[نجف الخير]

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


4ـ حوزة بغداد:ظهرت من النصف الأول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد، ففي القرن الخامس الهجري انتقلت حوزة قم والري إلى بغداد حاضرة العالم الإسلامي عامة [وكان لهذا الانتقال أسباب عديدة:
الأول: ضعف جهاز الحكم العباسي، حيث ضعفت سيطرتهم في هذه الفترة ودبَّ الانحلال في كيان الجهاز فلم يجد الجهاز القوة الكافية لملاحقة الشيعة والضغط عليهم، كما كان المنصور والرشيد والمعتصم والمتوكل واضرابهم من الخلفاء العباسيين فوجد فقهاء الشيعة مجالاً للظهور ونشر الفقه الشيعي، وممارسة البحث الفقهي بصورة علنية.
الثاني: ظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة كالشيخ المفيد والسيد المرتضى فقد كان هؤلاء يستغلون مكانة بيوتهم الاجتماعية، ومكانتهم السياسية في نشر الفقه الشيعي وتطوير دارسة الفقه.
الثالث: توسع المدرسة وتضخمها وقد كانت هذه البيئة الجديدة صالحة لتقبل هذه المدرسة، وتطويرها وخدمتها.
فهي مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الإسلامي، يقطنها الآلاف من الفقهاء والمحدثين وتنتشر فيها آلاف المدارس والمكاتب والمساجد التي كان يحتشد فيها جماهير الطلاب والمدرسين والعلماء كل يوم للدرس والمطالعة، والبحث والمناقشة؛ فكان لانتقال المدرسة إلى هذا الجو الفكري على يد علماء كبار أمثال المفيد والمرتضى والطوسي اثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه، فقد تكاملت مدرسة الفقه الشيعي في قم والري وتأصلت، وظهرت ملامح الاستقلال عليها، وتبلورت أصولها وقواعدها في بغداد. ورغم كثرة مدارس البحث الفقهي في بغداد في ذلك الحين فقد كانت مدرسة أهل البيت عليهم السلام أوسعها وأضخمها وأعمقها جذوراً وأصولا وأكثرها تأصلاً واستعداداً، وأقومها في الاستدلال والاحتجاج، وكل ذلك كان يبعث طلاب الفقه على الالتفاف حول هذه المدرسة أكثر من غيرها. فقد كان يحضر درس الشيخ الطوسي حوالي ثلاثمائة مجتهد من الشيعة ومن العامة ما لا يحصى](1).
[إن مدرسة بغداد كانت فتحاً جديداً في عالم البحث الفقهي بصورة عامة، فقد كان البحث الفقهي في مدارس المدينة والكوفة وقم لا يخرج عن حدود استعراض السنة ونقل الحديث، ولم يبلغ رغم تطور المدرسة في عهودها الثلاثة مرحلة الرأي والاجتهاد. ولم نلمس في هذه العهود الثلاثة ملامح عن الصياغة الفقهية والصناعة فيما بين أيدينا من آثار عصور الفقه الثلاثة الأولى بشكل ملموس واضح الملامح.
ولأول مرة يلمس الباحث آثار الصناعة والصياغة الفنية، والاجتهاد والرأي في كتابات هذا العصر، ولا سيما كتب المرتضى الأصولية وكتب الشيخ الفقهية والأصولية(2).
لقد كانت مدرسة بغداد تمهيداً لبلورة الأفكار وجعلها ممتازة في كيفية الاستنباط، وفتحاً جديداً في عالم الفقه الشيعي، والخروج عن حدود استعراض السنة ونقل الحديث(3).
لقد شجع البويهيون الروح الأدبية في البلاد وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة.
وكانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية عندما كانت بغداد عاصمة الخلافة، ولما دب الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة بيد البويهيين تنفس علماء الشيعة في أكثر مناطق العراق فأسست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة..... وكانت مدرسة بغداد الزاهرة في عهد هذه الأعلام واحد بعد الآخر، وقام كل منهم بدور كبير في تطوير العلوم وتقدمها، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين والمحدثين من الشيعة والسنة. واستمر هذا الحال إلى أن ضعفت سلطة البويهيين(4). ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد، فأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنة والشيعة، واحرق دوراً في الكرخ، ولم يكتف بذلك حتى كبس دار الشيخ الطوسي واحرق كتبه ومآثره ودفاتره واخذ ما وجد من دفاتره وكتبه واحرق الكرسي الذي كان الشيخ يجلس عليه(5).
وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض لها الشيخ الطوسي لعمليات الدهم أو إحراق كتبه فقد أحرقت كتبه عدة مرات في رحبة جامع(6).

5ـ حوزة النجف:
مني المسلمون في عصر آل سلجوق بالفتن، وقد أثارها السلاجقة ضد الشيعة، ومم أحدثوه ضد الشيخ الطوسي أن وجدوا كتابه مصباح المتهجد واتهموه بأشياء، منها جمع أدعية فيها اللعن والسب ووشوا بذلك عند الخليفة، فدعاه الخليفة إلى الحضور لديه مع كتابه وبعد الحضور والسؤال عن التهم بيّن الطوسي ما جرى يوم عاشوراء على العترة الطاهرة وكيف استوجب أعداؤهم اللعن، وكان إيضاح الموضوع لدى الخليفة من القوة بحيث أدى إلى احترام الخليفة للطوسي ورفعة مكانه عنده. غير أن أعداء الإسلام لم يكتفوا بذلك وأثاروا الغوغاء والفتن بين الشيعة والسنة في سنة 448 هـ وقد استهدف الشيعة من قبل رئيس الرؤساء ابن المسلمة الذي كان تحت إمرة السلاجقة مما اضطر الشيخ أبو جعفر الطوسي للهرب ونهبت داره(7). ليلقي رحل إقامته بالنجف الاشرف في جوار الإمام علي عليه السلام فتأسست جامعة النجف الاشرف بجهوده، وقد اجتمعت حوله ثلة مختارة من علماء الطائفة كان لهم الأثر البالغ في تنمية العلوم الإسلامية وازدهارها، وكان حصيلة هذه الحوزة رجالات ممتازة في ميادين العلوم الإسلامية بمختلف الاعصار(8). حيث أنجبت هذه الحوزة إلى يومنا هذا عشرات الآلاف من فطاحل أعلام الطائفة.

ـــــــــــــــــــــ
الهوامش
ــــــــــــــــــــ
(1) شرح اللمعة:ج1 ص55.
(2) المصدر نفسه:ج1 ص64.
(3) مقدمة جامع المقاصد:ج1 ص16 ـ تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ط 1، 1408هـ.
(4) أضواء على عقائد الشيعة الإمامية: الشيخ جعفر السبحاني، ص336 -338، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، ط1، 1421هـ.
(5) انظر الكامل في التاريخ:ابن الأثير: ج6 ص638، حوادث 449 دار صادر سنة الطبع 1399هـ / البداية والنهاية ج12 ص90 خ248.
(6) سير أعلام النبلاء: شمس الدين الذهبي، ج18 ص335. مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ
(7) البداية والنهاية:ابن كثير الدمشقي ج12 ص86، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(8) انظر: الاقتصاد: الشيخ الطوسي ص10 – 11 تحقيق حسن سعيد، مكتبة جهلستون، قم، سنة الطبع 1400هـ.