الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.
عظم الله اجورنا واجوركم بحلول شهر احزان ال محمد عليهم السلام
(عاشوراء) موسمُ العطاء الرباني، موسم الفضيلة والتقوى والأخلاق، موسم العلم والمعرفة، ورمز لانتصار مبادىء الحق على جيوش الضلال.. وإذا كان عطاؤه قد بلَغَ (غاندي) محرِّر الهند الذي تعلمَ من الحسين () كيف يكون مظلوماً لينتصر، فإنّ المسلمين عامة وشيعة الإمام () خاصة أولى بهذا العطاء.
إنّ المطر الذي ينزل من السماء ليحيي الله به الأرضَ بعدَ موتها، إن استفيد منهُ على الوجه الأكمل، أعطى مختلف الثمار والأزهار، وملأ الأرض بالرياض، والقلوب بالبهجة، فإذا هبطت نسبة الاستفادة من المطر هبطت نسبة الأرباح التي يُتوقّع حصولها أيضاً.
فإن لم يستفد منه فإنّه يتسرّب إلى باطن الأرض، وبذلك يخسر الإنسان النعمةَ التي أسداها الله إليه.
وربّما اجتمع في المنخفضات ليتحوّل إلى ماء راكد وآسن يحملُ الأوبئة والجراثيم التي تكون مصدراً لكثير من الأمراض، وكذلك كثير من نعم الله.
والعنب ـ مثلاً ـ قد يكون طعاماً وغذاءاً وقد يستفاد منه في علاج بعض الأمراض وتقوية الناقهين، وقد يهمل ليلقى في القُمامة، وقد تصنع منه الخمرة الضارّة.
فالأول: من مصاديق (كُلُوا وَاشْرَبُوا..).
والثاني: (يَأخُذوا بِأحْسَنِها..).
والثالث: إسراف وتبذيرٌ وقد نُهي عنه، قال تعالى: (وَلا تُسْرِفُوا) و(إنَّ المُبَذِّرينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطين..).
والرابع: تبديل نعمة الله كفراً، فيكون مصداقاً لقول الله سبحانه: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً..)، هذا في الجانب المادي، والأمر في الجانب المعنوي أيضاً كذلك، كما قال سبحانه بالنسبة إلى القرآن الحكيم: (ونُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنينَ وَلا يَزيدُ الظّالِمينَ إلاّ خَساراً و(قُلْ هُوَ لِلَّذينَ آمَنوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمى..).
وعشرة عاشوراء كالمطر، فقد يحوّل العصاة والطغاة هذه المناسبة الدينية إلى نقيض أهدافها المثالية، وذلك حينما تُستغل لقتل الناس الأبرياء وحرق المساجد والحسينيات والمؤسسات والاعتداء على المواكب العزائية وتكريس الفرقة والاختلاف، كما تفعله بعض الجماعات في بعض الدول الإسلامية تنفيذاً لمخطط الاستعمار (فرِّق تَسُد).
وقد يستغلها بعض العصاة ـ والعياذ بالله ـ لاقتراف بعض المحرّمات والإسراف في المأكل والمشرب وتضييع الأوقات في اللهو واللعب0
وقد يُستفاد منها لإحياء ذكرى سيد الشهداء () وما يحتفُ بها من المزايا المتعارفة ـ ولا شك أنّه من أفضل القربات الموجبة لخير الدنيا والآخرة ـ.
لكن قول الله سبحانه: (يَأخُذُوا بِأحْسَنِها..) يقتضي الاستفادة من هذا الشهر الحرام أفضل استفادة وأكمل استثمار وفي شتّى الأبعاد.
ونظير هذا، قول الله سبحانه وتعالى في باب التمثيل: (أجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاجّ وَعِمارَةَ المَسْجِد الحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْم الآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللهِ..) ، فإنّ (السقاية) و(العمارة) من أفضل القربات عند الله سبحانه، لكن تكريس الإيمان والجهاد في سبيله سبحانه والعمل وفق سننه، أفضل من السقاية والعمارة، بدرجات كبيرة.
وهذا الكراس يهدف إلى بيان الطريق الأمثل والأشمل للاستفادة من هذه المناسبة ولاستثمارها على الوجه الأحسن لخدمة الدين والإنسانية ولإنقاذ البشرية من التخلّف والضلالة.
(اقتلوا كربلاء) مقولة صرّح بها لينين، الغايةُ منها القضاء على كربلاء المعنوية بتأريخها الحافل بالبطولات وبمقارعة الجبابرة والطغاة، وبمعنوياتها الأخلاقية والإنسانية.
فما دامت (كربلاء) حيّة في القلوب والضمائر، فستبقى مصدراً للإشعاع الديني، ومدرسة للعلماء والخطباء والكتّاب، ومركزاً للفضيلة والإيمان والأخلاق والتقوى و.. كل ذلك مما يناقض أسس الشيوعية.
لم يكن ذلك كلام لينين وحدهُ وإنّما صرّح بذلك قبله (يزيد) و(الحجّاج) و(هارون) و(المتوكّل)
و(الحكومة العثمانية).
و(البهلوي الأول) وعشرات الطغاة الآخرين، من أمثال (البكر وصدام) حيث هدما الحوزة العلمية في النجف وكربلاء، وقتل الثاني منهما في (الانتفاضة) أكثر من ثلاثين ألف إنسان، وهدّم المساجد والحسينيات والمدارس والمكتبات والمستوصفات ومقابر العلماء وألوف الدور والبساتين والأسواق والمراكز التجارية، وضرب بمدافعه قبّة الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام
وارتكب مجزرة بشعة في الحرمين المطهّرين يندى لها الجبين، فكانت الدماء تلطخُ كل مكان، كما فعل جيش يزيد بالمدينة المنوّرة وحرم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفعل الحجّاج بالمسجد الحرام بأمر الخليفة الأموي.
لكن سنّة الله في الحياة إعلاء راية الحق وإظهاره وإزهاق الباطل واندحاره، لذا ذهب الطغاة والجبابرة (وأتْبِعُوا في هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيامَةِ) وبقيت كربلاء حيّة نقية، مصدراً للإشعاع الديني والفكري، ومنبعاً للأخلاق والفضيلة والحركة.
وبقيت كربلاء نبراساً للمجاهدين والأحرار، وسراجاً للأمم والشعوب، ومدرسة لتربية العلماء والمبلّغين وحملة الأقلام، منذ استشهاد الإمام () وإلى يومنا هذا وإلى يوم ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
وكما قالت عقيلة الهاشميين زينب (سلام الله عليها) للإمام زين العابدين (): (وينصبون ـ الناس ـ لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء () لا يُدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علوّاً)
وقالت (عليها السلام) ليزيد:
(فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا) .
إن الواجب علينا إن أردنا الله واليومَ الآخر أن نصبّ اهتمامنا لإحياء كربلاء وبقية العتبات المقدسة مادياً ومعنوياً، وأن نكثر الاستفادة من هذا السراج الوهاج، الذي ينير الدربَ لكل من يطلب السعادة في الدنيا، والفوز بالجنّة في الآخرة فـ(الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).