اللهم صل على محمد وآل محمد الاطهار وعجل فرجهم ورحمنا بهم
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغلب المهاجرين والاَنصار بالتوجه إلى غزو الروم تحت إمرة أُسامة بن زيد ، وكان على رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون (1) ، فطعنوا في إمارته وتثاقلوا حتى قام بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للاِمارة » (2).
وتثاقل كثير من الصحابة ولم يلتحقوا باُسامة ، وعصوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أغضبوه فأمرهم ثانية وثالثة حتى لعن المتخلفين وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « جهزوا جيش أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (3).
وفي رواية أنّه قال : « جهزوا جيش أُسامة ، أنفذوا جيش أُسامة ، أرسلوا بعث أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (4).
وعند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد أُسامة ومعه الجيش ينتظرون مصيره صلى الله عليه وآله وسلم وحينما علم بهم أمر أُسامة بالخروج وتعجيل النفوذ وجعل
____________
1) الكامل في التأريخ 2 : 317 .
2) صحيح البخاري 5 : 179 . وآفة أصحاب الحديث : 12 . والكامل في التأريخ 2 : 317 . وبنحوه في الطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 190 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 112 .
3) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 29 . وشرح نهج البلاغة 6 : 52 .
4) آفة أصحاب الحديث : 12 .
يقول : « أنفذوا بعث أُسامة » ويكرّر ذلك (1).
ولقد كان اعتراضهم على إمرته ثم اعتذارهم عن الخروج معه بمرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاولةً منهم للتغطية على المرض الكامن في قلوبهم !!
وفي رواية ثانية :
ب بعث اسامة
مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي انتقل به إلى الرفيق الاعلى ، فوجس منه خيفة الفراق ، وهو يعلم ان امته على شفا جرف هار من بحر للفتن متلاطم والعرب مغلوبة على أمرها تحرق الار 0. م عليه وعلى قومه واهل بيته ، وتنتهز الفرص للوثوب لاخذ ثأرها وهو على حذر منهم ، والمنافقون بالمرصاد بين ظهراني المسلمين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويعدون من اصحابه وهو على المسلمين منهم احذر ، وليس عهد دحرجة الدباب في العقبة ببعيد . واكثر من ذلك هذه الاخبار ترد بخروج الاسود العنسي ومسيلمة يدعيان النبوة فتتكاثر أتباعهما .
ما أشد حال النبي وحزنه ، وهو يستدبر امة هذه حالها وهي تستقبل الفتن كقطع الليل المظلم كما في الحديث . وقد رأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر في حديث آخر (1) .
ولكنه في هذا الموقف الدقيق مع ذلك يرمي بجيشه
____________
(1) صحيح مسلم 8 : 168 باب نزول الفتن .
اللجب إلى مكان سحيق ، إذ يعقد اللواء بيده للشاب اسامة بن زيد أميرا على الجيش بعد يوم واحد من ابتداء شكاته ، بعد ان كان امرهم بالبعث قبل ابتداء مرضه . ثم يضم تحت لوائه شيوخ المهاجرين والانصار وجلتهم ووجوههم منهم أبو بكر (1) وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابو عبيدة وسعد بن ابي وقاص واسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم ، ليحارب بهم اهل أبنى بناحية البلقاء من ارض الشام اولئك قتلة ابي اسامة زيد من الروم .
ثم يشدد في الخروج ويلعن المتخلف منهم ويغضب ذلك الغضب لتباطؤ القوم ولغطهم حول تأمير فتى يافع على
____________
(1) صرح بدخول ابي بكر في البعث اكثر المؤرخين ، منهم ابن سعد في طبقاته : ( 4 : 46 ) و( 4 : 136 ) وابن عساكر في التهذيب ( 2 : 391 ) و( 3 : 215 ) وصاحب كنز العمال ( 5 : 312 ) . وصاحب تاريخ الخميس ( 2 : 172 ) واليعقوبي في تاريخه ( 2 : 93 ) وابن ابي الحديد ( 2 : 21 ) ومحمد حسين هيكل من المتأخرين في حياة محمد ( 467 ) وغيرهم مما لا يحصى . ولم نجد تصريحا ولا تلويحا لاحد من المؤرخين بخروجه من جيش اسامة . وانما يكتفي بعضهم بقول « وجوه المهاجرين » وما يؤدي هذا المعنى بدون تصريح باسم أحد ، ولكن بعضهم المؤلفين الجدليين حاول انكار دخوله من غير حجة ظاهرة .
شيوخ المسلمين ، فيقول : « ان تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة ابيه من قبل وإيم الله ان كان لخليقا للامارة وان ابنه من بعده لخليق للامارة » .
لشد ما يعتلج العجب في نفوس المتفكرين من هذا الحادث ، فيعجب الانسان .
« اولا » ان تسند قيادة اعظم جيش اسلامي يومئذ ، في ذلك الظرف الدقيق الذي وصفناه ، في مرض النبي ، إلى شاب يافع لم يتجاوز العشرين من سنيه ( على جميع التقادير ) ، وهو لم يجرب الحروب بعد وبالاصح لم تسند إليه قيادة من هذا النوع ولا من نوع آخر . والجيش معبأ لجهاد اقوى اعداء الاسلام في ذلك الموقع البعيد عن العاصمة الاسلامية .
« ثانيا » أن يؤمر هذا الفتى ، مع ذلك ، على شيوخ المسلمين الذين فيهم قواد الحروب ورؤساء القبائل واصحاب النبي الذين يرون لانفسهم مقاما اسمى ومنزلة رفيعة . ويرشحون انفسهم لمنصب هو أعظم كثيرا من منصب قائدهم الصغير هذا .
« ثالثا » ان يتباطأ المسلمون عن الالتحاق بهذا البعث بالرغم على اصرار النبي وتشديده النكير على المتخلفين ولعنه اياهم .
ويكفي ان نعرف ان البعث وقع قبيل شكاته أو في أولها وقد استدامت علته اربعة عشر يوما ( على اوسط التقادير ) . وفي كل هذه المدة الطويلة يثاقل القوم عن الخروج . وقد عسكر قائدهم الفتى بالجرف ، وهو عن المدينة بفرسخ واحد ( بعد ان عقد النبي له الراية بيده الشريفة ) ينتظر جيشه المتمرد ان يجتمع إليه ، فتخلق الاشاعات عن حال النبي فيرجع اسامة إلى المدينة برايته فيركزها على باب النبي ، ولكن الرسول في كل مرة يأمره بالعودة ويحث القوم على الالتحاق به . ولكنه في اليوم الاخير يرجع مرتين في المرة الاولى يأمره النبي بالسير قائلا : ( اغد على بركة الله تعالى ) فيودعه ويخرج ، وفي المرة الثانية يرجع ومعه عمر وأبو عبيدة فيجد النبي يجود بنفسه ، ثم يلتحق بالرفيق الاعلى .
فماذا دهى المسلمين حتى خالفوا الصريح من أمر النبي هذه المدة الطويلة من غير حياء منه ولا خجل ولا خوف من الله ورسوله وتوطنوا على غضبه ولعنهم جهارا ، أتراهم استضعفوا النبي وهو مريض شاك فتمردوا عليه ، أم ماذا ؟
« رابعا » ان ينكر هؤلاء المسلمون على نبيهم تأميره لهذا الفتى ، ثم لا يرتدعون ان نهاهم عن ذلك . وليس لهم على كل حال حق هذا الانكار إذا كانوا حقا قد تغذوا بتعاليم الاسلام وعرفوا ان النبي لا ينطق عن الهوى وما كان لهم الخيرة .
( خامسا ) ان النبي قد علم بقرب أجله ويعلم ان الفتن قد أقبلت كقطع الليل المظلم ، فكيف يبعد جيشه وقوته عن العاصمة ومركز الدعوة ، بل كيف يخلي المدينة من شيوخ المهاجرين والانصار وزعمائهم واهل الحل والعقد منهم .
فلا بد أن يكون كل ذلك لامر ما عظيم ، اكثر من هذه الظواهر التي يتصورها الناس .
فهل نجد حلا لهذه المشاكل تطمئن إليه النفس الحرة ، بعد عرفاننا للنبي وعظمته وانه لا يفعل ولا يقول إلا عن وحي وسر إلهي .
لم يصح عندنا تفسير لمشاكل هذا الحادث إلا بأن نقول انه « ص » اراد :
( أولا ) ان يهيئ المسلمين لقبول « قاعدة الكفاية » في ولاية امورهم ، من ناحية ، عملية ، فليست الشهرة ولا تقدم العمر هما الاساس لاستحقاق الامارة والولاية ، فإذا قال عن اسامة مؤكدا جدارته بالقسم ولام التأكيد : « وايم الله ان كان لخليقا للامارة يعني زيدا وان ابنه لخليق للامارة » .
وإذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي على الاقل ان فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه ، أفلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس إلى وجوه المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين ؟ وهذا ما يفسر به المشكل الاول والثاني في هذا البعث .
و( ثانيا ) ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة . وقد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته ولا سيما على علي ، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده . ولذا نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول إلى الرئاسة ، ولم يدخل فيه عليا ولا احدا ممن يميل إليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لابي بكر ، فلم يذكر واحد منهم في البعث ، وهم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون .
وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول ، مع اصراره « ص » ؟ ذلك الاصرار العظيم . ولم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم ، فاعتذروا بصغر قائدهم ، وفي هذا كل معنى التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح .
فكان الغرض اخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الامر له ، بعد ان اتضح للنبي ان التصريحات بخلافته لا تكفي وحدها للعمل بها عندهم ، كما امتنعوا عن السير تحت لواء اسامة وهو لا يزال في قيد الحياة ، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في بعثهم هذا يرجعون وقد تم كل شيء لخليفته المنصوب من قبله ، فليس يسعهم إلا ان ينضووا حينئذ تحت جماعة المسلمين ورايتهم .
و( ثالثا ) ـ ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة ، ليقيم الحجة لهم وللناس بأن من يكون مامورا طائعا لشاب يافع ولا يصلح لامارة غزوة موقته كيف يصلح لذلك الامر العظيم وهو ولاية امور جميع المسلمين العامة ، وهي في مقام النبوة وصاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم .
وزبدة المخض ان بعث اسامة لا يصح أن يفسر إلا بأنه تدبير لاتمام أمر علي بن ابي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من تقدم النص على علي وقرب أجل النبي « ص » ؟ وعلمه بأن هناك من لا يروق له ولاية ابن عمه ، وبمقتضى الدلائل الموجودة في الواقعة نفسها : من تأمير فتى يافع وتكديس وجوه القوم وقوادهم في البعث وعدم دخول علي ومن يميل إليه وامتناع جماعة عن الالتحاق بالجيش وحث النبي على تنفيذه وغضبه من اعتراضهم وتخلفهم ، وهو في مرض الفراق والظرف دقيق على المسلمين .
فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لاخلاء المدينة لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنه ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم . فإذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فان الحجة ثابتة مع الدهر .
ولا يصح للباحث ان يدعي إن السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بامارة قائدهم الصغير ، وان تذرعوا به عذرا لاخفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من اخزم ، لانا نرى ان لو كان هذا هو السبب الحقيقي ، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي ، والمسلمون إلى النبي اطوع منهم إلى ابي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد . ولم يتأب عمر نفسه بعد ذلك ان يخاطب اسامة بالامير طيلة حياته اعترافا بامارته .
اما الشفقة على النبي ان لم تكن عذرا آخر تذرعوا به فلا يصح ان تكون سببا حقيقيا ، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث ، وقد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال ومرض . ولئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر برا بنبيهم من أن يعصوا امره ويغضبوه ذلك الغضب المؤلم له .
ولو ان القوم كانوا قد امتثلوا الامر لاصابوا خيرا كثيرا ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال « ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون »
ولما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين وتطاحن وحروب دموية انهكت قوى الاسلام واضعفت روحية الدين حتى انفصمت عرى الجامعة الاسلامية سريعا وانتهكت حرمات الاحكام الدينية ، فعاد الاسلام كما نشاهد اليوم غريبا كما بدئ .
أي أمر عظيم وتدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل خلاف يحدث ؟ « وكل أفعاله عظيمة » لو تم ما اراد . ولكن لا امر لمن لا يطاع .