ثالثاً: الإخبارات الغيبيّة والكرامات عند الإمام عليٍّ عليه السّلام
لقد امتاز الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السّلام على باقي الصحابة بكرامات عديدة، حتّى شكّلت إخباراته بالحوادث المستقبلية ظاهرةً مشهودة في حياته، فمِن ضمن ما أَخبَرَ به وتحقّق خارجاً، ما يلي:
1 ـ إخباره عليه السّلام بعمارة بغداد ومُلْك بني العبّاس وذِكْرِ أحوالهم وأخذ المغول منه. قال عليه السّلام: « وما أدراك ما الزوراء! أرض ذات أثل، يُشيَّد فيها البنيان، ويكثر بها السكّان، يتّخذها وُلْدُ العبّاس مَوْطناً، ولزخرفهم مسكناً، تكون لهم دارَ لَهْوٍ ولَعِب، ويكون بها الجورُ الجائر والحيف المحيف، والأئمّة الفجرة، والقُراء الفَسَقة، والوزراء الخَوَنة، يخدمهم أبناءُ فارسَ والروم، لا يأتمرون بينهم بمعروفٍ إذا عَرَفُوه، ولا يَنتَهُون عن منكرٍ إذا نَكِرُوه... »(163).
2 ـ جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي مررتُ بوادي القرى، فرأيت خالدَ بن عرفطة قد مات، فاستغفرْ له.
فقال عليه السّلام: « إنّه لم يَمُت، ولا يموتُ حتّى يقودَ جيشَ ضَلالةٍ، صاحبُ لوائهِ حبيبُ بن جمّاز ». فقام رجل من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي لك شيعة، وإني لك محبّ.
فقال: ومن أنت ؟ قال: حبيبُ بن جمّاز. فقال عليه السّلام: « إيّاك أن تحملها، ولتحملنّها فتدخل بها مِن هذا الباب »، وأومأ بيده إلى باب الفيل.
فلما مضى أمير المؤمنين عليه السّلام ومضى الحسن ابنُه مِن بعده، وكان من أمر الحسين عليه السّلام ما كان؛ بعث ابنُ زياد بعُمَرِ بنِ سعد إلى الحسين عليه السّلام وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته، وحبيبَ بن جمّاز صاحبَ رايته، حتّى دخل المسجدَ مِن باب الفيل(164).
3 ـ ورُوي عنه عليه السّلام أنّه لمّا توجّه إلى صِفِّين لحرب معاوية ووصل إلى كربلاء؛ وقف عليه السّلام ناحيةً من المعسكر، ثمّ نظر يميناً وشمالاً وقال: « هذا واللهِ مناخُ رِكابِهم، وموضعُ منبتهِم ». وبكى بكاءً طويلاً.
فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الموضع ؟ ومَن هؤلاء ؟ فقال عليه السّلام: « هذه كربلاء، يُقتل فيها فئةٌ من آل محمّدٍ ظلماً وعدواناً، ويُقتَل معهم قومٌ يدخلون الجنّةَ بغيرِ حساب ».
ثم سار عليه السّلام وكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال، حتّى كان من أمر الحسين عليه السّلام ما كان(165).
4 ـ ولما خرج الإمام عليّ عليه السّلام إلى أهل النهروان؛ أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدّمته يركض، حتّى انتهى إلى الإمام عليٍّ عليه السّلام فقال: البشرى يا أمير المؤمنين! قال: « ما بُشراك ؟ ».
قال: إنّ القوم عبروا النهر لمّا بلغهم وصولك، فأبشِرْ، فقد منحك الله أكتافَهم، فقال له: « آلله أنت رأيتَهم قد عبروا! » قال: نعم، فأحلَفَه ثلاث مرّات، في كلّها يقول: نعم، فقال الإمام عليّ عليه السّلام: « واللهِ ما عبروه ولن يَعبروه، وإنّ مصارعَهم لَدُون النطفة، والّذي فلَقَ الحبّة، وبرأ النَّسَمة،لن يبلغوا الأثْلاث ولا قَصْر بَوازِن، حتّى يقتلهم الله، وقد خابَ مَن افترى ».
قال: ثم أقبل فارس آخر يركض، فقال كقول الأوّل، فلم يكترث الإمام عليّ عليه السّلام بقوله، وجاءت الفرسان تركض كلّها تقول مثل ذلك، [ فقال: « فلا يبقى منهم إلاّ أقلّ من عشرة، ولا يُقتَل من أصحابي إلاّ أقلُّ من عشرة » ].
فقام الإمام عليّ عليه السّلام فجال في متن فرسه، قال: فيقول شابّ من الناس: واللهِ لأكوننّ قريباً منه، فإن كانوا عبروا النهر لأجعلنّ سِنانَ هذا الرمح في عينه، أيدّعي عِلمَ الغَيب ؟
فلمّا انتهى عليه السّلام إلى النهر؛ وجد القومَ قد كسروا جفونَ سيوفهم وعرقَبوا خيلهم، وجَثَوا على رُكَبهم وحكّموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زَجل، فنزل ذلك الشابّ فقال: يا أمير المؤمنين إنّي كنت شككتُ فيك آنفاً، وإنّي تائب إلى الله وإليك فاغفرْ لي.
فقال عليّ عليه السّلام: « إنّ الله هو الذي يَغفر الذنوب، فآستغْفِرْه »(166).
5 ـ عن إسماعيل بن رجاء، قال: قام أعشى باهلة(167) ـ وهو غلام يومئذٍ حدث ـ إلى عليٍّ عليه السّلام وهو يخطب ويذكُر الملاحم، فقال: يا أميرَ المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة!
فقال عليّ عليه السّلام: « إن كنتَ آثماً فيما قلتَ يا غلام، فرماك الله بغلامِ ثَقيف ».
ثم سكت، فقام رجال فقالوا: ومَن غلامُ ثقيف يا أمير المؤمنين ؟!
قال عليه السّلام: « غلامٌ يملك بلدتكم هذه، لا يتركُ لله حُرمةً إلاّ انتهَكَها، يضرب عُنُقَ هذا الغلام بسيفه ».
فقالوا: كم يملُك يا أمير المؤمنين ؟
قال: « عشرين إنْ بَلَغها ».
قالوا: فيُقتَلُ قتلاً أم يموت موتاً ؟
قال: « بل يموت حَتْفَ أنفه بِداءِ البَطن، يثقب سريرَه لكثرة ما يخرج من جَوفه ».
قال إسماعيل بن رجاء: فواللهِ لقد رأيتُ بعينَيّ أعشى باهلة، وقد أُحضر في جملة الأسرى الذين أُسِروا من جيش عبدالرحمان بن محمّد بن الأشعث بين يَديِ الحجّاج فقرّعه ووبّخه.
واستنشده شِعرَه الذي يحرّض فيه عبدالرحمان على الحرب، ثم ضرب عنقَه في ذلك المجلس(168).
ومن كراماته عليه السّلام ما جاء في تفسير الفخر الرازيّ، في ذيل تفسير قوله تعالى: أم حَسِبتَ أنّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا من آياتِنا عَجَباً (169)، قال: وأمّا عليّ عليه السّلام فيُروى أنّ واحداً من مُحبّيه سرق، وكان عبداً أسود.
فاُتيَ به إلى عليّ عليه السّلام فقال له: « أسرَقْت ؟ » قال: نعم، فقطع يده.
فانصرف من عند عليٍّ عليه السّلام فلقيه سلمانُ الفارسي وابن الكوّاء، فقال ابن الكوّاء: مَن قطع يدك ؟ قال: أميرُ المؤمنين، ويعسوب المسلمين، وخِتنُ الرسول، وزَوج البتول.
فقال: قطعَ يدَك وتمدحه ؟! فقال: ولِمَ لا أمدحه وقد قطع يَدي بحقّ وخلّصني من النار. فسمع سلمان ذلك، فأخبر به عليّاً عليه السّلام فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطّاها بمنديل، ودعا بدعوات، فسمعنا صوتاً من السماء: اِرفَعِ الرداء عن اليد، فرفعناه فإذا اليد قد بَرِئت بإذن الله تعالى وجميلِ صنعه(170).
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله أدعو عليّاً، فأتيتُ بيته فناديتُه، فلم يُجِبْني، فعُدتُ فأخبرت رسولَ الله صلّى الله عليه وآله فقال لي: « عُدْ إليه، اُدْعه فإنّه في البيت ». قال: فعدتُ أُناديه، فسمعت رحىً تطحن، فشارفتُ فإذا الرّحى تطحن وليس معها أحد، فناديتُه فخرج إليّ منشرحاً، فقلت له: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله يدعوك، فجاء، ثمّ لم أزل أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وينظر إليّ، ثمّ قال: « يا أبا ذرّ ما شأنك ؟ ».
فقلت: يا رسول الله، عجيب من العجب، رأيت رحىً تطحن في بيت عليّ عليه السّلام وليس معها أحدٌ يرحى.
فقال: « يا أبا ذرّ، إنّ لله ملائكةً سيّاحين في الأرض، وقد وُكِّلوا بمؤونة آلِ محمّد »(171).
الخلاصة
لقد ترك الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السّلام من الانطباعات الخيّرة في نفوس الصحابة، ما جعل تصريحاتِهم بأفضليّته على الصحابة تملأ كتب التفسير والحديث والتاريخ.
كما أن الإمام عليّاً عليه السّلام قد جسّد بسلوكهِ الإيمانيّ، وطاقاته العلميّة والجهاديّة والأخلاقيّة ما خطّتْه الرسالة بما لا يَخفى على أحد، فكان المثلَ الأعلى في تطبيقها بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، في الوقت الذي يعجز باقي الصحابة عن الرُّقيّ إليها.
وشهد القرآنُ الكريم وصرّحت أقوالُ الرسول صلّى الله عليه وآله بفضل الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة، كما مرّ ذكره في أكثر من مناسبة.
وكان عليه السّلام هو المرجعَ للصحابة في حل المعضلات بشكل عامّ للحكّام قبلَه بنحو خاصّ.
وعليه، يكون الإمامُ عليُّ بن أبي طالب عليه السّلام أفضلَ الصحابة على الإطلاق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله دون منازِع، ويكون هو الأَولى بالأخذ عنه وتولّيه واتّباعه وطاعته، والإقرار بولايته وإمامته وترجيحِ قولهِ على أقوال غيره من الصحابة، والاعتقاد بفرض مودّته، وفوقيّة منزلته، وأشرفيّة مقاماته، وأولويّة خلافته، صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأئمّة الطاهرين.
------
163 ـ كشف اليقين للعلاّمة الحليّ 80، ونحوه في نهج الحق للعلاّمة الحليّ 244 باختصار.
164 ـ لاحظ: كشف اليقين 79، وإرشاد القلوب للديلميّ 34:2، ونهج الحقّ 243، والمناقب لابن شهرآشوب 270:2 ـ في إخباره بالبلايا والمنايا. وراجع شرح ابن أبي الحديد 287:2.
165 ـ راجع: كشف الغمة 282:1، وكشف اليقين 80، والإرشاد للمفيد 175.
166 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 271:2، وكشف الغمة ـ باب المناقب 375:1، وبحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 348:33.
167 ـ أعشى باهلة، اسمه عامر بن الحارث.
168 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 289:2.
169 ـ الكهف:9.
170 ـ التفسير الكبير للفخر الرازيّ 88:21.
171 ـ الرياض النضرة