بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
الصنمية الحزبية والدينية
حينما بدأ الفتى ابراهيم مسيرته الدعوية الى عبادة الله الواحد الاحد بعد ان أيقن وجوده بعد رحلة طويلة من الصراع مع الذات التي اعتادت الايمان بالملموس دون الغيب شعر انه في بداية طريق طويل وشائك لتغيير مجتمعه الذي ادمن عبادة الاصنام . القرآن الكريم صور لنا الصراع الذي خاضه ابراهيم عليه السلام مع ذاته اولا ً ومع مجتمعه ثانيا ً بقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ).
ميزة ابراهيم انه استطاع ومنذ الوهلة الاولى تحديد مرض الصنمية الذي أ ُصيبَ به ابناء قومه؛ ذلك العضال الخطير الذي يؤدي في النهاية الى عبادة الرموز او الاشخاص وتعطيل العقل وشل الفكر من خلال الايحاء بأمتلاك الصنم القدرة الخارقة التي تجعله آلها وتمنحه الحصانة من النقد او حتى مجرد التفكير بحقيقته سواء كان حجارة كما هو الحال مع آلهة قوم ابراهيم وآلهة قريش والمعروفة باللات والعزى وهبل او كان الصنم شخصا كما هو الحال مع فرعون الذي ادعى الربوبية والالوهية.
بعد ان تيقن ابراهيم بالله كخالق وصانع وموجد لهذا الكون العظيم وانه تعالى شأنه أكبر من ان تدرك كنهه العقول وان الاصنام ما هي الا موجودات ابتدعها البشر وانها تحتاج في وجودها الى موجد فهي بالتالي ناقصة غير كاملة لانها محتاجة في وجودها لغيرها بينما الله واجد لنفسه بنفسه غير محتاج للآخرين غني حميد. بعد ان تيقن كل ذلك قرر الفتى ابراهيم ان يوصل اكتشافه ويقينه الى قومه المنوميين بأفيون الصنمية ومن أجل ذلك اختار اصعب الطرق وأكثرها خطورة ان قرر تحطيم اصنامهم التي يعبدون فيصدمهم بفعلته هذه ويجعلهم وجها لوجه امام الحقيقة المرة التي لا يريدون معرفتها.
حمل فأسه وراغ ضربا ً على الاصنام حطمها وتركه في جمجمة أكبرها (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ )؛ علم قومه بذلك فوقعت الواقعة وجن جنونهم وراحوا يتساءلون بينهم عمن فعل هذه الفعلة (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) عندها بدات رحلة الآلام للفتى المؤمن وكان من أمر حرقه بالنار ماكان . كل ذلك اراد به ابراهيم القضاء على الصنمية التي تعمي القلوب قبل العيون وتجعل الفرد أسير الرمز (الصنم) لا يفكر الا بما يفكر به صنمه ولا يتكلم الا بما يتكلم به صنمه ويصل به الامر ان يزين سوء افعال صنمه ويبررها بشتى الاعذار دونما يكلف نفسه عناء التفكر والتبصر ولو للحظة بحقيقة صنمه مع ان الله جعل التفكر افضل العبادة ( تفكر لحظة افضل من عبادة سبعين عاما).
و في الشرق نقف اليوم وجها ً لوجه مع الصنمية الجديدة القديمة لكنها هذه المرة بلبوس الاحزاب والقادة السياسيين. نستطيع ان نسجل ظاهرة خطيرة يعاني منها مجتمعنا الشرقي الا وهي ظاهرة (الصنمية الحزبية). فالحزب او قائد الحزب تحول الى صنم يعبده الاعضاء من حيث يشعرون او لا يشعرون وتشترك في هذه الظاهرة الاحزاب جميعا دينية كانت او علمانية. والحقيقة ان هذه الظاهرة هي وليدة الاحزاب الشمولية ومن النادر بما كان ان تجدها في الاحزاب الديمقراطية الليبرالية.ولا نذهب بعيدا فالعراق باعتباره بلدا شرقيا يصلح ان يكون نموذجا لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة.
ففي منتصف القرن المنصرم شهد العراق أزدهارا ونموا كبيرا لظاهرة (الصنمية الحزبية) ومن عاش تلك الفترة يتذكر جيدا كيف ان الاسرة العراقية تصدعت بفعل الانتماء الحزبي المتنوع لأفرادها. فقد يكون احد افراد الاسرة بعثياً وآخر قوميا ً والثالث شيوعياً والرابع اسلاميا حيث ينتقل صراع الاحزاب الى داخل الاسرة الواحدة وبدل من ان تكون الحزبية عنصر قوة وبناء في المجتمع تحولت الى عنصر ضعف وهدم حتى أخبرنا من عاش تلك الفترة كيف ان الاخ راح يكيد لأخيه بل اكثر من ذلك منهم من راح يسحل جيرانه او أقربائه المختلف معهم حزبيا بالشوارع بعد ان تمكن حزبه من الوصول الى السلطة واذا ما قدر للحزب المعارض النجاح في احداث انقلاب مشؤوم كانت احواض التيزاب بانتظار اعضاء الحزب الحاكم وهكذا تستمر الحياة السياسية دواليك.
سبب كل ذلك ان الفرد المنتمي يتخذ من حزبه او زعيم تنظيمه صنما يعبده فأذا ما صادف ان شخصا آخر انتقد صنمه فستثور ثائرته ويبدء بجمع الحطب لحرق من سولت له نفسه الاساءة الى الصنم كما فعل قوم ابراهيم معه.
ان خطورة ظاهرة (الصنمية الحزبية) تتمثل بانها تهئ الارضية لقيام الديكتاتورية كما انها تعني الوقوف ضد مبدأ التعددية الفكرية والسياسية وهو مبدأ اصيل في التكوين بأسره اذ خلق الله التعدد ملازما للبشر كما جعل الاختلاف سنة ً اجتماعية بل جعله من آياته (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) والمقصود بالالسن الافكار والروؤى والتصورات التي يعتنقها الانسان ويعبر عنها باللسان الذي هو ألاداة الناطقة وليست الموجدة لتلك الافكار.
لم يصل الغرب الى ما وصل اليه من هذا الرقي والتطور الا حينما قضى على الصنمية الحزبية والفكرية التي كانت ممثلة بالكنيسة التي أدعت امتلاكها الحق المطلق وكذلك حينما استطاع الانتصار على النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية والشيوعية الاستالينية.
وأخيرا اذا ما اراد العراقيون اليوم بناء دولة عصرية فعليهم نبذ الصنمية الحزبية والايمان بالعمل الحزبي كآلية ووسيلة لخدمة المجتمع كما هو الحال عليه في الغرب لا كغاية في حد ذاتها . وكذلك نحتاج ايضا الى تأميم العمل الحزبي والسياسي أي جعل التصدي لقيادات الاحزاب أمرا مشاعاً وفي متناول أبناء الطبقات المسحوقة والمحرومين وتخليصه من هيمنة الاقطاعيات السياسية و الدينية والأخيرة أخطر لانها تسعى الى جمع الرئاستين أي الرئاسة الدينية والرئاسة السياسية من أجل ضمان مصالحها الطبقية التي عادة ما تكون على حساب المستضعفين الذين تحولهم الى عبيد مستغلة حبهم للدين واحترامهم للعلماء وهذا ما نراه اليوم في وسط وجنوب العراق.
فحينما نرى غلمان الاحزاب عامة والدينية منها خاصة يصلون الى مرحلة نقد أحزابهم وزعمائهم وعدم تكفير أو تخوين من ينتقدهم نكون قد وضعنا قدمنا في جادة الصواب وحينها نكون قد التحقنا بركب الحضارة والتي لا يصله الا من طهر قلبه من ادران الصنمية الحزبية او تآليه الرمز الحزبي. لكم هو الفرق عظيما بين الفتى ابراهيم وبين غلمان الاحزاب الدينية التي تنتسب الى شرعة ابراهيم ! والعاقبة للواعين.