بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
لطالما اتحفنا الحاج القدس بالمواضيع الراقية ومنها هذه المجموعة من الحوادث التاريخية العقائدية بين الحنابلة والاشاعرة :
صراع الحنابلة والأشاعرة
1- الفتنة بين ابن القشيري وأبو جعفر العباسي الحنبلي
أبو نصر القشيري أحد كبار علماء السنة في العقيدة والفقه والتفسير وهو من الأشاعرة ، قال فيه السبكي : الإمام العلم ، بحرٌ مغدِق ، وحَبْرُ زمانه إذا قيل كعب الأحبار ، وهُمام مقدّم ، وإمام تقتدي به الهداة ، وتأتم ، نما من تلك الأصـول الطاهـرة غصنه المـورق ، وسما على الأنجم الزاهرة بدره المشرق ... الخ . ([1])
وقال الذهبي : الشيخ الإمام المفسر العلاّمة . ([2])
وقال فيه الحافظ عبد الغافر الفارسي : إمام الأئمة ، وخير الأمة ، وبحر العلوم ، وصدر القروم ، قرة عين الإسلام ، وثمرة فؤاده . ([3])
إلى أنْ قال فيه : وبلغ الأمر في التعصب كاد أنْ يؤدي إلى الفتنة . ([4])
وقد حصلت في زمانه فتنة كبيرة سماها السبكي بفتنة الحنابلة ([5]) ، وسماها الحنابلة كابن رجب الحنبلي وابن الجوزي بفتنة ابن القشيري ([6]) ، وكان في مواجهة ابن القشيري أبو جعفر العباسي الحنبلي الذي يقول فيه ابن الجوزي : كان عالماً فقيهاً ، ورعاً عابداً ، زاهداً ، قوالاً بالحق ، لا يُحابي ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وقال فيه ابن عقيل : كان يفوق الجماعة من أهل مذهبه وغيرهم في علم الفرائض ، وقال ابن رجب الحنبلي : وكان معظماً عند الخاصة والعامة ، زاهداً في الدنيا إلى الغاية ، قائماً في إنكار المنكرات بيده ولسانه مجتهداً في ذلك .([7])
ولنذكر القصه حسب نقل ابن رجب الحنبلي بلفظه حيث قال : أنّ أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمـائة ، وجلس في النظامية ([8]) ، وأخذ يذم الحنابلة ، وينسبهم إلى التجسيم ، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي ، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي ([9]) ، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ، ويسأله المعونة ، فاتفق جماعة من أتباعه الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومه إنْ وقعت ، فلما وصل أولئك باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر ، فوقت الفتنة ، وقتل من أولئك رجل من العامة ، وجرح آخرون ، وأخذت الثياب ، وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب مدرسة النظام ، وصاحوا المستنصر بالله ، يا منصور ، يعنون العبيدي صاحب مصر ، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباس ، وأنه ممالئ للحنابلة لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه ، وغضب أبو إسحاق ، وأظهر التأهب للسفر ، وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك بما جرى ، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما . ([10])
ثم ذكر : أنّ الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أنْ يجيل الفكر بما تنحسم به الفتنة ، فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة ، فتلطفوا به حتى حضر في الليل ، وحضر أبو إسحاق ، وأبو سعد الصوفي ، وأبو نصر بن القشيري ، فلما حضر الشريف عظَّمه الوزير ورفعه ، وقال : إنّ أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم ، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد ، وأمرهم بالدنو من الشريف ، فقام إليه أبو إسحاق ([11]) ، وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ ، فقال : أنا ذاك الذي تعرف ، وهذه كتبي في أصول الفقه ، أقول فيها خلافاً للأشعرية ، ثم قبل رأسه .
ثم قام أبو سعد الصوفي ، فقبل رأس الشريف وتلطف به ، فالتفت مغضباً وقال : أيها الشيخ ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل ، وأما أنت ، فصاحب لهو وسماع وتعبير ، فمن زاحمك على ذلك حتى داخلت المتكلمين والفقهاء ، فأقمت سوق التعصب ؟!
كلام أبي جعفر الشريف
ثم قام ابن القشيري وكان أقلهم إحتراماً للشريف ، فقال الشريف : من هذا ؟ فقيل : أبو نصر بن القشيري ، فقال : لو جاز أنْ يُشكر أحدٌ على بدعته لكان هذا الشاب ، لأنه باد هنا بما في نفسه ، ولم ينافقنا كما فعل هذان ، ثم التفت إلى الوزير فقال : أي صلح يكون بيننا ؟! إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا أو تنازع في ملك ، فأما هؤلاء القوم فإنهم يزعمون أنّا كفار ، ونحن نزعم أنّ من لا يعتقد ما لا نعتقده كان كافراً ، فأي صلح بيننا ؟! وهذا الإمام يصدع المسلمين ، وقد كان جداه القائم والقادر أخرجا اعتقادهما للناس ، وقريء عليهم في دواوينهم ، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض ، ونحن على اعتقادهما . ([12])
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية وابن الجوزي في المنتظم أنّ هذه الفتنة أدت إلى حبس الشريف أبي جعفر العباسي ، وإخراج ابن القشيري من بغداد . ([13])
وقال ابن الأثير متحدثاً عن هذه الفتنة بما فيه ما يخالف النقل السابق أثناء كلامه عن حوادث سنة (469هـ) : في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً ، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس ، وفي رباط شيخ الشيوخ ، وجرى له مع الحنابلة فتن ، لأنه تكلم على مذهب الأشعري ونصره ، وكثر أتباعه والمتعصبون له ، وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية ، وقتلوا جماعة ، وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان ، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة . ([14])
ولم يمض سنة على انطفاء الفتنة حتى اشتعلت مرة ثانية وأدت إلى حرب بين الطرفين كان ضحيتها عشرين قتيلاً ، يقول ابن كثير وهو يتحدث عن حوادث سنة (470هـ) : وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية ، وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام ، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلاً وجرح آخرون ، ثم سكنت الفتنة . ([15])
نص ما ذكره الأشاعرة ضد الحنابلة
ومن الوثائق المهمة التي صدرت خلال هذه الفتنة ، ما صدر عن أبي نصر القشيري ووقع عليه جماعة من علماء الأشاعرة ضد الحنابلة ، ومما جاء في تلك الوثيقة حسب نقل الحافظ أبي محمد القاسم ابن الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري حيث ذكره إستدراكا لما لم يذكره أبوه :
يشهد من ثبت اسمه ونسبه وصح نهجه ومذهبه واختبر دينه وأمانته من الفقهاء وأهل القرآن والمعدلين من الأعيان ، وكتبوا خطوطهم المعروفة ...
إلى أن قال : أنّ جماعة من الحشوية والأوباش المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحد ، ولا تجوز به ، قادح في أصل الشريعة ولا معطل ، ونسبوا كل ما ينزه الباري تعالى وجل عن النقائص والآفات ، وينفي عنه الحدوث والتشبيهات ، ويقدسه عن الحلول والزوال . ([16])
إلى أنْ قال : وتناهوا في قذف الأئمة الماضين ، وثلب أهل الحق وعصابة الدين ، ولعنهم في الجوامع والمشاهد والمحافل والمساجد والأسواق والطرقات والخلوة والجماعات ، ثم غرهم الطمع والإهمال ومدهم في طغيانهم الغي والضلال إلى الطعن فيمن يعتضد به أئمة الهدى وهو للشريعة العروة الوثقى ، وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية ، وترقوا من ذلك إلى القدح في الشافعي رحمه الله وأصحابه ، واتفق عود الشيخ ألإمام الأوحد أبي نصر ابن الأستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري رحمة الله عليه ...
إلى أنْ قال : وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها وأبوا إلا التصريح بأنّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ، ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط ، وعليه تاج يلمع ، وفي رجليه نعلان من ذهب ، وحفظ ذلك عنهم ، وعللوه ودونوه في كتبهم ، وإلى العوام ألقوه ، وأنّ هذه الأخبار لاتأويل لها ، وأنها تجري على ظواهرها وتعتقد كما ورد لفظها ، وأنه تعالى يتكلم بصوت كالــرعد ، وكصهيل الخيل ... ([17])
2- التبري من المذهب الأشعري عند التلقين
بعد حصول الفتنة بين الحنابلة وعلماء الأشاعرة الشافعية والذين كان من ابرزهم أبو إسحاق الشيرازي الفقيه وابن القشيري حصلت تصرفات كثيرة كردود فعل في سلوكيات فقهاء الحنابلة والأشاعرة ، ومن تلك الأمور التي تذكر في ترجمة طاهر بن الحسين القواس الذي يصفه ابن رجب الحنبلي بـ < الفقيه ، الزاهد ، الورع > ، وقال فيه أبو سعد السمعاني : من أعيان فقهاء الحنابلة وزهادهم ، وحكى عنه الحنابلة كرامات كثيرة ([18]) ، أنه كان يعلن التبري من المذهب الأشعري عند تقلين الموتى ، يقول الفقيه الحنبلي ابن عقيل في نقل ذلك أثناء حديثه عنه : كان حسن الفتوى ، متوسطاً في المناظرة في مسائل الخلاف ، إماماً في ألإقراء ، زاهداً ، شجاعاً مقداماً ، ملازماً لمسجده ، يهابه المخالفون ، حتى أنه لما توفي ابن الزروني وحضره أصحاب الشافعي على طبقاتهم وجموعهم في فورة أيام القشيري وقوتهم بنظام الملك ، حضر حتى بلغ الأمر إلى تلقين الحفار قال له : تنح حتى ألقنه أنا ، فهذا كان على مذهبنا ، ثم قال : يا عبد الله وابن أمته ، إذا نزل عليك ملكان فظان غليظان ، فلا تجزع ، ولا تُرَع ، فإذا سألاك فقل : رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، لا أشعري ، ولا معتزلي ، بل حنبلي سني فلم يتجاسر أحد أنْ يتكلم بكلمة ، ولو تكلم أحد لفضخ رأسه أهل باب البصرة ، فإنهم كانوا حوله قد لقّن أولادهم القرآن والفقه ، وكان في شوكة ومنعة ، غير معتمد عليهم ، لأنه أمة في نفسه . ([19])
3- الفتن بين أبي إسماعيل الأنصاري والأشاعرة
عبد الله بن محمد الهروي ، أبو إسماعيل الأنصاري ، أحد أبرز علماء الحنابلة في العقيدة ، وإنْ كان في الفقه شافعياً ، يقول فيه ابن رجب الحنبلي : الفقيه ، المفسر ، الحافظ ، الصوفي الواعظ ، شيخ الإسلام . ([20]) وقال فيه ابن تيمية : شيخ الإسلام مشهور ، معظم عند الناس ، هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير ، وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث ، يُعظم الشافعي وأحمد ، ويقرن بينهما في أجوبته في الفقه ما يوافق قول الشافعي تارة وقول أحمد أخرى ، والغالب عليه إتباع الحديث على طريقة ابن المبارك ونحوه . ([21])
وقال فيه ابن الجوزي : وكان شديداً على أهل البـدع ، قوياً في نصـرة السنة . ([22])
وقال الذهبي : شيخ الإسلام ، الإمام القدوة الحافظ الكبير . ([23])
يقول ابن رجب في أثناء حديثه عن محنه : وقال ابن طاهر : سمعت الإمام أبا إسماعيل بهراة يقول : عرضت على السيف خمس مرات ، لا ]ُقال لي ارجع عن مذهبك ، لكن يُقال لي : أسكت عمن خالفك ، فأقول : لا أسكت .
واستمر تلميذه ابن طاهر المقدسي صاحب كتاب الجمع بين رجال الصحيحين يحكي ما وقع بينه وبين من خالفه من الفتن ، فمن ذلك الفتن التي وقعت بينه وبين الأشاعرة من الشافعية والأحناف ، فقال : وحكى لنا أصحابنا أنّ السلطان < ألب أرسلان > حضر هراة ، وحضر معه وزيره أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق ، فاجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة للشكاية من الأنصاري ، ومطالبته بالمناظرة ، إلى أن قال : وسمعت أحمد بن أميرجه القلانسي خادم الأنصاري يقول : حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير أبي علي الطوسي ، وكان أصحابه كلفوه بالخروج إليه ، وذلك بعد المحنة ورجوعه من بلخ ، فلما دخل عليه أكرمه وبجله ، وكان في العسكر أئمة من الفريقين في ذلك اليوم وقد علموا أنه يحضر ، فاتفقوا جميعاً على أنْ يسألوه عن مسألة بين يدي الوزير ، فإنْ أجاب بما يجيب به بهراة سقط من عين الوزير ، وإنْ لم يجب سقط من عيون أصحابه وأهل مذهبه ، فلما دخل واستقر به المجلس انتدب له رجل من أصحاب الشافعي يُعرف بالعلوي الدبوسي ، فقال : يأذن لي الإمام في أنْ أسأل مسألة ؟ فقال : سل ، فقال : لم تلعن أبا الحسن الأشعري ؟ ([24]) فسكت ، وأطرق الوزير لما علم من جوابه ، فلما كان بعد ساعة قال له الوزير أجبه ، فقال : لا أعرف الأشعري ، ,إنما ألعن مـن لم يعتقد أنّ الله عز وجــل في السمــاء ، وأنّ القــرآن في المصحف ، وأنّ النبي صاليـوم نبي ... ([25])
واستمر ابن طاهر المقدسي ينقل تفاصيل الحوادث إلى أنْ قال : ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري ، وقالوا له : إنه مجسم ، فإنه يترك في محرابه صنماً ، ويقول إنّ الله عز وجـل على صورته ... الخ تفاصيل الحادثة . ([26])
4- منع غير الحنابلة من الحديث ووصفهم بالكفر
من الأمور التي يظهر منها حدة الخلاف بين الحنابلة وسائر المسلمين بما فيهم الأشاعرة ، أنه كان في الري وهي قسم من طهران حالياً يمنع غير الحنابلة من الحديث ، وكان شيخ الحنابلة في الري أبو حاتم أحمد بن الحسن الرازي المعروف بـ < خاموش > والذي يصفه الذهبي بقوله بـ < الإمام ، المحدث ، الحافظ ، الواعظ > ، ويقول فيه أيضاً : < وكان شيخ أهل الري في زمانه >([27]) هو الذي يمنع الجميع بأمر من السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي ، وكان يصف غير الحنابلة بالكفر والعياذ بالله تعالى ، وكان أبو إسماعيل الأنصاري يقره على تلك المقولة وهو الذي يصف الأشاعرة بشياطين البشر كما تقدم .
يقول ابن طاهر المقدسي وهو ينقل هذه الأحداث عن شيخه أبي إسماعيل الأنصاري : سمعت عبدالله بن محمد الانصاري يقول : لما قصدت الشيخ أبا الحسن الجركاني الصوفي ، وعزمت على الرجوع وقع في نفسي أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالري والتقي به ، وكان مقدم أهل السنة بالري، وذلك أن السلطان محمود بن سبكتكين لما دخل الري قتل بها الباطنية، ومنع سائر الفرق الكلام على المنابر غير أبي حاتم، وكان من دخل الري من سائر الفرق يعرض اعتقاده عليه ، فان رضيه أذن له في الكلام على الناس، وإلا منعه ، فلما قربت من الري كان معي في الطريق رجل من أهلها، فسألني عن مذهبي؟ فقلت: أنا حنبلي ، فقال : مذهب ما سمعت به وهذه بدعة ، وأخذ بثوبي وقال : لا أفارقك حتى أذهب بك إلى الشيخ أبي حاتم. فقلت: خيرة ، فاني كنت أتعب إلى أن التقي به ، فذهب بي إلى داره ، وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم . فقال : أيها الشيخ ، هذا الرجل الغريب سألته عن مذهبه فذكر لي مذهبا لم أسمع به قط . قـال : ما قال ؟ قال : أنا حنبلي ، فقال : دعه ، فكل من لم يكن حنبليا فليس بمسلم ، فقلت الرجل كما وصف لي ولزمته أياما وانصرفت . ([28])
5- الفتنة بين الحنابلة والشافعية ( الأشاعرة )
في زمن الملك الأشرف مظفر الدين
وكان يحكم دمشق ، وكان له ميل للحنابلة ، وقد وقع في زمانه فتنة بين الحنابلة والأشاعرة ، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء : وكان للأشرف ميل إلى المحدثين والحنابلة ، قال ابن واصل وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة بسبب العقائد . قال : وتعصب الشيخ عز الدين بن عبد السلام على الحنابلة وجرت خبطة حتى كتب عز الدين رحمه الله إلى الأشرف يقع فيهم وأن الناصح ساعد على فتح باب السلامة لعسكر الظاهر والأفضل عندما حاصروا العادل فكتب الأشرف يا عز الدين الفتنة ساكنة لعن الله مثيرها ... ([29])
6- صدور القرار السياسي بلعن الأشاعرة ومن عدا الحنابلة
يقول ابن تيمية بشأن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي : وكان من أحسن ملوك أهل المشرق إسلاماً وعقلاً وديناً وجهاداً وملكاً في آخر المائة الرابعة . ([30])
ثم يواصل الحديث إلى أنْ يصل إلى الكلام الذي صدر في عهد القادر العباسي وجرى على منواله السلطان الغزنوي ضد جميع من لم يكن من الحنابلة ، يقول ابن تيمية : ... وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة وقمع أهل البدع ، فكتب الاعتقاد القادري المنسوب إليه ، وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصار ، وهو من أجل المشايخ وأعلمهم وله لسان صدق عظيم وأمر القادر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيرهم وقام الشيخ أبو حامد الاسفرائيني إمام الشافعية والشيخ أبو عبد الله ابن حامد إمام الحنابلة على ابن الباقلاني بسبب ما ينسب إليه من بدعة الأشعري ، وجرت أمور بلغتنا مجملة غير مفصلة ، وصنف ابن الباقلاني كتابه المعروف في الرد على من ينسب إلى الأشعري خلاف قوله واعتمد السلطان محمود بن سبكتكين في مملكته نحو هذا وزاد ليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر ، فلعنت الجهمية والرافضة والحرورية والمعتزلة والقدرية ، ولعنت أيضا الأشعرية حتى جرى بسبب ذلك نزاع وفتنة بين الشافعية والحنفية وغيرهم ، قوم يقولون هم من أهل البدع فيلعنون ، وقوم يقولون ليسوا من أهل البدع فلا يلعنون ، وجرت لابن فورك محنة بأصبهان وجرت له مناظرة مع ابن الهيصم بحضرة هذا السلطان محمود وكان يحب الاسلام والسنة مستنصرا بالإسلام ... ([31])
7- منع الأشاعرة من حضور الجمعة والجماعة
يقول ابن كثير أثناء حديثه عن أحداث سنة ( 447 هـ ) ببغداد : وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة ، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة ، بحيث أنـه كـان ليس لأحـد مـن الأشاعـرة أن يشهـد الجمعة ولا الجماعات . ([32])
ويقول ابن الجوزي أثناء حديثه عن أحداث هذه السنة : ووقعت بين الحنابلة والأشاعرة فتنة عظيمة حتى تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفاً من الحنابلة . ([33])
ويقول ابن خلدون أثناء كلامه عن هذه الفتن : ... وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات ، ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد ، وحاشاه منه ، فيقع الجدال والنكير ، ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام . ([34])
8- فتنة ابن فورك
ومن الفتن التي حصلت في بغداد أيضاً في القرن الخامس الهجري الفتنة التي وقعت بين الحنابلة والأشاعرة والذي اتهمت فيها بعض المصادر ، أحمد بن محمد بن الحسن الفوركي سبط ابن فورك الذي كان من علماء الأشاعرة ([35]) ، قال ابن الجوزي : نزل بغداد واستوطنها ، وكان متكلماً مناظراً واعظاً ، وكان ختن أبي القاسم القشيري على ابنته ، وكان يعظ في النظامية ، فوقعت بسببه فتنة بين المذاهب . ([36])
وقال : وكان يأخذ مكسر الفحم ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة ، مات وقد ناف على الستين سنة ، وقد دفن إلى جانب قبر الأشعري بمشرعة الزوايا . ([37])
9- فتنة البربهاري إمام الحنابلة
وممن نقل هذه الفتنة الحافظ ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ أثناء حديثه عن حوادث سنة (323هـ) حيث قال : وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم ، وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة . ([38])
إلى أنْ قال : فركب بدر الخرشني ، وهو صاحب الشرطة ، عاشر جمادى الآخرة ونادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمد البربهاري الحنابلة ، لا يجتمع منهم إثنان ولا يناظرون في مذهبهم ولا يصلي منهم إمام إلا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشائين ، فلم يفد وزاد شرهم وفتنتهم ، واستظهروا بالعميان الذين كان يأوون المساجد ، وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت ، فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره ، فمنه : تارة إنكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين ، وهيئتكم الرذلة على هيئته ، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين المذهبين ، والشعر القطط ، والصعود إلى السماء والنزول إلى السماء الدنيا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً . ([39])
وفي مقابل كلام ابن الأثير يقول ابن الجوزي في ترجمة الحسن بن علي البربهاري : جمع العلم والزهد ، وصحب المرزي ، وسهلاً التستري .
إلى أنْ قال : وكان شديداً على أهل البدع ، فما زالوا يثقلون قلب السلطان عليه ، وكان ينزل بباب المحول ، وانتقل إلى الجانب الشرقي ، واستتر عند أخت توزون فبقي نحـواً مـن شهـر ، ثم أخـذه قيام الدم فمات . ([40])
وقال فيه الذهبي : شيخ الحنابلة ، القدوة الإمام .
إلى أنْ قال : كـان قوالاً بالحـق ، داعية إلى الأثـر ، لا يخاف في الله لومـة لائم . ([41])
10- فتنة أبي بكر المروزي والعامة
نقل هذه الفتنة الحافظ ابن الأثير في الكامل ، حيث قال أثناء كلامه عن حوادث سنة (317هـ) : وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي وبين غيرهم من العامة ، ودخل كثير من الجند فيها ، وسبب ذلك أنّ أصحاب المروزي قالوا في تفسير قوله تعالى : ) عسى أنْ يبعثك ربك مقاماً محموداً (([42]) هو أنّ الله سبحانه يقعد النبي ص معه على العرش ، وقالت الطائفة الأخرى : إنما هو الشفاعة ، فوقعت الفتنة ، فقتل بينهم قتلى كثيرة . ([43])
قال الحافظ ابن كثير بعد أنْ ذكر الحادثة في تاريخه : وقد ثبت في صحيح البخاري أنّ المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى ، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد . ([44])
11- الفتنة بين الحنابلة والبكري المغربي
ذكر هذه الفتنة الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وذكر أنه أشعري ووصفه بالواعظ العالم وقال : وفد على النظام الوزير فنفق عليه وكتب له توقيعا بأن يعظ بجوامع بغداد ، فقدم وجلس واحتفل الخلق فذكر الحنابلة وحط وبالغ ونبزهم بالتجسيم ، فهاجت الفتنة وغلت بها المراجل ، وكفّر هؤلاء هؤلاء ، ولما عزم على الجلوس بجامع المنصور قال نقيب النقباء : قفوا حتى أنقل أهلي ، فلا بد من قتل ونهب ، ثم أغلقت أبواب الجامع وصعد البكري وحوله الترك بالقسي ولقب بعلم السنة فتعرض لأصحابه طائفة من الحنابلة ، فشدت الدولة منه وكبست دور بني القاضي ابن الفراء وأخذت كتبهم وفيها كتاب فكان يقرأ بين يدي البكري وهو يشنع ويشغب ، ثم خرج البكري إلى المعسكر متشكيا من عميد بغداد أبي الفتح بن أبي الليث . وقيل : إنه وعظ وعظّـم الإمام أحمـد ثم أصحهما ) وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا (([45]) ، فجاءته حصاة ثم أخرى فكشف النقيب عن الحال فكانوا ناساً من الهاشميين حنابلة قد تخبئوا في بطانة السقف فعاقبهم النقيب ثم رجع البكري عليلا وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربع مئة . ([46])
12- الفتن بين الحنابلة والقيرواني
وصف الذهبي أبو عبد الله محمد بن عتيق القيرواني التميمي المعروف بابن أبي كديه بقوله : العالم الأصولي شيخ القراء . ([47])
وقال فيه شيخ الحنابلة ابن عقيل : قال ابن عقيل هو شيخ هش حسن العارضة جاري العبارة حفظة متدين صلف تذاكرنا فرأيته مملوءا علما وحفظا . ([48])
قال الذهبي في ترجمته : وقال السلفي : كان مشارا إليه في الكلام قال لي : أنا أدرس الكلام من سنة ثلاث وأربعين ، جرت بينه وبين الحنابلة فتن وأوذي غاية الإيذاء سألته عن مسألة الاستواء ، فقال : أحد الوجهين للأشعري أنه يحمل على ما ورد ولا يفسر .
قال الذهبي : وقال أحمد بن شافع : قال ابن ناصر وجماعة : كان أصحاب القيرواني يشهدون عليه أنه لا يصلي ولا يغتسل من جنابة في أكثر أحواله ، ويرمى بالفسق مع المرد واشتهر بذلك ، وادعى قراءة القرآن على ابن نفيس .
قال الذهبي بعد ذلك : قلت : هذا كلام بهوى . ([49])
([1]) طبقات الشافعية الكبرى ج7 ص 159 رقم 780 .
([2]) سير أعلام النبلاء ج19 ص 424 .
([3]) سير أعلام النبلاء ج19 ص 426 ، المنتخب من السياق للحافظ عبد الغافر الفارسي ص 324 رقم 1069 .
([4]) المصدران السابقان .
([5]) طبقات الشافعية الكبرى ج7 ص 162 .
([6]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ج1 ص 19 رقم 11 ، المنتظم لابن الجوزي ج17 ص 191 حوادث سنة 514 هـ .