخيه محمّد بن الحنفية بأنّ الله تعالى قد شاء بأن يراه قتيلاً، وأن يرى نسائه سبايا (مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: 65، اللهوف للسيّد ابن طاووس: 40).
ثم إنّ إخباره (عليه السلام) السيّدة أُمّ سلمة (رضوان الله تعالى عليها) قبل خروجه من المدينة بمصيره المحتوم، وما سيؤول إليه أمرُه من قتلٍ وسبيٍ لأهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) من جهة قومٍ حملوا ثأراً جاهلياً، بقوله لها: «يا أمّاه، وأنا واللهِ أعلمُ ذلك، وإنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بُدٌّ، وإنّي واللهِ لَأعرف اليومَ الذي أُقتل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وأعرف من يُقتَل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي ... يا أُمّاه، قد شاء اللهُ أن يرانيَ مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مظلومين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يَجِدون ناصراً ولا مُعيناً» (لواعج الأشجان للسيّد محسن الأمين: 31)، وهذا الإخبار ــ بكلّ تأكيدٍ ــ فيه دلالة على تميّز الإمام الحسين (عليه السلام) بما هو فوق قدرة البشر من حيث الإرادة والعزيمة، فضلاً عن إخبارٍ أُخبِر به وأخبَرَ عنه.
وليس أعظم من تقديم الإمام الحسين (عليه السلام) طفلَه الرضيع قرباناً لله وإحقاقاً للحق، حين جعله حرملة طعمةً للسهم الخبيث فأصابه في رقبته! وهو (صلوات الله عليه) الذي سقى أعداءَه وخيولَهم الماء قبل وقوع المعركة، قائلاً لرهطه: «أُسقوا القوم وارْوُوهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»، وبادر بنفسه إلى سقي ابن طعّان المحاربي (تاريخ الأُمم والملوك للطبريّ: 4 / 301 طـ الاستقامة بمصر)، ومع ذلك لم يأمن طفلُه ردى سهامهم!
وتلك أنفسُ أنصاره في كربلاء وقد أبت التنعّم بالحياة وملذاتها، فسجّلوا لهم حضوراً خالداً، وهكذا عليّ الأكبر والقاسم وبرير وزهير والحرّ وحبيب ووهب وجون وعمرو بن جُنادة وأبوه جنادة، وجميع شهداء كربلاء.. ألم يرمِ العباس (عليه السلام) الماءَ من كفّيه وفاءً ومواساةً لأخيه العطشان (عليه السلام)، فرجع إلى الميدان يحارب، حتى قطع زيدُ بن ورقاء الجهني وحكيم بن الطفيل يمينه ويساره؟ ألم يدافع أنصار الحسين (عليه السلام) حتى آخر رمق من حياتهم عن إمامهم وسيّدهم الحسين (عليه السلام)، فنالوا ما نالوا من نعيم الدارين؟!
كان جلياً ما فعله يزيد في الشام، حينما تجاسر وتغنّى فرحاً بقتل الحسين (عليه السلام) وسبي عياله ونسائه، وواضحاً ما فعله أعوانه المفسدون في الأرض، حينما تسابقوا على رفع رأس الحسين (عليه السلام) على رأس رمح طويل، ورضّ صدره الشريف بحوافر خيولهم، تشفّياً لأحقادٍ بدرية وأحدية وحنينيّة وغيرهن.
ألم يتجرأ ابنُ زياد على سبايا أهل البيت (عليهم السلام) في الكوفة؟ ألم يقصد قتلَ الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو مريض، لولا تدخّل مباشر من عمّته السيدة زينب (عليها السلام)؟ ألم تبالغ القبائل من الكوفة إلى الشام في إظهار الفرح ونشر الزينة وابتداع يوم عيد، بمناسبة وصول رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس أنصاره والسبايا من أهل بيته، رغبةً في إرضاء أميرهم ابن زياد وخليفتهم يزيد؟ ألم تتجاسر أُمّ هجام (عليها لعائن الله ورسوله) على الرأس الشريف فترميه بالحجارة من شُرفة دارها؟!!
المواقف الحاسمة التي يمكن أن تشهد لأصحابها بالخير أو الشر في التاريخ كثيرة جداً، وإذا ما قُيّد عمل الخير بمرجعيةٍ معصومةٍ خالصة الإيمان، فإنّه سيكون خالداً، فكيف به إذا ما كان من ركّاب سفينة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فبلا شك أنها الأسرع.