إن من أصول تعاليم الأنبياء والمرسلين عبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة كل شيء سواه. ولم تخل تعاليم أي نبي من ذلك.
والعبادة في الدين الإسلامي الحنيف - كما نعلم - عنوان سائر التعاليم الإسلامية. ولكنها في الإسلام ليست بصورة سلسلة من المراسيم والطقوس والتقاليد والعادات والآداب والتعاليم المنفصلة عن الحياة والمرتبطة بالحياة الأخرى فقط، بل هي في الإسلام توأم مع الحياة وفي صميم فلسفة الحياة فيه.
ففضلاً عن أن بعض العبادات الإسلامية تؤدى بصورة جماعية، نرى أن الإسلام جعل كثيراً من العبادات الفردية بحيث تتضمن تحقيق بعض مطالب الحياة.
فالصلاة - مثلاً - التي هي مظهر كامل لإظهار العبودية، جعلت بصورة خاصة بحيث أن الفرد الذي يريد أن يصلي لوحده في زاوية بيته، يتقيد بصورة (أتوماتيكية) بالعمل بعدد من الوظائف الأخلاقية والاجتماعية، من قبيل: النظافة، ورعاية حقوق الآخرين، ومعرفة الوقت وتثمينه، ومعرفة القبلة وتثمين الاتجاه، وضبط النفس، وإعلان الصلح والسلام مع عباد الله الصالحين، وغير ذلك.
بل إن الإسلام يعتبر كل عمل مفيد - إن كان صادراً بدافع إلهي طاهر - عبادة لله. ولذلك فإنه يعتبر طلب العلم عبادة (1)، وطلب الحلال عبادة (2)، والخدمات الاجتماعية عبادة (3).
ومع ذلك، فقد شرع تعاليم خاصة وضع بها مراسيم خاصة للعبادة بالمعنى الأخص - كالصلاة والصوم والحج، ولكل من هذه العبادات علل وحكم وفلسفات (4).
-- مراتب العبادات ------
إن الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه، فهو يعطي العمل وسوف يستلم الأجرة عليه، وكما يصرف العامل طاقته العملية لصاحب العمل فيأخذ منه الأجرة على ذلك، كذلك يتعب العابد أيضاً بعبادته إذ يركع فيها ويسجد ويقوم ويقعد، ومن الطبيعي أن يطلب على ذلك أجراً سيجده في عالم الآخرة. وكما تنحصر فائدة العمل للعامل في تلك الأجرة التي يأخذها من صاحب العمل، فإذا لم يكن هناك أجرة ذهبت أتعابه سدى، كذلك فائدة العبادة - عند هؤلاء - هي تلك الأجرة التي يُعطاها العابد في عالم الآخرة في بضاعات وسلع مادية!
وأما أن صاحب العمل إنما يعطي الأجرة عوضاً عما يستفيده من عمل العامل، فما هو الذي يستفيده صاحب الأمر في العالم (وهو الله) من عمل العبد - هذا الضعيف الذليل؟ - وعلى فرض أن يكون عطاء الأجر على العبادة تفضلاً منه وكرماً، فلماذا لا يُعطاه بدون أن يصرف مقداراً من طاقاته في عبادته سبحانه؟ فهذا ممّا لا تفكر فيه هذه الطائفة من العابدين! إذ العبادة - عند هؤلاء - نفس هذه الأعمال البدنية والحركات الظاهرية التي تتبدى بصورة محسوسة من اللسان وسائر أعضاء البدن في الإنسان!
هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام، وهو - كما يقول ابن سينا في النمط التاسع من كتابه الإشارات - ناشئ عن عدم المعرفة بالله، وإنما تقبل عبادة بهذا التصور من عوام الناس القاصرين فقط.
والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله.
وفي هذا التصور لا يوجد عامل وصاحب عمل وأجرة كما بين العمال وأصحاب العمل، بل لا يمكن أن يوجد. بل العبادة - عند هؤلاء - قربان الإنسان ومعراجه وتعاليمه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية، وهي ساحة انتصار الروح على البدن، وأسمى مظاهر شكر الإنسان لمبدئ الخلقة ومعيدها، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.
وفي هذا التصور عن العبادة نجد أن للعبادة جسماً وروحاً، ظاهراً ومعنى، فما يتحقق منها باللسان وسائر الأعضاء هو ظاهر العبادة وجسمها، وأما معنى العبادة وروحها فهو شيء آخر، وهو يرتبط بما يفهمه العابد من عبادته وبنوعية تصوره عن العبادة، وبالباعث له على العبادة، وبما يحظى به من عمل العبادة، وبما يتقدم به من العبادة إلى الله، ويتقرب بها إليه.
-- العبادة في نهج البلاغة ------
- فما هي صورة العبادة في نهج البلاغة؟
إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى، بل نقول: إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - هو كلام الإمام (عليه السلام).
إن إحدى أوجه الأدب الإسلامي - سواء العربي أو الفارسي - هو أدب الدعاء، والأفكار الدقيقة واللطيفة التي توجد في هذا الموضوع ممّا يثير العجب ويبعث على الاستحسان.
وبمقارنة أدب الدعاء في الإسلام مع ما كان سائداً من الأدب العاطفي الإلهي والعبادي في رقعة البلاد الإسلامية قبل الإسلام، يمكننا أن نفهم مدى عظمة تلك النهضة بل الثورة التي بعثها الإسلام في الأفكار من العمق والشمول واللطف والرقة. إن الإسلام صنع من أولئك الذين كانوا يعبدون الأوثان أو الإنسان أو النيران أو الثيران، فكانوا بقصر أفكارهم يعبدون ما ينحتون بأيديهم، أو يهبط به إلى مستوى إنسان أب أو ابن أو أم، أو هم معاً، أو يصنع لأهورا مزدا ضمناً ينصبه في كل مكان فيعبده ويسجد له.. من هؤلاء، صنع أناساً وسعت عقولهم لأدق الأفكار وألطفها وأسمى التصورات وأعلى المعاني! فما الذي حدث فغيّر الأفكار والعقول ورفعها وأعلى كعبها، وقلب الموازين والمقاييس والقيم؟!
إن المعلقات السبع و(نهج البلاغة) نتاجان لعهدين متقاربين بين الجاهلية والإسلام، وكل منهما مثل أعلى للفصاحة والبلاغة في لغة عصره ومصره. أما من ناحية المحتويات فهيهات هيهات! وشتّان شتّان! فكل ما في الأول أوصاف عن الخيول والرماح والجِمال والجَمال والمدح والذم والهوى والغرام والغزل والنسب والتشبيب بالعيون والحواجب للكواعب! وأما الثاني ففيه أسمى المفاهيم الإنسانية وأعلاها وأزكاها وأطيبها وأنماها.
والآن لتتضح لنا صورة العبادة في (نهج البلاغة) نأخذ في ذكر نماذج من كلمات الإمام (عليه السلام)، ونبدأ كلامنا هنا بكلمة منه (عليه السلام) في اختلاف تصورات الناس عن العبادة.
- عبادة الأحرار
(إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) (5).
(لو لم يتوعّد الله على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمته).
(إلهي ما عبدتك - حين عبدتك - خوفاً من تارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (6).
- ذكر الله على كل حال
إن أصول جميع الآثار المعنوية والأخلاقية والاجتماعية في العبادة إنما هي في شيء واحد، هو: ذكر الله على كل حال، وتناسي ما سواه. ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة فيقول: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (7) ويقول أيضاً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) (8) ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله يذكر الله ولا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل السميع العليم والسميع البصير. إن ذكر الله - وهو الهدف من العبادة - يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره، ويعدّه لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه.
قال الإمام علي (عليه السلام):
(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم) (9).
وقد بين الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه.
مقامات المتقين
وقد عدّد الإمام (عليه السلام) في نفس هذه الخطبة - وفي سائر الخطب ومنها خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم، إذ يقول:
(قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسمون بدعائه روح التجاوز...) (10).
- ليالي أولياء الله
إن عالم العبادة في (نهج البلاغة) عالم آخر مليء باللذة الروحية، لذة لا تقاس باللذة المادية ذات الأبعاد الثلاثة. إن عالم العبادة في نهج البلاغة عالم مليء من الحركة والنشاط والسير والسلوك لا إلى العراق والشام ولا إلى أي أرض بلد آخر، بل إلى بلد لا اسم له على الأرض إطلاقاً! إن عالم العبادة في نهج البلاغة لا يختص بليل ولا بنهار، إذ هو مليء بالأنوار، لا ظلمة فيه ولا كدر، بل هو خلوص وصفاء وتزكية وطهارة، وما أسعد من يقدم إلى ذلك العالم - على العبادة - في نهج البلاغة! ليعلله نسيمه المحيي للأرواح والقلوب! فإن من يقدم إلى ذلك العالم لا يبالي بعد ذلك أن يضع رأسه في دنيا المادة على الحرير أو اللبنة:
(طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذ غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون) (11).