إطلالة على فكر العلامة الكواكبي
سبب تخلف العرب و المسلمين
نصار جرادة
لا يحتاج المرء إلى عظيم ذكاء ليكتشف بأن السبب الرئيس لتخلف العرب والمسلمين هو الاستبداد والطغيان ، فالاستبداد مثبط للهمم ، قاتل للعزم ، مدمر للأرواح ، هادر للطاقات ، ناشر للنفاق والرياء بين مختلف فئات الشعب حكاما ومحكومين ، وله تجليات وشواهد كثيرة مخزية في تاريخنا العربي والإسلامي ، وهي أكثر من أن نحصيها ، وقد جلت بخاطري متأملا ومقارنا أحوال العالم والأقوام الأخرى من حولي بأحوال بني جلدتي من العرب والمسلمين فما وجدت إلا جهلا مركبا وتخلفا مزمنا وتأخرا عن اللحاق بركب التطور الإنساني في معظم المجالات، وما كان ذلك عائدا إلى عيب في جيناتنا بكل تأكيد ، فتلك الجينات أنجبت ألوفا من حاملي شهادة الأستاذية ( الدكتوراة ) يعملون في أرقى الصروح العلمية بالغرب ، وتحتفي بهم تلك الدول التي يعملون بها بقدر ما تحتفي بالأجلاء الكبار من علمائها و أبنائها البررة ..!!
يقول الشيخ العلامة عبد الرحمن الكواكبي رحمة الله عليه (1902-1851) في مقدمة كتابه الرائع الفريد طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد { كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط و في ما هو الدواء وحيث إنى قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي و دواءه دفعه بالشورى الدستورية ، وقد استقر فكري على ذلك بعد بحث دام ثلاثين عاما ، بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من أسباب ، بحيث يتوهم الباحث عند النظرة الأولى انه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله , ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء ، وأن ذلك فرع لأصل أو هو نتيجة لا وسيلة .
فالقائل مثلا : إن أصل الداء التهاون في الدين , لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في أمر الدين ؟
والقائل : إن الداء اختلاف الآراء , يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف ؛ فان قال سببه الجهل يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أشد و أقوى و هكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول : هذا ما يريده الله بخلقه , غير مكترث بمنازعة عقله و دينه له بأن الله حكيم عادل رحيم ..!! } وهو يقول في تعريف الاستبداد { الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي و الحقوق المشتركة والاستبداد اصطلاحا هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة أما الاستبداد وصفا فهو صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما ، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب أو عقاب محققين } كما يقول في وصف المستبد { المستبد عدو الحق , عدو الحرية و قاتلها ، والحق أبو البشر والحرية أمهم , و العوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا , والعلماء هم أخوتهم الراشدون , إن أيقظوهم هبوا و إن دعوهم لبوا و إلا فيتصل نومهم بالموت ..!! { ويستطرد في وصف المستبد بقوله } المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم , و يعلم من نفسه انه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق و التداعي لمطالبته } ويقول في معرض حديثة عن الاستبداد السياسي : { الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي ، إلى الفرّاش ، إلى كنّاس الشوارع ، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته ، وأنصار لدولته ، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، اباءهم أم اعداءهم ، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه ، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته ، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش الممجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة ، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة , وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً و قرباً ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة } . اما في معرض حديثه عن الاستبداد في شقه الديني فيقول : { المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً ...!! } .
ولقد صور الشاعر العربي حالة التأليه التي تقمصها حاكمنا العربي تاريخيا بقوله :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فأحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد و كأنما أنصارك الأنصار وكان ذلك عاكسا لوجود خلل خطير في نظام القيم الأخلاقية والدينية التي كانت ولا زالت تحكم مجتمعاتنا العربية منذ قرون ، ونتيجة لعدم وجود قانون دستوري يوضح ويبين شروط وكيفية تنصيب الحاكم فضلا عن أسباب وطرق عزله ومحاسبته وحدود صلاحياته الإدارية والمالية والقضائية والدينية . ومثال فج على ذلك ما قاله مروان ابن الحكم وارث حكم بني أمية في أول خطبة له وهو يوضح طريقة حكمه ويرسم السياسات العامة التي سوف يسير عليها :
أما بعد فإني لست الخليفة المستضعف يعني عثمان ، ولا الخليفة المداهن يعني معاوية ، ولا الخليفة المأفون (ناقص العقل) يعني يزيد ، ألا وإني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم ، وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ، ولا تعملون مثل أعمالهم ، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون أنفسكم ، والله لا يأمرن أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه .
ويقول الكواكبي رحمه الله أيضا : { تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول : يا بؤساء هذا قضاء من السماء لا مرد له ، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء ، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول ، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول ، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم : اللهم انصر سلطاننا ، وآمنّا في أوطاننا ، واكشف عنّا البلاء ، أنت حسبنا ونعم الوكيل } .
و يبين أيضا وجود تفرعات عديدة للاستبداد ويشرح علاقة الاستبداد الديني بالسياسي كحقل رئيسي أو أساسي لممارسة الطغيان فضلا عن الحقول الثانوية الأخرى كالعلم والمال والمجد والأخلاق والتربية والترقي . وفي مبحث الخلاص من الاستبداد يقول الكواكبي : { لا تثقوا بوعد من يتول السلطة أيا كان ولا بعهده ويمينه على مراعاة الدين والتقوى والحق والشرف والعدالة ومقتضيات المصلحة العامة وأمثال ذلك من القضايا الكلية المبهمة التي تدور على لسان كل بر وفاجر وما هي في الحقيقة إلا كلام فارغ لأن المجرم لا يعدم تأويلا ولأن من طبيعة القوة الاعتساف ولأن القوة لا تقابل إلا بالقوة } ويقول مستطردا ما ملخصه :
1- ثقوا فقط بقانون نافذ حكيم خال من الإيهام والتعقيد موضوع من قبل جمع يمثل الكافة ليكون ملب لإحتياجاتهم ومصالحهم .
2- امنعوا الحكومة من إيقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها – أي بدون الوسائط القانونية - إلا في ظروف مخصصة و مؤقتة .
3- راقبوا الحكومة وامنعوها أن تخصص بنفسها لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة ورواتب المال ، وأن تحابي من تشاء بما تشاء من حقوق الأمة وأموالها . وتحضرني في هذه النقطة بالتحديد شواهد تاريخية كثيرة حيث كان الحاكم على مدار تاريخنا (العربي الزاهر !!) كلما جاءه شاعر منافق مادحا يأمر له بعطاء جزيل يصل أحيانا لعشرات أو مئات الآلاف من الدراهم أو الدنانير – وقد كانت ذهبية - وهي مبالغ ضخمة تضاهي ثروة طائلة في زماننا هذا و هذا ليس من رصيده الشخصي بل من بيت مال المسلمين .
4- ثقوا بأن العدل ليس ما تراه الحكومة ، إنما ما يراه القضاة المصان وجدانهم من كل مؤثر غير الشرع والحق والقانون ومن كل ضغط حتى لو كان ضغط الرأي العام .
5- ضرورة الفصل و التفريق بين السلطات السياسية و الدينية و القضائية فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
6- نشر وتعميم الثقافة المناوئة للاستبداد بما لا يدع مجالا للحكومة للضغط او التأثير سلبا على العقول والأفكار و جعل التعليم الابتدائي عموميا بالتشويق أم بالإجبار , وإبقاء التعليم العالي والكتابة والبحث والتأليف مجالا مفتوحا حرا مطلقا .
و اختم بكلمات أعجبتني سطرها ناشر الكتاب في معرض تقديمه له حيث يقول :
أنه حقا لكتاب عظيم ، من المستغرب أن العرب لم يحفّظوه لأطفالهم فيستظهرونه ، وأنهم لم يقيموا لمؤلفه تمثالا ، فيتذكرونه ويقتدون به انه أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث ومرشدهم إلى التخلص من استبداد السلاطين ، والجميل فيه انه لا يصدر عن حقد ولا يدعو إلى انتقام وغير موجه إلى حاكم بعينه أو دولة محددة .
انه صرخة فيلسوف مؤمن عالم متألم يكشف أخطر داء يمكن أن يصيب شعبا من الشعوب ويصف له الدواء الشافي محاولا عدم بتر أي عضو من أعضاء الجسم . وهو كما يقول صاحبه عنه : كلمات حق ، وصيحة في واد ، إن ذهبت اليوم مع الريح ، قد تذهب غدا بالأوتاد ، فيا ليت قومي يعقلون .