ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع إلا أن يفسر الواجب بالفعل الذي فيه فائدة وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكنا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول: نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام.
فإن قيل: المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع، فدلوا عليها.
فنقول: البرهان عيه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع ؟ فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر، قلنا: هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت. وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه، وهكذا يغلط من لا يميز بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول: نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة، فإذن بان نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين.
(1/75) http://islamport.com/w/aqd/Web/423/75.htm
وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وراءهم ولمي كن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك.
الطرف الثاني: في بيان من يتعين من سائر الخلق لأن ينصب إماماً.
(1/76)
بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام الاقرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق بشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات الأئمة فقد انعقدت إمامته ووجبت طاعته،
(1/77)
الاقتصاد في الاعتقاد
المؤلف : أبو حامد الغزالي
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب، وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً.
(1/97)
( أما بعد ) فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة ، وحاط به الملة ، وفوض إليه السياسة ، ليصدر التدبير عن دين مشروع ، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة ، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة ، وصدرت عنها الولايات الخاصة ، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني ،
(1/1)
الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم ، واختلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع ؟ فقالت طائفة وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين ، وهمجا مضاعين ، وقد قال الأفوه الأودي وهو شاعر جاهلي ( من البسيط ) : لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقالت طائفة أخرى : بل وجبت بالشرع دون العقل ، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أن لا يرد التعبد بها ، فلم يكن العقل موجبا لها ، وإنما أوجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع ، ويأخذ بمقتضى العدل في التناصف والتواصل ، فيتدبر بعقله لا بعقل غيره ، ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين ، قال الله عز وجل :
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } . ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا وهم الأئمة المتأمرون علينا .
ويطلق لفظ الخلافة ويراد به الإمامة, وعليه درج استعمال الكلمتين لمعنى واحد. فالإمامة لغة: مصدر من أمّ والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والجمع أئمة، وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين.
أما معناها اصطلاحاً: يقول أبو الحسن الماوردي(2): " الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا "(3).
__________
تنبيه : قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة :
هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة . يسمع له ويطاع . لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ، ولا بين الأئمة
(1/22)
قال مقيده [ عفا الله عنه ] : من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه . (1/23)
واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط :
الأول : أن يكون قرشيا وقريش أولاد فهر بن مالك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . فالفهري قرشي بلا نزاع . ومن كان من أولاد مالك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة فيه خلاف . هل هو قرشي أو لا؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام :
الأول : أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم : « الأئمة من قريش » وقد اختلف في هذا .
قال مقيده [ عفا الله عنه ] : الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيا ضعيف . وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم . وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين .
(1/24)
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : { وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة ، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وانه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ، ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً ، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم ، عاجزون عن الوصول اليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، واذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم . ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله : { وَأُوْلِى الأمر } أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة .
(5/248
مفاتيح الغيب
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي