كلمة الإعلامية لميس ضيف لجلسة الإفلات من العقاب ,,
في العام 2004 كنت اعمل كمتطوعة ضمن لجنة حقوقية لرصد الانتهاكات ومساعدة المعذبين عندما دخل شاب بهي الطلة يماثلني عمراً ووضع مغادرتي كشرط للتحدث مع اللجنة التي كان قوامها حقوقيين مخضرمين ، خرجت يومها مع إحساس ثقيل بالمهانة وما هي إلا دقائق حتى خرج ذات الشاب مهرولاً وقد بلل بنطالة ، أشحت بنظري تفادياً لإحراجه ولكن عيناي ألتقت بعينية عرضاً ولا زلت حتى اليوم أذكر نظرته : مزيج لا مسمى له من القهر ، الوجع، الغضب والخزي والإنكسار..
لاحقاً عرفت أنه أحد معتقلي التسعينات الذين اعتقلوا وعذبوا بشراسة ، كان فتى يافعاً وقتها وقد هتك عرضه مراراً وعلق في السقف وأجبر على قضاء حاجته في مكانه وضرب على كليته ومثانته حتى تعطلت وظائفهما .. بعد تجربته المريرة تلك ، وفي سن مبكرة كهذه ، ظل هذا الشاب عاجزاً عن النوم لليال ممتدة ، ويعاني من التبول اللاإرادي والعزلة والاكتئاب ، ففي مجتمعاتنا المحافظة من السهل ان تتحول من ضحية لفرد منبوذ .. لا يتزوجك أحد بل ويتحرج الناس من مصادقتك بعد أن أهُدرت رجولتك ..
شاب كهذا ليس بنموذج فريد في دولة كالبحرين كان التعذيب وكافة أشكال الممارسة الحاطة بالإنسانية ممارسة روتينية في معتقلاته بين عامي 1975 و 1999، بوفاة الأمير السابق واعتلاء أبنه الشاب للعرش أستبشر الجميع خيراً بالحاكم الجديد وبخطواته الإصلاحاته ولكن إفلات الجلادين والمجرمين من العقاب .. سرعان ما أعادنا للمربع الأول بعد سنوات معدودة من الهدوء النسبي..
*****
في 19 فبراير/شباط من العام الماضي، وبعد إنطلاق المطالبات الشعبية التي جُوبهت بالقمع والرصاص ، وبينما كنت أتجول بين جموع الجرحى الذين سقطوا في التظاهرات العارمة التي بدأت ، ولم تهدأ ، منذ أكثر من عام ، وجدت نفسي أمامه مجدداً ، الشاب المغتصب ذاته الذي قابلته قبيل 7 سنوات.. كان أكثر الجرحى هدوءاً وكأنه يحتفي بالموت ، نظر لي وكأنه يقول : كرامتي المهدورة ..ستعود..
***
هذا الشاب وآلاف غيره هم بعض ضحايا المرسوم رقم ستة وخمسون الصادر في العام 2002 ، ولم لا يسمع بهذا المرسوم من قبل نقول بأنه صكّ البراءة الذي منحه الملك لكل من ارتكبوا جرائم قتل وتعذيب قبيل هذا التاريخ ، بموجب هذا المرسوم لا يحق لأي مواطن أن يُقاضي أو يُطالب بالقصاص من جلاديه إبان حقبة أمن الدولة المظلمة ، سمح هذا المرسوم لمنتهكي حقوق الإنسان بالتنصل من المسئولية - لا حماية لهم بكل تأكيد - بل حماية لمن أطلقوا يدهم لارتكاب تلك الممارسات المشينة والذين كان بعضهم – ومازال – يعتلي مناصب عليا في هرم السلطة. وأستطيع القول أن أولئك الضحايا ، ظلموا مرتين : بتعرضهم لتعذيب مشين مرة وبحرمانهم من العدالة ألف مرة ما عمق المعاناة الجسدية والنفسية لآلاف الضحايا الذين لم يجدوا من ينصفهم ،،
*****
إفلات هؤلاء من العقاب مهّد لعودته بعد سنوات من الغياب ، بشكل يضاهي - أو يفوق - ما عرفه الشعب في السبعينات وصولاً للتسعينات ، بعضهم كان لازال يمارس عمله العسكري رغم تلوث يديه بالدماء . وبعضهم الآخر صار يتزعم مليشيات أهلية متطرفة يغضُ النظام البصر عنها في تشجيع جلي لها، ومن المفارقات الميلودرامية أن النظام البحريني يواجه كل جرائم القتل وتعذيب الأبرياء " بما فيهم أولئك الذين توفوا تحت التعذيب في السجون" برّد واحد : سنحقق في تلك الاتهامات "بجدية".. والمستهجن أن تلك التحقيقات " الجدية" لم تُفضي حتى اليوم عن إدانة عسكري واحد ، ولا واحد فقط ، خلال كل تلك السنوات ورغم سقوط كل أولئك الضحايا!!
****
في معتقلاتنا اليوم تنوعت أساليب التعذيب والمعاملة غير الانسانية الحاطة بالكرامة داخل السجن ، واتسعت رقعة الضحايا لتشمل النساء بعد أن كان النظام في العقود الماضية يتجنب المساس بهن ، وقد وصلتنا معلومات جد مقلقة تفيد باستعانة النظام بوحوش آدمية من فدائيي صدام ومرتزقة من باكستان والأردن وغيرها للمشاركة في التعذيب الممنهج ..
أقف أمامكم اليوم لأذكركم بهذا الشاب وآلاف الضحايا والعائلات مهيضة الجناح التي تدعم بعض أنظمتكم النظام الذي يسحقهم، لأدعوكم لإرسال لجنة تحقيق دولية مستقلة ، لا يمولها مال النظام ولا يستميلها بعطاياه ، لتنقل لكم وللعالم الحقيقة المغيبة بشأن ما يحدث على الأرض .. فنحن نعول الكثير على الضغط الدولي في سبيل حلحلة قضيتنا..
اشكر لكم صبركم واهتمامكم وأترككم مع هذا التقرير القصير الذي أعددته على أمل أن يعطيكم صورة أعمق لما جرى ويجري في البحرين ..