في عُطلتي الأسبوعية -وأنا موجود في الريف- خالني شوق لزيارة أحد الفُضلاء الأكارم من أبناء القرية وقد أعياه الله بمرض أقعده عن الحركة، تفكرت طويلاً في حال..الحاج.." أمين"..وهو المعلول الذي أرجو من الله شفائه..اتصلت بالأستاذ "عيد" وهو الرجل الحكيم الذي حاورني بالأمس عن مفهوم"العدل" وعرضت عليه زيارة..الحاج.."أمين" في أقرب فرصة..فوافق على الفور واتفقنا على الميعاد بعد صلاة العشاء، صلينا العشاء في مسجد القرية وذهبنا للزيارة، وبعد استقبالنا بالترحاب دار هذا الحوار:
الأستاذ عيد:نسأل الله أن يُتم شفاءك ياحاج أمين فأنت الخير والبركة، ولكن والله أشعر بتحسن كبير وأنك تقارب الشفاء فتشجع يارجل كي تشاركنا العمل والمناسبات.
الحاج أمين:لا أعلم كيف أشكركم ياجماعة أنتم أصحاب واجب والجلوس معكم غنيمة يُسِرّ الله بها قلبي فأشعر بالبهجة..وحمد الله على السلامة ياأستاذ سامح على قدومك لنا بالسلامة.
قلت:الله يعزك ياعمي الحاج نحن نفتدك والله ونشعر بأننا نفتقد أحد رجال القرية العُظماء والمشهود لهم بالمودة والمروءة ونُصرة الضعفاء والمساكين.
الحاج أمين:ربنا يبارك فيك ياحبيبي والله أنه بحبك جداً ويكفي أنك جئتني في بيتي ...وخالص سلامي للسيد الوالد.
الأستاذ عيد: معذرة على قطع المجاملات ياجماعة ولكني أريد القول بأن ما يمر به الحاج أمين لا يختلف عليه اثنان أنه درجة عظيمة من درجات الصبر واحتساب الأجر..فنسأل الله أن يتم شفاء أخينا شفاءً تاماً لا يغادر سقما...وهنا أود سؤال الحاج أمين سؤال..كيف تحصل على هذا الصبر وبما تنصح الناس؟
الحاج أمين:المسألة فطرية من داخلي وأنا لم أقرأ شيئاً عن أحد فقط أنا أشعر بأن الله سيشملني برحمته بشفائي، وأنا وإن لم أجد هذا الشفاء في الدنيا سأجده خيراً وأعظم منه يوم أن ألقى الله وأنا صابر.
الأستاذ عيد: شعورك الفطري هل أجبرك عليه أحد ياحاج أمين؟ يعني لو قُدّر لك-الآن-أن تكون صحيح البدن هل ستطلب من الله أن يبتليك؟
هنا تدخلت في الحوار ورددت قائلا: ولكن ياأستاذ عيد لا أحد يطلب البلاء فالبلاء منبوذ من النفس البشرية ولا طاقة لإنسان أن يتحمل بلاءاً قد يُقعده عن مُتع ومباهج الدنيا.
الأستاذ عيد : أنا أسأل سؤالاً فقط لبيان ماهية التجربة لتمييز الصبر ووضوحه عند الحاج أمين ياسامح، يعني مثلاً لدينا قضية الكفّارات ونحن ندعو الله بأن يكفّر عنا ذنوبنا، فهل سنشترط على الله أن يبتلينا بمرض أو بشئ محدد؟!...لا طبعاً لا يفعل ذلك إلا من يدعو هذا الدعاء ولا يُحرك شيئاً بداخله لإنه إنسان غير مخلص وينظر لعلاقته مع الله كعلاقته مع مديره في العمل كلها نفع وضرر-ولله المثل الأعلى، بينما الأصل في عبادتنا لله أن نحب الله ونخشاه وفي ذات الوقت نطمع فيما عنده..يعني المسألة ليست كلها طمع في طمع وإلا لانعكس سلوكك مع الله على سلوكك مع نفسك والناس.
الحاج أمين: أنا فاهم ماذا تقصد ياأستاذ عيد ولولا تدخل الأستاذ سامح لرددت عليك بدلاً منه...الإجابة على سؤالك لا طبعاً أنا راجل بسيط ومن البيت للجامع للغيط ، وأولادي هم الذين يتكفلون برعاية أموالنا من البهائم إلى الغيط والمحصول، وأنا والله دعوت ربنا كثيراً أن يُكفّر عني سيئاتي ولم أشترط على الله شئ، ولكن وأنا أقرأ في القرآن قوله تعالى.." ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به"..كانت عيناي تدمع ، أما الآن وبعد مرور عام على مرضي وقد رزقني الله الصبر شعرت بأنني أعيش حياتي حياة عادية جداً وكأنه لا يوجد فارق بيني وأنا سليم وبيني وأنا مريض، بل بالعكس..وأنا مريض وجدت أناس طيبين أمثالكم يودونني ويحبونني وأنا لم أجد هذا الشعور –بهذا المقدار-وأنا صحيح البدن.
قلت: ما يشعر به الحاج أمين يُثبت فلسفتي في الحياة أن السعادة مركزها القناعة ومحاورها في الفضائل ودائرتها في الخير التام..فلولا أن الحاج أمين يشعر برضاءه عن نفسه وأعماله لما كان له أن يشعر بالسعادة في ظل مرضه والذي من المفترض أن يكون شعوره العكس، فهو المشهود له بالخير في القرية وفضائله على الصغير قبل الكبير، والعزلة عن هذا الواقع ليس أمراً هيناً.
الأستاذ عيد:هناك سعادات جزئية وسعادة كلية ياسامح..والصبر لابد له من سعادة كلية كي يستمر بنفس المقدار بل ويتعايش صاحبه معه كما حاله الأول، يعني مثلاً الحاج أمين تراه رجل هادئ الطبع ومحبوب ، لكن لو وقع -فيما وقع فيه الحاج أمين من مرض- رجل عنيف الطبع ومكروه من الناس هل سيصبر؟..هذا هو قصدي من تعدد السعادات..إن واحد مثل الحاج أمين قضية السعادة عنده كلية قبل أن يبتليه الله بأي شئ ، فإذا حدث عليه أي طارئ سلبي ستكون فرصته في الصبر كبيرة عن غيره، وهذه فضيلة إضافية لحُسن الخلق وكظم الغيظ والرُشد أنه حين البلايا تكون النفس أقرب للاتحاد مع العقل والسلوك..أما إنسان عنيف الطبع ومنتقم ولايبالي بالأخلاق هذا عند نزول أول نازلة به سيخرج عن اعتياده وتظهر حقيقته التي كان يحاول إخفاءها عن الكثيرين.
أما أنت ياحاج أمين فاحمد الله على هذه النعمة، لإنك إنسان طيب ومحبوب فقدّر الله لك أن لا تبتئس حين شدتك.
قلت: ألا ترى أستاذنا العزيز عيد أن قضية تعدد السعادات هذه قد تكون متوهمة –لديك-من أصل تأثير الفضائل على السلوك؟..يعني أنت حكمت وقلت بأن الإنسان الأقل صبراً هو الأقل أخلاقاً-هكذا أفهم-يعني بنفس منطقك فمؤثر الفضيلة هو معيار تعدد السعادة، وبالتالي أصبح سلوك الفضيلة يكفي للسعادة الكلية -الكافية للصبر-وبهذا تخرج الطبائع من كونها مؤثر إلى كونها أثر..لأن هناك من الناس من تكون طبائعهم سيئة الذكر ومع ذلك يفعلون الفضائل-أو بعضها.
الأستاذ عيد: طب ماهي الفضائل ترتبط بالتحكم في اللذة ياأخ سامح، هل هناك إنسان مفضال ومع ذلك شهواني؟!...سوء الطباع نفسها هي لذة عند صاحبها فهو يستمتع بالقهر والزجر بمثل استمتاعك بالجنس وبالتالي فحضور اللذة يعني حضور السعادة وهذه هي التي أقصدها.."بالسعادة الجزئية"..أنت تتوهم أن هناك فارق بين الفضيلة والطبع لكي يصنع عندك مؤثر لوحدة مفهوم"السعادة"...لأن السعادة لو هي واحدة ونوع واحد وجنس واحد ستجد أن الأقل صبراً ليس هو الإنسان عنيف الطبع بل ستجده رجلاً مفضالاً تعرض لضغوط فوق طاقته فلم يصبر كمثل من فقد أي محبوب لديه أو من شدة حزنه لطارئٍ ما ألمّ به..في مفهومي أرى أن هذا الرجل المفضال -الذي لم يصبر- هو في حقيقته سئ الطبع -بغض النظر عن الدرجة-لأنه لو كان حسن الطبع فلن يحزن لفقدان شئ لإنه إنسان يتعامل مع الأشياء بقلبه ووجدانه وليس بحواسه.
هنا دق جرس الباب معلناً عن ضيوف آخرين جاءوا لزيارة الحاج أمين..وبعد أن استقبلنا الضيوف بالسلام والترحاب،انهمك الحاج أمين مع الضيوف الجدد فوجدنا بعضنا أنا والأستاذ "عيد" ليسا مؤهلين لتكملة الحوار.