بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يستطيع أيا كان في معرض سرد الدعاوى الفضفاضة أن يدعي بما يشاء وأن يصم الأسماع بما يصدّق وما لا يصدّق، فلا أحد سيأخذ ذلك على محمل الحقيقة والجد ما دامت الدعوة كلها «كلام في كلام». وحدها الأيام أو لنقل المنعطفات التأريخية هي القادرة على كشف الحقائق وتمييزها عن الزيف، تماما كما تكشف النار المعدن الأصيل من المعدن «الفالصو».
كان من «محاسن» الصدف أن تنقل الأخبار في وقت يكاد يكون متزامنا تصريحين -مؤاداهما واحد- لشخصين يفترض بهما أن يكونا على طرفي نقيض تماما، حيث يصنف أحدهما نفسه كأحد ملاك مفاتيح الجنة التي يرى أن الله خلقها للوهابية دون غيرهم من البشر مسلمين وغير مسلمين، والآخر ما يعده الفريق الأول كأحد أئمة النار ورؤوس الكفر وقادة المستعمرين.
إذ في الوقت الذي يفتي الشيخ عبد الرحمن البراك في الرياض بكفر مئات الملايين من المسلمين الشيعة ويعتبرهم وعلى رأسهم «ايران الصفوية» الأخطر على الأمة من اليهود والنصارى، يصرح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في ذات الوقت في زيارته للامارات العربية المتحدة بأن ايران هي الدولة الأخطر في المنطقة!
من الواضح جدا بأن مؤدى الفتوى الوهابية والتصريح الانجليزي واحد وإن تباينت منطلقات كل واحد منهما، إذ في الوقت الذي يبدو فيه بلير مدفوعا بالحفاظ على توازن قوى في الشرق الأوسط يميل دائما لصالح اسرائيل، ويرى كما المعسكر الغربي عموما بأن الإصرار الايراني على مواصلة البرنامج النووي قد يهدد جديا في المدى المتوسط أو البعيد هذا التوازن، بما يؤثر على مصالح الغرب الاستراتيجية في المنطقة، نرى على الجانب الآخر بأن الشيخ البراك وأضرابه السبعة وثلاثون أصحاب بيان نصرة السنة في العراق ينطلقون في موقفهم من شوفينية مذهبية ونزعة طائفية وعنصرية لا تعترف للآخرين بالحق في الحياة فضلا عن أن تكون لهم كلمة في حكم أنفسهم وتحديد مصيرهم كما هم غالبية الشعب العراقي.
هنا يمكن القول أنه مهما حاول الوهابيون طلاء فتاواهم بألف طلاء، مرة تحت ستار نصرة السنة، وثانية تحت ستار الجهاد، وأخرى إنكار المنكر، فإن ذلك لن يغير من حقيقة واحدة، وهي أن هذا التيار الوهابي الذي يكفّر ليس فقط الشيعة بل جميع مذاهب الأمة، هو في حقيقة الأمر على تناغم تام مع من يسميهم هو بالكفرة والملحدين واليهود والنصارى.
حدث ذلك التناغم في ذروة الحرب «الساخنة» بين القوتين العظميين روسيا وأمريكا، فانساق الوهابيون بسذاجة تحت تأثير الدعاية السعودية/ الأمريكية لحرب «الإلحاد» في أفغانستان بدعوى الجهاد في سبيل الله، انتابتهم صحوة مفاجئة ولينهالوا على أفغانستان وهم الذين نسوا فلسطين وهي على مرمى حجر من بيوتهم! فكانت تلك الحرب أحد أبرز أمثلة الانسياق الأعمى أو الامتثال الساذج والاستعداد التام للانخراط في خدمة أهداف لا ترى فيهم إلا وقودا وحطبا لكل حرب وفتنة، لزوم ترتيب التحالفات وحفظ التوازنات في المنطقة والعالم.
في الموروث الديني الذي يفترض بأن عتاة الوهابية يعرفونه جيدا أو سمعوا به، ما ورد عن الرسول الكريم بأن «المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين»، لا يبدو أنهم يعونه جيدا، فقد استخدمتهم الحكومة السعودية ومن خلفها أمريكا أبان مرحلة الثمانينات كغطاء ديني لحربين أمريكيتين في أفغانستان والخليج ثم تركتهم بعد ذلك في العراء لحين خطيئتهم الكبرى في نيويورك سبتمبر 2001 والرياض 2003، حين أعاد السعوديون والأمريكان ترتيب سلم الأعداء من جديد.
مجددا أعاد السعوديون والأمريكان مع حرب تموز يوليو الماضي ضد حزب الله في جنوب لبنان ترتيب التحالفات في المنطقة، لتخرج من الطاولة اضبارة التحالف القديم الجديد الذي ساند صدام حسين في حربه ضد ايران، الأردن ومصر والسعودية وخلفها دول الخليج، برفقة العنصر -المعلن هذه المرة- اسرائيل، كل ذلك تحت شعار تحالف المعتدلين.
ما يهمنا هنا ليس تحالف المعتدلين الذي بات نارا على علم، والذي فاحت روائح اجتماعاته في الأردن بين رؤوس كبيرة من بلدنا وأخرى صهيونية بشهادة وكالات الأنباء والصحف الكبرى في الدول .. الصديقة. بل إن ما يهمنا هنا هو مدى الطواعية السلفية التي تصل حد السذاجة في الانسياق من حيث تشعر أو لا تشعر خلف هذه الأحلاف، هذه الأحلاف التي يفترض أنها ترفضها جملة وتفيصلا على قاعدة العداء السلفي -الظاهر- لأمريكا واسرائيل. ولا أدل على هذا الإنسياق والتناغم مع «الكفرة» من فتوى الشيخ بن جبرين ضد حزب الله والتي أفتى فيها بعدم جواز نصرة الحزب في وقت كانت القنابل الاسرائيلية تمطر الجنوب اللبناني ليل نهار.
وعلى ذات النسق تأتي اليوم فتوى الشيخ البراك، هذه الفتوى التي مهما تلبست من لبوس وغطيت بألف غطاء ديني، فهي لا تخرج عن ذات التناغم القديم مع «الكفرة» فهي تأتي في غمرة النقاش الدولي بفرض عقوبات على ايران وفي وقت يتعرض فيه الشيعة في العراق إلى مجزرة حقيقية في الشوارع والاحياء والأسواق على يد الانتحاريين الوهابيين، ورغبة يائسة اسرائيلية سعودية امريكية بتصفية حزب الله.
ولعل من أعجب عجائب الوهابية أنهم في الوقت الذي يدعون فيه بأنهم هم اصحاب الاسلام الصحيح ويمعنون في سفك دماء الآبرياء في الشرق والغرب والبلاد، وتراهم يفاخرون بسفك دماء الابرياء في العراق بدعوى الجهاد، لم نر لهؤلاء الوهابية ولو بندقية صيد توجه لاسرائيل! ولم نر لهم بيانا واحدا يدعم الشعب الفلسطيني ولم يصدر أي مفت فيهم أي فتوى ضد من يساهم في احكام الحصار هذا الشعب من الانظمة العربية، فضلا عن أن يوجه أيا منهم دعوة للأمة لنصرة هذا الشعب.
أما لماذا لم يفعلوا جميع ذلك واتجهوا بدلا عنه لاصدار فتاوى القتل بحق اخوانهم من أبناء المذاهب الاخرى، فأترك الاجابة لكل صاحب ضمير حي خال من لوثة العداء الوهابي لأبناء الأمة.