راحة الأرواح للشيخ الجليل الحسن الإمامي السبزواري، عن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ أبي جعفر الطوسي، عن أبيه، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، عن محمد بن أحمد بن مخزوم المقري مولى بني هاشم، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن علي القرشي، عن محمد بن يسار الجعفي، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن المسيب المخزومي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس (ح) إرشاد الديلمي بحذف الإسناد، عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس -واللفظ للإرشاد- قالا: (كنا جلوسا عند أبي بكر في ولايته و قد أضحى النهار، وإذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره، وكثر صهيل أهل خيله، و إذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلا، فأقبل حتى نزل عن فرسه ودخل المسجد، ووقف بين بأزاء أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره. ثم قال: أ عدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل، وما ارتفعت إلى هذا المكان إلا كما يرتفع الطافي من السمك على الماء، و إنما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك وسياسة الجيوش وتقديم العساكر، وأنت بحيث أنت، من لعين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلة التحصيل، لا تحمي ذمارا، ولا تضرم نارا، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد ضحاك خيرا. إني رجعت منكفئا من الطائف إلى جدة في طلب المرتدين، فرأيت علي بنأبي طالب ومعه رهط عتاة من الدين، شزرات أعينهم من حسدك بدرت حنقا عليك، وقرحت آماقهم لمكانك. منهم ابن ياسر، والمقداد، وابن جنادة، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعله من ولد عقيل أخيه. فتبين لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشح علي بدرع رسول الله ص، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب، وقد نزل علي على عين ماء اسمها روية. فلما رآني اشمأز وبربر، وأطرق موحشا يقبض على لحيته. فبادرته بالسلام استكفاء شرية واتقاء وحشته، فاستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزل، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته.فناداني ابن ياسر بقبيح لفظه ومحض عداوته، فقرعني هزوا بما تقدمت به إلي بسوء رأيك. فالتفت إلي الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه:أو كنت فاعلا يا أبا سليمان؟ فقلت له: إي والله، لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك. فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلي طبعه الذي أعرفه به عند الغضب، فقال: يا ابن اللخناء أو مثلك ممن يقدر على مثلي لو يجسر أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة ويلك إني لست من قتلاك ولا من قتلى صاحبك، وإني لأعرف بمنيتي منك بنفسك. ثم ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني، فدعا إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمد عنقي بكلتا يديه و أداره في عنقي، ينفتل له كالعلك المسخن. وأصحابي هؤلاء وقوف حولي، ما أغنوا عني سطوته، ولا كفوا عني شرته، فلا جزاهم الله عني خيرا، فإنهم لما نظروا إليه كأنهم نظروا إلى ملك موتهم. فو الذي رفع السماء بلا أعماد، لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشد العرب فما قدروا على فكه، فدلني عجز الناس عن فتحه أنه سحر منه أو قوة ملك قد ركبت فيه. ففكه الآن عني إن كنت فاكه، وخذ لي بحقي إن كنت آخذه، وإلا لحقت بدار عزي ومستقر مكرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الديار. فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟ كأن ولايتي ثقل على كاهله، وشجا في صدره. فالتفت إليه عمر فقال فيه دعابة: لا تدعه حتى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في خلده، فجريا منه مجرى الدماء لا يدعانه حتى يهينا منزلته، ويورطاه ورطة الهلكة. ثم قال أبو بكر لمن حضر: أدعوا إلي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفك هذا القطب غيره - وكان قيس رجلا طويلا، طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار، وكان أشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين ع. فحضر قيس فقال له: يا قيس إنك من شدة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب من عنق أخيك خالد، فقال قيس: ولم لا يفكه خالد عن عنقه، قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان وهو نجم عسكركم، وسيفكم على أعدائكم كيف أقدر عليه أنا. قال عمر: دعنا من مزحك وهزلك وخذ فيما حضرت له، فقال: أحضرت لمسألة تسألونها طوعا، أو كرها تجبروني عليه، فقال له: إن كان وإلا فكها، قال قيس: يا ابن صهاك خذل الله من يكرهه مثلك، إن بطنك لعظيمة وإن كرشك لكبير، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك بعجيب، فخجل عمر من كلام قيس بن سعد، وجعل ينكث أسنانه بأنامله. فقال أبو بكر: دع عنك ما بدأ لك به أقصد لما سألت، فقال قيس: والله لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم وحدادي المدينة، فإنهم أقدر على ذلك مني. فأتوا بجماعة من الحدادين، فقالوا: لا ينفتح حتى نحميه بالنار. فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضبا فقال: و الله ما بك من ضعف عن فكه، ولكنك لا تفعل فعلا يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من أن أباك رام الخلافة ليبتغي الإسلام عوجا، فحصد الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعز الإسلام بوليه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق. قال: فاستشاط قيس بن سعد غضبا وامتلأ غيظا، فقال: يا ابن أبي قحافة إن لك عندي جوابا حميا، بلسان طلق، وقلب جري، ولولا البيعة التي لك في عنقي لسمعته مني، والله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة لي في علي بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك﴿إلا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا﴾، أقول قولي هذا غير هائب منك ولا خائف من معرتك، ولو سمعت هذا القول منك بداة لما فتح لك مني صلحا. إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنه رجل لا يقعقع باللسان ولا يغمز جانبه كغمز التبنة، ضخم صنديد، وسمك منيف، وعز بازخ أشوس بخلافك والله أيتها النعجة العرجاء والديك النافش، لا عن صميم، ولا حسب كريم، وأيم الله لئن عاودتني في أبي لألجمنك بلجام من القول يمج فوك منه دما، فدعنا نخوض في عمايتك، ونتردى في غوايتك، على معرفة منا بترك الحق واتباع الباطل. وأما قولك إن عليا إمامي، فوالله ما أنكر إمامته ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهدا بإمامته وولايته يسألني عنه، فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحب إلي أن أنقض عهدالله وعهد رسوله وعهد وصيه وخليله، وما أنت إلا أمير قومك، إن شاءوا تركوك وإن شاءوا عزلوك. فتب إلى الله مما اجترمته، وتنصل إليه مما ارتكبته، وسلم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيما بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، وتعلم أي الفريقين ﴿شر مكانا و أضعف جندا﴾. وأما تعييرك إياي بإنه مولاي، فهو والله مولاي ومولاك ومولى المؤمنين والمسلمين أجمعين، آه آه أنَّى لي بثبات قدم، أو تمكن وطء حتى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة، ولعل ذلك يكون قريبا، ونكتفي بالعيان عن الخبر. ثم قام ونفض ثوبه ومضى، فندم أبو بكر عما أسرع إليه من القول إلى قيس، وجعل خالد يدور في المدينة و القطب في عنقه أياما. ثم أتى آت إلى أبي بكر فقال له: قد وافى علي بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينه، واحمر وجهه، فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله ص.فأتياه فقالا: يا أبا الحسن إن أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول الله ص، فلم يجبهما، فقالا: يا أبا الحسن ما ترد علينا فيما جئناك له؟ فقال: بئس والله الأدب أدبكم، أليس يجب على القادم أن لا يصير إلى الناس في حوائجهم إلا بعد دخوله في منزله؟ فإن كان لكم حاجة فأطلعوني عليها في منزلي حتى أقضيها إن كانت ممكنة إن شاء الله تعالى. فصار إلى أبي بكر فأعلماه بذلك، فقال أبو بكر: قوموا بنا إليه، ومضى الجمع بأسرهم إلى منزله، فوجدوا الحسين ع على الباب يقلب سيفا ليبتاعه، قال له أبو بكر: يا أبا عبد الله إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك، فقال: نعم. فاستأذن للجماعة فدخلوا و معهم خالد بن الوليد، فبادر الجمع بالسلام، فرد عليهم السلام، فلما نظر إلى خالد قال: نعمتصباحا يا أبا سليمان، نعم القلادة قلادتك. فقال خالد: والله يا علي لا نجوت مني إن ساعدني الأجل. فقال له علي ع: أف لك يا ابن وسيمة، إنك والذي فلق الحبة وبرأ النسمة عندي لأهون، وما روحك في يدي لو أشاء إلا كذبابة وقعت على إدام حار فطفقت منه، فاغن عن نفسك غنائها، ودعنا بحالنا حلما، وإلا لألحقنك بمن أنت أحق بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى، وخذ فيما بقي، والله لا تجرعت من الجرار المختمة إلا علقمها، فوالله لقد رأيت منيتي ومنيتك وروحي وروحك، فروحي في الجنة وروحك في النار. قال: وحجز الجميع بينهما وسألوه قطع الكلام. فقال أبو بكر لعلي ع : إنا ما جئناك لما تناقض به أبا سليمان، وإنما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيما على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، و لا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك ويزيدك تنويما إلى تنويمك. فقال علي ع :لقد أوحشني الله منك ومن أصحابك ، وآنس بي كل مستوحش، وأما ابن الوليد الخاسر، فإني أقص عليك نبأه، إنه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع مني في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجهل، فوضعت منه عندما خطر بباله، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله، فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلة رغبتك في الجهاد، أ فبهذا أمرك الله ورسوله، أم من نفسك تفعل هذا؟ فقال علي ع :يا أبا بكر وعلى مثلي يتفقه الجاهلون، إن رسول الله ص أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال لي: يا علي ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة، فاصبر، أنت كبيت الله من دخله كان آمنا ومن رغب عنه كان كافرا، قال الله عز و جل ﴿و إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا﴾، وإني وأنت سواء إلا النبوة، فإني خاتم النبيين و أنت خاتم الوصيين، وأعلمني عن ربي سبحانه بأني لست أسل سيفا إلا في ثلاثة مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، ولم يقرب أوان ذلك بعد، فقلت: فما أفعل يا رسول الله بمن ينكث بيعتي منهم ويجحد حقي؟ قال: فاصبر حتى تلقاني، وتستسلم لمحنتك حتى تلقى ناصرا عليهم. فقلت: أ فتخاف علي منهم أن يقتلونني؟ فقال: تالله لا أخاف عليك منهم قتلا ولا جراحا، وإني عارف بمنيتك وسببها، وقد أعلمني ربي، ولكني خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين وهو حديث، فيرتد القوم عن التوحيد. ولولا أن ذلك كذلك، وقد سبق ما هو كائن، لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن، ولرويت أسيافا، وقد ظمئت إلى شرب الدماء، وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزري، ونعم الخصم محمد ص والحكم الله عز وجل. فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنا لم نرد هذا كله، ونحن نأمرك أن تفتح الآن من عنق خالد هذه الحديد، فقد آلمه بثقله وأثر في حلقه بحمله، وقد شفيت غليل صدرك منه. فقال علي ع: أولو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء وأقرب للفناء، ولو قتلته والله ما فديته برجل ممن قتلهم يوم فتح مكة وفي كرته هذه، وما يخالجني الشك في أن خالدا ما احتوى قلبه من الإيمان على قدر جناح بعوضة، و أما الحديد الذي في عنقه فلعلي لا أقدر على فكه، فليفكه خالد عن نفسه أو فكوه أنتم عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدعونه صحيحا. فقام إليه بريدة الأسلمي وعامر بن الأشجع فقالا: يا أبا الحسن والله لا يفكه عن عنقه إلا من حمل باب خيبر بفرد يد، ودحا به وراء ظهره، حمله وجعله جسرا تعبر الناس عليه وهو فوق زنده، وقام إليه عمار بن ياسر فخاطبه أيضا فيمن خاطبه، فلم يجب أحدا، إلى أن قال له أبو بكر: سألتك بالله و بحق أخيك المصطفى رسول الله إلا ما رحمت خالدا وفككته من عنقه. فلما سأله بذلك استحيى، وكان ع كثير الحياء، فجذب خالدا إليه، وجعل يجذب من الطوق قطعة قطعة ويفتلها في يده، فانفتل كالشمع. ثم ضرب بالأولى رأس خالد، ثم الثانية، فقال: آه يا أمير المؤمنين،
فقال أمير المؤمنين ع:
قلتها على كره منك، ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك،
ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله عن عنقه. وجعل الجماعة يكبرون ويهللون ويتعجبون من القوة التي أعطاها الله سبحانه أمير المؤمنين ع، وانصرفت شاكرين