أبو هريرة يفتعل تصادماً بين الكتاب والسنة
تكرر في القرآن الكريم أن خلق السماوات والأرض وما بينهما كان في ستة أيام، قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...) [لأعراف: 54] ، وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...) [يونس: 3]، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...) [هود: 7]، وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...) [الفرقان: 59] ، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) [السجدة: 4] ... إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أكدت على هذه الحقيقة.
ويفترض أن السنة الشريفة مكملة لنورانية القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى: (...وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44]؛ ولذا يستحيل أن يحصل تعارض بين الكتاب والسنة.
ولكننا نقرأ حديثاً عن أبي هريرة يدل على خلاف ذلك.. وإليك الرواية بنصها:
في
1- صحيح مسلم 8 / 127، بيروت - دار الفكر:
(حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل). انتهى بنصه من صحيح مسلم.
إذن أبو هريرة يزعم أن النبي قال له إن عملية الخلق استغرقت سبعة أيام، ابتداء من يوم السبت وانتهاء بآخر ساعة من يوم الجمعة.
وهذه الرواية لم يتفرد بها مسلم في صحيحة، بل رواها العديد من علماء أهل السنة، نذكر منهم:
2 – الحافظ ابن خزيمة في صحيحه 3 : 117، ط المكتب الإسلامي.
3 – الحافظ ابن حبان في صحيحه 14 : 30، ط مؤسسة الرسالة.
4 – الحافظ النسائي في السنن الكبرى 6 : 293 ، ط دار الكتب العلمية.
5 – الحافظ أبو يعلى في مسنده 10 : 513 ، ط دار المأمون للتراث.
6 – الحافظ الطبراني في المعجم الأوسط 3 : 303 ، ط دار الحرمين.
كلمات علماء أهل السنة:
والآن لنذكر بعض كلمات علماء أهل السنة الذين امتلكوا الشجاعة وصرحوا بأن رواية أبي هريرة هذه لا يمكن التصديق بها لأنها معارضة للقرآن الكريم:
1 – قال ابن تيمية في دقائق التفسير 2 : 57 مؤسسة علوم القرآن:
(صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها، مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة؛ فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار) .
2 - قال ابن كثير في تفسيره 2 : 230 دار المعرفة - بيروت:
(فيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم) انتهى.
وقال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية 1 : 18 دار إحياء التراث العربي:
(في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأرض خُلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين من دخان) انتهى.
3 – قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني 8 : 133 :
(لا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة) .
4 – قال الحافظ الغماري في كتاب فتح الملك العلي، ص72 المطبعة الإسلامية - الأزهر:
(حكموا بوضعه لمخالفته نص القرآن في أن الخلق كان في ستة أيام لا في سبعة، ولإجماع أهل الأخبار على أن السبت لم يخلق فيه شيء) انتهى.
5 – قال الباحث الإسلامي المصري محمود أبو رية في كتابه شيخ المضيرة، ص23:
(صرح فيه أبو هريرة بأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وآله ويده في يده! ثم تبين للعلماء أنه قد تلقاه عن كعب الأحبار اليهودي. وهذا الحديث مخالف لنص القرآن الكريم) انتهى.
وقال في المصدر نفسه ص295 :
(وبذلك يكون أبو هريرة قد خالف القرآن وكذب على الرسول صلوات الله عليه. ومن العجيب أنك ترى هذا (الصحابي الجليل راوية الإسلام) قد صرح بسماع هذا الحديث من النبي! بل بالغ فقال: إن النبي قد أخذ بيده وهو يحدثه به!! وإذا كان مثل هذا الحديث الذي صرح (بسماعه) من النبي صلى الله عليه وآله قد ثبت أنه قد كذب فيه، وأنه تلقاه عن أكبر أحبار اليهود في زمنه كما قضى بذلك كبار رجال الجرح والتعديل، فترى ماذا يكون الأمر في الأحاديث التي تلقاها عنعنة من غير النبي صلى الله عليه وآله وهي تعد بالألوف) .
6 – قال السيد حسن السقاف في مُقدمته على كتاب دفع شبه التشبيه لابن الجوزي، ص50:
(ففي هذا الحديث إثبات أن الله خلق السماوات والأرض في سبعة أيام، وهذا مخالف للقرآن وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، قال الله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الأعراف : 53 . انتهى.
تعليقات الباحث حول ما تم استعراضه أعلاه:
1 – ما هو الدليل الذي يثبت أن هناك خطأ من الرواة، أي أن الصحيح أن الرواية عن أبي هريرة عن كعب، وليست عن النبي كما هي رواية صحيح مسلم ثاني أصح كتابين بعد القرآن الكريم عند أهل السنة؟
2 – ما تقدّم ذكره يشكك في مصداقية أبي هريرة، ويجعلنا نعيد النظر في مئات الأحاديث التي أسندها إلى النبي صلى الله عليه وآله؛ إذ لعلها مختلقة أو مستوردة من الثقافة اليهودية.
3 – ما تقدم ذكره يدل بوضوح أن الثقافة اليهودية (الإسرائيليات) تسربت إلى ما يسميه أهل السنة بالأحاديث الصحيحة؛ لأن كعب الأحبار قادم من الحضارة اليهودية. وبناء عليه: يصح لنا التشكيك في مصداقية الروايات السنية الصحيحة فضلاً عن الضعيفة في تعبيرها عن نورانية السنة النبوية الشريفة.
4 – ما ذكر في هذا الموضوع يدل بوضوح على أن اعتماد السند كمعيار وحيد، هو منهج مبتور ناقص لا بد من تجنبه، بل الصحيح أن تتم دراسة المتن على ضوء المتون الإسلامية التي لا خلاف فيها بين المسلمين، وأولها: القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
5 – بمتابعة هذا الحديث الإسرائيلي في مصادر أهل السنة نستطيع بسهولة العثور على العديد من علماء أهل السنة الذين قالوا بصحة هذا الحديث، فلم ينتبهوا إلى معارضته للقرآن الكريم. وهذا يدل على أن البناء العقدي عند العديد من علماء أهل السنة عُرضة للباطل بسبب غفلتهم عن حقائق القرآن الكريم.
6 – الحق أن جميع الناس غير معصومين، فيمكنهم أن ينخدعوا بالإسرائيليات الدخيلة، ويتصوروها أحاديث صحيحة؛ ولذا فإن المخرج الوحيد من هذه الورطة هو أن يكون الراعي للإسلام أناس لا يغفلون عن حقائق القرآن ولو لحظة، إضافة إلى استيعابهم للحقائق القرآنية النيرة.. وبعبارة أخرى: لا بد من أن يجعل الله في عباده أناساً لهم إحاطة كاملة بالقرآن الكريم، يعصمهم من السهو والغفلة.. وهو قول الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...) [فاطر: 32] ، وقوله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...) [العنكبوت: 49] ، وقوله تعالى: (...وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ...) [آل عمران: 7] . وهم الذين قال النبي صلى الله عليه وآله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي) ، والذين قال النبي عنهم: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة) . فلولا أنهم أحاطوا بعلم القرآن ولم يغفلوا عنه لحظة، لما كان ثمة وجه لجعل سنتهم واجبة الاتباع كما أن سنة النبي كذلك. ومن هنا نفهم ما هو السر في الأمر بالتمسك بهم مع القرآن، وجعل ذلك ضمان الهداية والنجاة من الضلالة، كما ورد في حديث الثقلين الذي أحد ألفاظه: (قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا: كتابَ الله، سَبَبُهُ بيده، وسَبَبُهُ بأيديكم، وأهلَ بيتي) .
ملاحظات لمن أراد التوسع:
1 – لقد ذكر الحافظ الغماري في كتابه (فتح الملك العلي) العديد من الشواهد على وجود أحاديث واضحة البطلان بالرغم من إصرارهم على تصحيحها سنداً.
2 – لقد قام الباحث المصري محمود أبو رية بذكر شواهد أخرى ترتبط بهذا الموضوع، وذلك في كتابيه: شيخ المضيرة، وأضواء على السنة المحمدية.
3 – توسع السيد شرف الدين – من علماء شيعة أهل البيت عليهم السلام - في كتابه (أبو هريرة) في نقد شخصية أبي هريرة وضرب أمثلة عديدة لرواياته التي تمثل شواهد طاعنة في صدقيته.
كتبه الأخ الفاضل: صوت الإستقامة.