الصنف الثالث: الكتّاب والباحثون المعترفون بعالم الروح الذين فسّروا الوحي تفسيراً يختلف عمّا تقدم تفسيره، فقد قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيبة الفجائية في ظروف حرجة، وهي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً فيحسبونها من ملائكة الله، هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيتهم الباطنية، فتعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل وتهديهم الى خير الطرق لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول ملك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله(1)..
ويبدو انّ الذي دعا هؤلاء - رغم اعترافهم بعالم ما وراء الطبيعة - الى هذا التفسير للوحي، هو ما وجدوه من مناقضة بعض محتويات الكتب المقدّسة للأديان الاخرى - وبالذات التوراة والإنجيل - لحكم العقل ولمكتشفات العلم الحديث، فبرّروا هذا التناقض بأنّه ناشىء من اختلاط هذه الإيحاءات النفسية على الرسول، بسبب ضعف في شخصيته الروحية، وعدم بلوغه المستوى الرفيع من السمو والشفافية لإدراك كل الواقعيات على ما هي عليه(2).
والجواب على هذا الادعاء:
أولاً: انّه كيف ينسجم السمو الروحي والعبقرية المفروضة للأنبياء - التي يعترفون بها - مع هذا الاختلاط الغريب عليهم بحيث لا يميزون بين الإيحاءات النفسية وتلقّي الوحي الالهي خاصة ما يكون توسط الملك الذي يشاهدونه؟! مع ان الإنسان العادي منزّه عن هذا الاضطراب، خصوصاً مع ملاحظة أن الوحي يلازم الأنبياء والرسل منذ بعثتهم الى وفاتهم، وليس حالة آنية طارئة، فكيف يتصوّر هذا الاختلاط عليهم طيلة هذه الفترة؟!
ثانياً: انّا نلاحظ نمطاً من الآيات لا يعقل استنادها إلى سمو الشخصية الباطنية للأنبياء، مثل آيات العتاب للأنبياء، وكذا بعض آيات الأحكام التعبدية الصرفة التي لا ترتبط بالجانب الروحي، والآيات التي تشير الى جوانب من الحياة الأخروية، خاصةً المرتبطة بجهنّم وعذاب الفاسقين، وغيرها من الآيات التي لا ترتبط مضامينها بالسمو الروحي والشخصية الباطنية للإنسان.
ثالثاً: انّ هذا التفسير للوحي نشأ من ملاحظة اضطراب كتب العهدين ونحوها ومناقضتها للعقل والعلم، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم، البعيد عن هذا التناقض والاضطراب.
رابعاً: ان سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يختلف تماماً عن سلوك الذين يفقدون التوازن الفكري بسبب اختلاط الايحاءات النفسية وعدم استيعابهم لمفردات العلوم الغريبة التي يهتمون بها، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) معروفاً بشخصيته المتميّزة و مواقفه الصلبة وقراراته الصائبة في الظروف الحرجة التي واجهته خلال مسيرته الرسالية. وتنزّه عن الشطحات والاضطراب السلوكي الذي ينتاب بعض أصحاب الاتجاهات الروحية، كالصوفية وغيرهم.
وقد اشارت بعض النصوص الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك، ففي الحديث عن زرارة بن أعين أنّه قال لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف لم يخَفْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قِبَل الله مثل الذي يراه بنفسه"(3).
وفي نص آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل: كيف علمت الرسلُ أنّها رسل؟ قال: "كُشف عنها الغطاء"(4).
وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): "إنّ الله وجد قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل القلوب وأوعاها فاختاره لنبوّته"(5).
ملاحظة هامة
يشير هذا النص الأخير إلى دقة الاختيار الالهي لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تحمّله لمسؤولية أداء رسالة الإسلام، وينطبق أيضاً على اختيار باقي الرسل الالهيين، فهم (صلوات الله عليهم) رغم الفتن والمآسي والاختبارات الصعبة التي واجهوها ورغم اختلاف العصور والظروف التي عاشوها استقاموا جميعاً ولم يضعف أي واحد منهم عن تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، فكان ذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(6).