السلام عليكم ورحمه الله وبركاتة
اللهم صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
زمن إستغلال العمائم!!
إنها بضع مقارنات بين الماضي والحاضر، فلنتأمل بها جيداً حتى ندرك أبعاد المأساة.
في الماضي.. أي حينما كنا صغاراً، أذكر أن الخطيب المعمم ما إن ينزل من منبره بعد انتهاء محاضراته، كانت الناس تتدافع على تقبيل جبهته ويديه وعمامته وأطرافاً من عباءته، فيما كان بعض منهم يمسح عرقه ويضع شيئاً منه على وجهه تبركاً بعرق من أحيا ذكرى أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام). في ذلك الزمان كان للعمامة شأنها وهيبتها، فلم يكن أحد ليجرؤ على أن يرتديها دون أن يكون مؤهلاً لذلك، وكان بحق تاجاً على رؤوس أهل العلم والتقوى والصلاح.
وقد كان بعض العلماء من شدة ورعهم وتقواهم يعزفون عن ارتداء العمامة لأنهم يرون أنفسهم غير جديرين بها، فثمة عالم ذا مرتبة علمية عالية جعلته يحوز درجة الاجتهاد قضى في الحوزات أكثر من أربعين عاماً، لكنه حتى هذه اللحظة يمتنع عن ارتداء عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله لما تفرضه عليه من مسؤوليات جمّة لا يرى نفسه جديراً بها. وليس ذلك بغريب؛ فالعمامة تكسب صاحبها تمثيلاً شرعياً سيحاسب عليه أمام رب العالمين، إنه بذلك يتحمل مسؤولية خطيرة ذات التزامات متعددة وأدوار مختلفة، فهو الرجل الذي يعمل على حفظ عقيدة المؤمنين وبيان أحكام الدين، وهو من يقع على عاتقه تبليغ وترويج المذهب الحق، وهو الذي يربط المجتمع بالقيادة الدينية المتمثلة بالمرجعية، وهو من يتكفل بفض المنازعات وحل المشاكل في ما بين الأفراد وإقامة الحدود في حال كونه حاكماً شرعياً مبسوط اليد.
لقد كانت الناس في ما مضى تحترم العمامة وصاحبها احتراماً كبيراً لا يضاهيه احترام، ليس لمجرد عمامته، بل لأنه ينطق باسم الدين والمذهب واحترامه امتداد لاحترام الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام). فلم يكن المؤمنون يرجعون إلى الحكومات المدنية لفض منازعاتهم واختلافاتهم، بل كانوا يحتكمون إلى المرجعية الدينية والفقهاء العدول ومن ينصبهم أولئك لذلك.
تلك مشاهد من الماضي القريب، ولننقل هنا مشاهد من حاضرنا البائس لنكتشف التحول الرهيب: فالمعمم اليوم يطلب سيارة أجرة في الدولة التي عمادها المعممون ولا يتوقف صاحب السيارة لإيصاله لأنهم (يكرهون المعممين) على حد قولهم! والمعمم اليوم يذهب إلى مجالس الديوانيات فلا يقوم له أحد احتراماً، بل يتأفف المتواجدون من حضوره! والمعمم اليوم يعتلي منبره ليخطب في الناس والحضور لا يتجاوزون أصابع اليد في غير المواسم، بل الأهالي يمنعون أبناءهم من التردد على تلك المجالس حتى (لا يتعقدوا من المعممين)! فما الذي حدث وأين مكمن الخلل وما هي المشكلة؟ لماذا بات الاحترام لرجل الدين المعمم مفقوداً في أوساط الأعم الأغلب من الناس؟ لمَ كرهوا زي علماء الدين وحديثهم ومنطقهم؟ فتارة يقولون بأن همّهم مصالحهم وجبي الأموال باسم (الخمس)؟ وتارة يقولون بأنهم أفراد لا صنعة لهم فامتهنوا مهنة رجل الدين وعاشوا عالة على المجتمع؟ وأخرى يقولون بأنهم أهل البحث عن (المتعة)؟ وهكذا تتوالى التهم واحدة تلو الأخرى.. ويبتعد المجتمع عن العلماء صالحهم وطالحهم، فما الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة يا ترى؟! هل هذه التهم صحيحة بحذافيرها؟ أم أن الأمر خلاف ذلك؟
ينبغي لنا بداية أن ندرك أن الوسط العلمائي هو كغيره من الأوساط، في الصالح والطالح، الحسن والرديء، المخلص وغير المخلص، الصادق والكاذب، وذلك أمر طبيعي إذ لا عصمة للبشر والمعممون منهم على أية حال. وإذا كان هناك بعض الممارسات الخاطئة فلا يحمل وزرها المجموع، أي لا يوجب ذلك النقمة على كل علماء الدين حيث (لا تزر وازرة وزر أخرى). غير أن هذه الحالة الطبيعية لا تمنعنا من قول الحقيقة سالكين في ذلك مسلك النقد الذاتي الإصلاحي.
إن الأمر ليس بفعل بعض الممارسات الخاطئة فحسب، بل هو يتعدى ذلك بكثير. إننا هنا نتحدث عن العمامة كرمز لا كملبس، فكيف سقطت هذه الرمزية في عيون المجتمع وما عوامل ذلك؟ لاشك بأن الإجابة على مثل هذا السؤال متشعبة كثيراً، لكننا لا يمكن أن نوجه أصابع الاتهام إلى مجرد بضع ممارسات من ذوي الضمائر الضعيفة ممن ارتدوا جلباب الدين وغرتهم الدنيا ببهرجها وزخرفها، لأن مثل تلك المماراسات كانت حاضرة على مختلف الأزمان، قديماً وحديثاً، فما التحول الذي طرأ الآن خصوصاً؟
إن هذا التحول مرده عوامل رئيسية غيرت كثيراً من المعادلات التي كانت تحكم الوسط العلمائي، من بينها العامل السياسي الذي تمثّل بقيام أول تجربة للحكم الإسلامي الإمامي في إيران وما رافق هذه التجربة من إخفاقات ولدت شعوراً بالإحباط والانتكاسة. ففي الوقت الذي كانت تتطلع فيه الشيعة إلى نموذج تكاملي مثالي يعزز من المكانة التاريخية للمدرسة الإمامية ويقدم صورة مشرقة لطبيعة توليها السلطة، جاءت الممارسات الخاطئة من قبيل اللجوء إلى العنف وسلب الحريات وإلغاء الآخر وحصر الشرعية في قطبية أحادية علاوة على قمع بعض المرجعيات المخالفة كما حدث لآيات الله الشريعتمداري والشيرازي والمنتظري، جاءت تلك الممارسات لتصب في قالب أوجد نفوراً من النموذج الإسلامي وردة فعل عكسية.
لقد شاهدنا ذلك بأم أعيينا في جولاتنا ولقاءاتنا، فتجد معمماً متخرجاً من هذه المدرسة السياسية يتقن فنون العمل السياسي ببراعة، لكنه يجهل أبسط المسائل الشرعية. لقد أصبحت العمامة وفق هذه المعادلة مجرد وسيلة للوصول إلى مناصب اتخاذ القرار، وذلك نابع من تلك المدرسة السياسية التي مارست أدوات كثيرة بغية تسييس أنظمة الحوزات العلمية، وهذا ما حدث فعلاً مع الأسف. لقد كان هذا الهاجس - أعني توظيف الدين في خدمة السياسة - ماثلاً في أذهان كثير من العقلاء إبان قيام هذا النموذج، وقد أثبتت التجربة أنه في محله، واليوم يلمس الجميع كيف ارتد الشارع الإيراني عن قيادة المعممين وفقد الثقة بهم، وكان من نتاج ذلك أن نفر الشارع من الدين بشكل عام وبدأنا نلاحظ كيف تخرج الفتيات كاشفات أكثر من نصف رؤوسهن وهن يرتدين بعض النظارات المثيرة وبنطال (الجينز) - وإن سترنه بعباءة تظهر منه أكثر مما تخفي - خلف شباب (متأمرك) على الدراجات النارية في الشوارع والأزقة، بل وقرب المراقد المقدسة هناك. إن هذه الجموع الشعبية التي كانت محور قيام النظام الإسلامي انقلبت اليوم عليه، لأنها لم تر فيها ما كانت تتأمله. هذا مثال باختصار عن العامل السياسي.
ومن عوامل تدني درجة احترام العمامة؛ عامل التباعد المرجعي. فهذا التشتت في ما بين المرجعيات الذي وصل في أحيان إلى حد المحاربات المكشوفة والفتاوى المتضادة أعان على تغيير نظرة الناس إلى المعممين ورجال الدين، وكيف لا وهم ينظرون إلى إمام مسجد فلاني يكرّس طاقاته وجهوده كلها لمحاربة مرجعية أخرى منافسة ويدعو المصلين إلى عدم الصلاة في المسجد الذي يمثلها لأن الصلاة خلف إمامه باطلة! وكيف لا وهم يرون المعممين يتناطحون في ما بينهم لأجل الاستحواذ على الساحة وتأليبها ضد خصومهم! وكيف لا وهم اكتشفوا أن كثيراً من أولئك المعممين يقولون ما لا يفعلون (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)!
ولو أن المرجعيات حاولت بحق أن تقرب المسافات في ما بينها من خلال نظرية (شورى الفقهاء) الحضارية؛ لارتفعت معظم الحواجز في ما بينها ولتلاشت معظم الخلافات إلى حد كبير، خاصة تلك التي كان للقوى الاستعمارية الدور الرئيسي في إذكاء نارها لإدراكها بأن توحد المرجعيات يعني نشوء قوة إسلامية صلبة تدفع بالمسلمين للتغيير والتصدي لمحاولات الاستغلال الغربية، وتكوين الدولة الإسلامية العالمية الواحدة في مرحلة متقدمة.
ثم لا يُغفل في هذا الإطار دور الكتل الحزبية في تأجيج الساحة، وهي ذاتها التي ساهمت في إلغاء محدّدات رجل الدين وشروط أهليته لذلك، فرفعت ومجدت من ينجسم معها، وحطت من قدر من يختلف وإياها. وهذا المطلب يحتاج إلى تفصيل غير أننا نكتفي بهذا المقدار حول عامل التباعد المرجعي لننتقل إلى العامل الثالث والذي نطلق عليه (استغلال العمامة)!
إن كثيرين من الذين أرادوا تحقيق طموحاتهم الشخصية وجدوا في العمامة وسيلة سهلة لذلك، خاصة بعدما أصبح نيلها سهلاً بالالتفات للعاملين الأول والثاني اللذان ذكرناهما آنفاً. أولئك شوّهوا كثيراً سمعة رجل الدين المعمم، حيث إنهم استغلوا العمامة استغلالاً بشعاً ومأساوياً، وبعضهم قدّم إلى العامة صورة منحطة لرجل الدين فالواحد منهم تراه لم يحصِّل العلوم الدينية إلا لفترة وجيزة يعود بعدها لينخرط في المجتمع ويفصّل الأحكام كما يحول له وكيفما شاء، وذلك يعود إلى عدم رغبته بمواصلة الدراسة الحوزوية أصلاً فالهدف عنده هو مجرد لبس (العمامة).
أذكر ذات ليلة أني كنت جالساً في ديوان أحد التجار هنا في البلد، وبينما كنت أتجاذب أطراف الحديث معه حول إحدى المشاريع وإلى جانبي سماحة الخطيب الشيخ مرتضى الشاهرودي، وإذا بثلاثة من المعممين الإيرانيين يدخلون ويسلمون على الحاضرين فرداً فرداً، حتى إذا وصلوا إلى صاحب الديوان قبّلوا رأسه! ثم بدءوا بالحديث معه طالبين منه بعض المال. كان التاجر ذكياً فجرّهم في الكلام إلى أن اعترفوا أنهم قدموا خصيصاً من إيران للتسول لا أكثر! وأنهم دفعوا كذا وكذا لمن استقدمهم ببطاقة زيارة (فيزا)، والعجيب فيهم التبجح والقهقهة خلال حديثهم! عندئذ التفت سماحة الشيخ الشاهرودي إليّ قائلاً: (أ رأيت كيف يأتي هؤلاء الحثالة ليسودوا وجه رجال الدين؟!) وخرج غاضباً. كان هذا موقفاً غريباً شهدته للمرة الأولى، غير أني سألت التاجر عن أمثال أولئك فقال: (أنت لا تعلم.. يأتيني في السنة ما لا يقل عن ألف رجل من هذا النمط)!!
إن حالات انتحال شخصية عالم الدين زادت في الآونة الأخيرة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك أيضاً من انتحل شخصية مرجع التقليد وهو ليس كفؤا للبس العمامة أصلاً! ولم يعد مستغرباً من مثل هذا أن ترى صورته - وهو في زيه العلمائي الكامل وعمامته السوداء الكبيرة - في لقاء صحافي أجرته معه مجلة خلاعية تركية إلى جوار صورة لامرأة متجردة من ثيابها تماماً! ولم يعد مستغرباً ممن كان همّه الظهور السياسي أن يُشاهَد بعمامته في صحيفة كويتية فاتحاً جلبابه ومتحدثاً عن حلِّية الأفلام الجنسية ومغامراته الشبابية وخدماته لمن يعانون ضعفاً في الاستجابة الجسدية! ولم يعد مستغرباً أن يظهر زعيم لإحدى أهم فصائل المعارضة الإسلامية العراقية على شاشة فضائية عربية متحاوراً مع مذيعة سافرة تلبس لباساً مثيراً! ولم يعد مستغرباً أيضاً أن يخرج مجموعة معممين من طورهم ويرقصون بعمائمهم أمام الملأ رقصة (الدبكة) اللبنانية ابتهاجاً بانسحاب القوات الصهيونية من الجنوب! والأمثلة تتوالى.
هؤلاء لا يهمهم أمر العمامة وسمعة الدين والمذهب، فقد أخذوها وسيلة لتعويض النقص الذي يشعرون به إزاء المجتمع الذي رفض المصلحيين، تماماً كما تفعل المرأة السافرة التي تضع على وجهها أطناناً من مساحيق التجميل وتتفنن باستخدام أحدث أنواع العطور والملابس الفاتنة، لأنها تعاني من عقدة نقص تعود إلى إحساسها بأن الرجال يرونها قبيحة الشكل والمظهر. هنا يظهر الجانب السلبي من حياة الإنسان، ذلك الجانب الذي يقوده إلى ارتكاب المحرمات في سبيل نيل مطالبه الدنيوية.
لقد لعب هؤلاء دوراً أساسياً في زعزعة احترام الناس لشخصية علماء الدين، الذين كانوا يحظون في ما مضى باحترام واسع من قبل المجتمع. لقد أصبحت العمامة مع الأسف مهنة من لا مهنة له!
ونحن لا نملك إزاء تشخيصنا لهذه الحالة المزرية إلاّ أن ندعو الناس إلى التفريق بين الصالح والطالح، فما كل من إرتدى العمامة معمم حقاً، وما كل من لبس جلباب الدين عالم حقاً. والتمييز أمر ضروري حتى لا يُغرر بالأمة ولا تنقاد لمن لا يستحق. على أننا نؤكد أن الحوزات العلمية وهي حصون آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) ستبقى بعون الله تعالى تحت نظر مولانا صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فيحميها بقدسيته من الاستغلال والاختراق والتشويه، وهو القائل (صلوات الله عليه): (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).
وإن كان للمؤمنين من دور في هذا الصدد فإنه يكمن بتمسكهم أكثر وأكثر بالمراجع والعلماء الأعلام الذين تثق بصلاحهم الأمة فتسلمهم أمر قيادتها لأنهم القادة بنص الشارع المقدس، ولا ينبغي أن تتزعزع هذه العقيدة في نفوسنا حيث إن تكثيف إرتباطنا بالعلماء الأجلاء سيساعد كثيراً على تنقية الصفوف ممن ينتحل هذه الشخصية المقدسة ويوظفها لخدمة مصالحه وطموحاته. فالمصلحيون أولئك لا يمثلون بأي حال من الأحوال هذا الدين العظيم وهذه المدرسة الإمامية النورانية.