نظرة الشيخ الخاصة :
أسلفنا ان نظرة الشيخ بشان الغناء تختلف حكمية وموضوعية ، فيرى ان الغناء بعنوانه الذاتي لا حرمة فيه ما لم يتصادق مع احد العناوين المحرمة من مثل اللهو والباطل أما موضوعيا فيرى عدم انفكاكه عن احدهما خارجا، وهو تصادق اتفاقي دائمي في نظره ، أما لو فرض الانفكاك فلا حرمة ذاتا هذه نظرته الخاصة بشان الغناء في كلا جانبي الحكم والموضوع واليك التفصيل :
أما نظرته بشان حكم الغناء ، المستفاد من نصوص الباب ، فهي الحرمة ، لكن لا على اطلاقه ، بل إذا كان لهوا وباطلا ولغوا فلا حرمة لعنوانه الذاتي ، إنما الحرمة لتلكم العناوين الطارئة ، الموجبة لانقسام الغناء الى لهوي وغير لهوي ، ليختص التحريم باللهوي دون غيره فلا حرمة له باطلاقه .
الأمر الذي يدل على ان الغناء ـ وهي كيفية صوتية يمكن تحققه خارجا على نحوين ، لهوي وغير لهوي واللهوي أما باعتبار نفس الكيفية الخاصة ، كما إذا كان من الحان أهل الفسوق والكبائر ، وأما باعتبار اشتماله على الأباطيل أو سائر الملابسات الملهية المضلة .
أما إذا لم يكن بنفسه لهويا ولا مشتملا على لهو باطل ، فلا دليل على حرمته ، وهو باق على أصل الجواز لعدم طرؤ موجب التحريم .
قال : ( وبالجملة فكل صوت يعد في نفسه ، مع قطع النظر عن الكلام المتصوت به ، لهوا وباطلا ، فهو حرام ) .
قال : ( ومما يدل على حرمة الغناء من حيث كونه لهوا وباطلا ولغوا ، رواية عبد الأعلى ـ فيما نسب الى الرسول ( صلى الله عليه واله ) انه رخص في ان يقال : جئناكم جئناكم الخ فقال الصادق ( عليه السلام ) : كذبوا ، ان الله تعالى يقول : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) ثم قال : ويل لفلان مما يصف الخ .
قال : ( فان الكلام المذكور ، المرخص فيه بزعمهم ليس بالباطل واللهو ، الذي يكذب الإمام ( عليه السلام ) رخصة النبي ( صلى الله عليه واله ) فيه ، فليس الإنكار الشديد المذكور ، وجعل ما زعموا الرخصة فيه من اللهو والباطل ، الا من جهة التغني به .
يعني : ان المستفاد من هذه الرواية ، ان الغناء، بنفسه ، قد يكون لهويا وباطلا ولغو أوان لم يكن مشتملا على الأباطيل .
وسند هذه الاستفادة ، ان الإمام ( عليه السلام ) استشهد بالآية ، وليس فيها سوى عنوان اللعب واللهو والباطل فالغناء إذا كان من هذا النمط ، فهو حرام ، وليس لذات عنوانه الخاص .
ثم أضاف رواية يونس ، وفيها قول ابي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : ( إذا ميز الله بين الحق والباطل ، فأين يكون الغناء ؟ فقال الراوي : ( مع الباطل ) قال الإمام : ( قد حكمت ) .
ورواية ابن ابي عباد، وفيها: ( وهو ـ أي الغناء في حيز الباطل واللهو، اما سمعت الله عزوجل يقول : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) .
ورواية الأعمش الواردة في تعداد الكبائر، وفيها قوله : ( والملاهي التي تصد عن ذكر الله ، كالغناء وضرب الأوتار ) .
وقوله ( عليه السلام ) وقد سئل عن الجارية المغنية ، قد تكون للرجل الجارية تلهيه : ( وما ثمنها الا كثمن الكلب ) .
ففي جميع هذه الروايات ، كان العنوان المترتب عليه التحريم والاستنكار ، هو عنوان اللهو والباطل ، الصادق على الغناء ، صدقا خارجيا لا مفهوميا ، فلا بد ان يكون مفهومه أوسع صدقا واعم من وجه من هذه العناوين الطارئة فلا تدل على حرمة الغناء بعنوانه الخاص وفي مفهومه الخاص .
ومن ثم قال الشيخ ـ معقبا على هذه الروايات :
وظاهر هذه الأخبار بأسرها ، حرمة الغناء من حيث اللهو والباطل .
قال : ( فالغناء ـ وهي من مقولة الكيفية للأصوات ان كان مساويا للصوت اللهوي والباطل ـ كما هو الأقوى ( 19 ) فهو ، وان كان اعم وجب تقييده بما كان من هذا العنوان كما انه لو كان اخص وجب التعدي عنه الى مطلق الصوت الخارج على وجه اللهو وبالجملة ، فالمحرم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي التي ورد النهي عن قراءة القران بها ، سواء أكان مساويا للغناء أو اعم أو اخص ) ( 20 ) .
فملاك الحرمة ـ عند الشيخ هو صدق عنوان اللهو المضل ، فان كان مساويا مع الغناء ـ فرضا فهو أي يكون الغناء حينذاك محرما في جميع مصاديقه إذ لا يخرج فرد منه عن صدق عنوان اللهو فرضا .
وان كان اعم منه ، وجب تقييد المحرم منه بما كان من هذا العنوان الطاري .
وان كان اخص منه ، وجب التعدي من الصوت الغنائي الى كل صوت لهوي وان لم يكن غنا لان المناط هو صدق عنوان اللهو لا الغناء لمجرده .
تلك كانت نظرة الشيخ بالنسبة الى حكم الغناء ، وان لا حرمة ذاتا ما لم يرد منه عنوان محرم .
اما نظرته بالنسبة الى موضوع الغناء ، فانه ( قده ) يرى عدم انفكاك الغناء عن عنوان اللهو والباطل ، وقد أبدى بنظرته هذه في ثنايا الكلام عن حكم الغناء الذاتي .
قال : ( فالغناء ـ وهي من مقولة الكيفية للأصوات ان كان مساويا للصوت اللهوي والباطل ، كما هو الأقوى فهو ( 21 ) أي الأرجح في نظره ان الغناء متساو مع الصوت اللهوي ، فكلما صدق الغناء خارجا صدق معه الصوت اللهوي لا محالة من غير انفكاك .
ثم قال : ( وبالجملة فالمحرم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي التي ورد النهي عن قراءة القران بها ، سوا أكان مساويا للغناء أو اعم أو اخص ، مع ان الظاهر ان ليس الغناء الا هو ( 22 ) .
وقال بعد ذلك : ( فكل صوت يعد لهوا بكيفيته ومعدودا من الحان أهل الفسوق والمعاصي فهو حرام ، وان فرض انه ليس بغناء ، وكل ما لا يعد لهوا فليس بحرام ، وان فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقق ( 23 ) .
فقد أحال فرض صدق الغناء خارجا مع عدم صدق اللهو هناك يعني ان هذين العنوانين ( الغناء واللهو ) مثلا زمان صدقا وان اختلفا مفهوما .
قلت : هذا حدس حدسه هذا الفقيه البارع في فقاهته في جانب استنباطاته الفقهية من نصوص الكتاب والسنة ، لكن في إطار الأحكام التكليفية والوضعية ، حيث دقة النظر وقوة الاستنباط .
لكن هذه البراعة هل رافقته في فهم القضايا العرفية ، البعيدة عن أجواء كانت تحيط بمثله من شيخ عظيم في وسط عظماء من أصحابه وتلامذته الجم الغفير ؟ وقد قيل قديما : ( الفقيه متهم في حدسه ) ولا سيما في مثل القضايا العرفية الهابطة المبتذلة في عرف ذلك الحين ، وكان يتحاشاها وجوه الأمة في بلاد المؤمنين مثل دزفول وكاشان والنجف الاشرف .
وكيف كان فالذي يهدم أساس هذا الحدس أمور :
أولا : لا سند له ولا شاهد يشهد له من دور الاختصاص بهذا الفن ، بل الشهادة بالعكس وافرة نوهنا عن بعضها وستأتي أيضا .
وثانيا : شهادة النصوص بالفارق بين الغناء اللهوي وغيره ، فيحرم إذا كان لهويا مضلا عن سبيل الله ، ويجوز إذا لم يكن كذلك .
ففي صحيح علي بن جعفر عن أخيه ، قال : سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا باس به ما لم يعص به ( 24 ) .
فقد صح جواز الغناء في هذه المراسم والمواسم إذا لم يكن من النمط الذي تكون فيه معصية لله عز وجل ففي هذا التفصيل دليل على تنويع الغناء باعتبار مرافقاته الى محرم ومحلل ، والتفصيل قاطع للشركة .
لعلك تقول : هذا من موارد الاستثناء ، فلا دليل على العموم .
قلت : لو صح ان الغناء مساوق مع اللهو والباطل المضل ، كانت قضية تحريمه من القضايا الابية عن التخصيص ، لان الاستثناء حافظ للموضوع مع رفع الحكم فقط ، ويستحيل ان يرخص في باطل مع الحفاظ على عنوانه ، اللهم الا ان يتبدل الموضوع ، فحينذاك كان تخصصا لا تخصيصا، الأمر الذي نقول به وسيأتي توضيح أكثر.
وفي موثقة ابي بصير عن الإمام ابي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به باس ، وليست بالتي يدخل عليها الرجال ( 25 ) .
فالأجر على الغناء إنما يحل إذا كان العمل المأخوذ عليه الأجر محللا ، نعم اشترط الإمام ( عليه السلام ) ان لا يكون مما يرافقه حرام ، فلا يكون مجلس يختلط فيه الرجال والنساء الأجانب ، كالتي كانت معهودة لدى الأمراء والحكام آنذاك .
وأيضا في موثقته الأخرى قال : ( سالت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن كسب المغنيات ؟ فقال : ( التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى الأعراس ليس به باس وهو قول الله عزوجل : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) ( 26 ) ، ( 27 ) .
فاستشهاده ( عليه السلام ) بالآية الكريمة ، إشارة الى ان المحرم من الغناء ما كان يبعث على الضلال ، فالمغنية التي تغني في العرائس التي لا يدخل فيها الرجال الأجانب ، لابأس باخذها الأجر على غنائها ، لان ذلك بمجرده لا يبعث على ضلال .
وروى الصدوق ، قال : سال رجل علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة .
وأضاف الصدوق : يعني بقراءة القران والزهد والفضائل ( 28 ) .
ولكلام الصدوق هنا ذيل سوف نتعرض له .
هذا الحديث مما يعتمد عليه ، لان مثل الصدوق أرسله إرسال المسلمات وان كان فسره بما يوافق مذهبه في التحريم حسب المشهور .
وعلى أي تقدير فالحديث صريح في ان الغناء بذاته ليس بمحرم ، ولا سيما إذا كانت المواد التي تتغنى بها الجارية قرانا أو حكمة أو عظة وأمثال ذلك مما يبعث على الهداية والاستقامة في السلوك ، لان الحكمة إذا صيغت في قالب شعر موزون ، وأفرغت في الحان ونغمات مطبوعة ، كان لها تأثيرها الأوفى في النفوس ولذلك جاء الترغيب في قراءة القران بالصوت الحسن ، والترنم به في الحان متزنة مؤثرة في القلوب وهذا هو معنى التغني بالقران ، حسبما يأتي .
وفي حديث عبد الله بن الحسن الدينوري قال : قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : ( فاشتري المغنية أو الجارية تحسن ان تغني ، أريد بها الرزق لا سوى ذلك ؟ قال ( عليه السلام ) : اشتر وبع ( 29 ) .
فجواز شراء الجارية المغنية وبيعها مع العلم ان القسط الأوفر من الثمن إنما هو لجهة إجادتها في الغناء إنما يدل على حلية الغناء في ذات نفسه ، ما لم يكن القصد الى جهة محرمة .
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي بعد نقل هذه الاحايث :
( فالوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا تتكلم بالأباطيل ، ولا تلعب بالملاهي من العيدان والقصب بل تكون ممن تزف العروس وتتكلم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد عن الفحش والأباطيل فأما من عدا هؤلاء ممن يتغنين بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال ، سواء أكان في العرائس أو في غيرها ( 30 ) .
هذه الأحاديث وما شابهها ناصة على تنويع الغناء الى محلل ومحرم ، تنويعا باعتبار مرادفاته ، لا لشي في ذات نفسه .
والشيخ أبو جعفر الطوسي وهو شيخ الطائفة وزعيمها معترف بذلك ، غير ان الذي جعله من المحرم ليس على كليته ، لان المواد إذا كانت من الفحشاء والأباطيل أو كانت الجلسات مما تعد للمعاصي كاختلاط الأجانب من الرجال والنساء يرافقها غناء وتصفيق ورقص وتزمير ونحو ذلك ، فهذا لا شك في حرمته .
أما مجرد ضربها بالدف أو المزمار واستعمال سائر الات الموسيقى ، فلا دليل على حرمته لمجرد ذلك حسبما نذكر .
وثالثا دلالة الاستثناء على تنويع الغناء الى باطل وغير باطل ، إذ لا معنى للاستثناء في باطل شامل .
توضيحه : ان المشهور بين الفقهاء جواز الغناء في الأعراس وكذا التغني بمثل الحداء وأضاف بعضهم في مثل قراءة القران والمراثي والمدائح مثلا .
وقد وافق الشيخ ( المحقق الأنصاري ) استثناء الغناء في الأعراس إذا لم يكتنف به محرم اخر، استنادا الى موثقتي ابي بصير ( وقد تقدمتا ) قال : ان سند الروايات ( لأنه أردفهما بثالثة ) وان انتهت الى ابي بصير ، الا انه لا يخلو من وثوق ، والعمل بها تبعا للأكثر غير بعيد ، وان كان الاحوط كما في الدروس الترك ( 31 ) .
قلت : استثناء فرد أو أفراد من أنواع الغناء ، يدل على ان الغناء بذاته ليس من الباطل ، إذ لا معنى لاستثناء باطل وجوازه من بين أباطيل فلو كان الغناء ذاتا من الباطل ، لكانت قضية حرمة الغناء من القضايا الابية للتخصيص ، إذ لا باطل جائزا في شريعة الإسلام ، كما لا ظلم جائزا في الدين .
فالاستثناء في الحقيقة يدل على ان البطلان ( المتلازم مع الحرمة ) إنما هو في بعض أنواع المستثنى منه دون هذا النوع المستثنى .
هذا ما تقتضيه دلالة الاقتضاء ، وهو صون كلام الحكيم عن التهافت الفاضح .
ورابعا صراحة المستفيض من أحاديث صادرة عن أهل بيت العصمة ( عليه السلام ) بجواز التغني في قراءة القران ، تارة بلفظ ( تحسين الصوت ) وأخرى ( بالترجيع فيه ) وثالثة ( بالتغني به ) وأمثال ذلك ونحن نورد نماذج منها على الترتيب :
أ ـ ما ورد بلفظ تحسين الصوت :
وقد عرفت من كلام السيد ماجد البحراني الخبير بمصطلح الفن ، ان تحسين الصوت لا يكون الا بالترجيع فيه ترجيعا يوجب لذة في سماعه ووجدا وشوقا الى الاستماع له المعبر عنه في مصطلح أهل اللغة بالإطراب لأنه خفة تعتري النفس من شدة الوجد فرحا أو هما .
قال رسول الله ( صلى الله عليه واله ) : ( لكل شي حلية وحلية القران الصوت الحسن ) .
وقال : ( ان من أجمل الجمال الشعر الحسن ونغمة الصوت الحسن ) ( 32 ) .
وقال : ( ان حسن الصوت زينة للقران ) ( 33 ) .
والمراد تمجيد حسن الصوت ، ليس الحسن الطبيعي الخاص بعديد من الناس ، بل المراد هو تحسين الصوت بالإجادة فيه وأدائه على أوتار نغمية توجب حسن الصوت في كيفية أدائه ، الموجب لحسن الاستماع إليه والرغبة فيه .
ومن ثم جاء التصريح بذلك في روايات اخر : قال ( صلى الله عليه واله ) : ( حسنوا القران بأصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القران حسنا ثم قراء : ( يزيد في الخلق ما يشاء ) ( فاطر 3 / 1 ) .
وقال : ( زينوا القران بأصواتكم ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ـ في تفسير قوله تعالى : ( ورتل القران ترتيلا ) ( المزمل 73 /4 ) .
( هو ان تتمكث فيه وتحسن به صوتك ) ( 34 ) .
ب ـ ما ورد بلفظ الترجيع صريحاً :
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( ورجع بالقران صوتك فان الله عزوجل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا ) ( 35 ) .
والترجيع : إدارة الصوت في الحلق بحيث يوجب قلقلة لطيفة في الصوت توجب حسن أدائه وحسن الاستماع إليه .
قال ابن الأثير : الترجيع ، تقارب ضروب الحركات في الصوت قال : وفي صفة قراءته ( صلى الله عليه واله ) يوم الفتح : ( انه كان يرجع ) وهو ترديد في القراءة ، ومنه ترجيع الأذان .
وقد أسلفنا كلام السيد ماجد في وصف الموسيقى : انه الصوت المعروض للمناسبات العددية في كيفية الوفاق والاختلاف في مناسبات اللحون قال : ان تحقق هذه المناسبات إنما يمكن بالتراجيع ، فان كان الصوت على استقامة من غير ترجيع يكون واحدا، فإذا رجع فيه يصير متعددا وبذلك تحصل النغمات الصوتية ، فإذا كانت متناسبة تكون حسنة ، وان كانت متنافرة كانت قبيحة ، وأما إذا لم تكن مشتملة على المناسبات أو المنافرات لم يتصف الصوت لا بالحسن ولا بالقبح قال : والمقصود التنبيه على ان حسن الصوت إنما يتحقق بمناسبات عددية فيه وهي موقوفة على تحقق التراجيع فان الصوت المستقيم من غير ترجيع لا يتصف بشي من الحسن والقبح ، لان مدارهما على المناسبة والمنافرة العدديتين ( 36 ) .
إذن فحسن الصوت المندوب إليه قراءة القران موقوف على ترجيع الصوت على المعنى المصطلح لدى أرباب الفن فتنبه .
ج ـ ما ورد بلفظ التغني بالقرآن :
قال رسول الله ( صلى الله عليه واله ) : ( ان القران نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا ، فان لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به ، فمن لم يتغن بالقران فليس منا ) .
وفي حديث اخر : ( ليس منا من لم يتغن بالقران ) .
لكن فسره الصدوق ـ وتبعه جماعة بالاستغناء وهذا المعنى أخذه عن بعض السلف ،هو سفيان بن عيينة ـ كما قال الأزهري قال : معناه : ( من لم يستغن ولم يذهب به الى معنى الصوت ( 37 ) .
لكنهم لم يستشهدوا لذلك من كلام العرب سوى قول الأعشى :
وكنت أمر زمنا بالعراق ـــــ عفيف المناخ طويل التغن .
غـير ان التغني في البيت جاء بمعنى الإقامة بالمكان ، كما استشهد به السيد المرتضى علم الهدى في الامالي ، استشهد بهذا البيت لمعنى الإقامة بالمكان ، قال :المعنى ، بطول المقام أشبه منه بالاستغناء ، لان المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك ، فكان الأعشى أراد : أنني كنت ملازما لوطني ، مقيما بين أهلي ، لا أسافر للانتجاع والطلب ، ويجري قوله مجرى قول حسان ابن ثابت الأنصاري :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ـــــ قبر ابن مارية الكريم المفضل .
أراد : إنهم ملوك لا ينتجعون ولا يفارقون محالهم وأوطانهم ( 38 ) .
قلت : الاعتبار في تفسير العبائر هو الظهور المتعارف ، اما الحمل على المعاني الغريبة فهو بحاجة الى قرائن واضحة وإلاّ كان تأويلا غير مستند .
وهذه العبارة ـ الصادرة عن مهبط الوحي مسبوقة بدلائل تؤيد الحمل على المعنى المتعارف لان قوله : ( ان القران نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا ) يدلنا على ان معنى التغني قراءته على الألحان المشجية .
ذكر السيد المرتضى عن بعضهم احتجاجا يؤيد ذلك قال : أراد : من لم يحسن صوته بالقران ولم يرجع فيه واحتج بحديث عبد الرحمن بن السائب ، قال : أتيت سعدا وقد كف بصره فسلمت عليه فقال : من أنت ؟ فأخبرته فقال : مرحبا يا ابن أخي ، بلغني انك حسن الصوت بالقران ، وقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه واله ) يقول : ( ان هذا القران نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فان لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغن بالقران فليس منا ) .
فقوله : ( فابكوا وتباكوا ) دليل على ان التغني هنا التحنين والترجيع ( 39 ) .
قال محمد بن ادريس الشافعي : معنى الحديث تحسين القراءة وترقيقها ، ويشهد له الحديث الاخر : ( زينوا القران بأصواتكم )وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء ( 40 ) .
قلت : ويتأيد ذلك بملاحظة السبب الموجب لصدور مثل هذا الدستور من النبي الأكرم ( صلى الله عليه واله ) .
قال ابن الإعرابي ( 41 ) : كانت العرب تتغنى بالركباني ( 42 ) إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القران أحب النبي ( صلى الله عليه واله ) ان تكون هجيراهم ( 43) بالقران مكان التغني بالركباني ( 44 ) .
وقال الزمخشري : كانت هجيرى العرب التغني بالركباني ـ وهو نشيد بالمد والتمطيط إذا ركبوا الإبل ، وإذا تبطحوا على الأرض ، وإذا قعدوا في أفنيتهم ، وفي عامة أحوالهم فأحب الرسول ( صلى الله عليه واله ) ان تكون قراءة القران هجيراهم فقال ذلك يعني : ليس منا من لم يضع القران موضع الركباني في اللهج به والطرب عليه ( 45 ) .
قال الفيروز ابادي ـ في القاموس : غناه الشعر وتغنى به تغنية : تغنى به .
قال الشاعر :
تغن بالشعر اما كنت قائله ـــــ ان الغناء بهذا الشعر مضمار ( 46 ) .
قال الزبيدي ـ شارح القاموس : وعليه حمل قوله ( صلى الله عليه واله ) : ( ما أذن الله لشي كإذنه لنبي يتغنى بالقران يجهر به ) .
قال ابن الأثير : في هذا الحديث جاء تفسير التغني بالجهر به ( 47 ) والجهر هنا يراد به رفع الصوت ومده ، حسبما يأتي انه المراد بتحسين الصوت وترقيقه .
وهكذا دأب الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) على ترتيل القران ورفع الصوت به وتجويده حيث أحسن الأصوات :
فقد روى محمد بن علي بن محبوب الأشعري في كتابه بالإسناد الى معاوية ابن عمار، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : الرجل لا يرى انه صنع شيئا في الدعاء وفي القران حتى يرفع صوته ؟
فقال : لا باس به ان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) كان أحسن الناس صوتا بالقران ، فكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار وان أبا جعفر ( عليه السلام ) كان أحسن الناس صوتا بالقران ، وكان إذا قام من الليل وقراء ، رفع به صوته ، فيمر به مار الطريق من السقائين وغيرهم ، فيقومون ( 48 ) فيستمعون الى قراءته ( 49 ) .
وهكذا روي بشان سائر الأئمة ( عليه السلام ) ( 50 ) .
اذن فرفع الصوت ومده وتحسينه والترجيع فيه ـ كما وردت هذه العناوين في الأحاديث ليس سوى التغني بقراءة القران .
بقي هنا اعتراض أورده أبو عبيد ( 51 ) قال : ولو كان معنى الحديث الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك ، إذ كان من لم يرجع بالقران فليس منه ( صلى الله عليه واله ) ( 52 ) لكن هذا الاعتراض غير وارد بعد البيان الذي بينه ابن الإعرابي ـ وهو من مشايخ ابي عبيد بشان صدور هذا الحديث .
على ان المراد بالتغني بالقران ، هو مد الصوت وتحسينه وربما الترجيع في مداته ليحصل نوع تزيين في الصوت .
لان لقراءة القران طورا غير قراءة سائر الكلام ، وقد اعتاده المسلمون من أول يومهم الى يومنا هذا ، يقرأون القران بأصوات رفيعة متزنة ومع المد والترقيق ونحو ذلك الأمر الذي يستطيعه كل إنسان الم بالقران وبقراته الخاصة .
ومن ثم ورد : اقرءوا القران بالحان العرب وأصواتها ، ولا تقرءوه بالحان أهل الفسوق والكبائر فالطور ـ وهو اللحن في القراءة مرغوب في قراءة القرآن وممكن لكل احد يريده .
هل للمادة مدخل في تحقق الغناء ؟
شي ابداه الصدوق عليه الرحمة فقد فرض مدخلية المواد التي يتغنى بها في مفهوم الغناء وتحققه قال : ( وسال رجل علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة ) .
قال الصدوق : يعني بقراءة القران والزهد والفضائل التي ليست بغناء ، فأما الغناء فمحظور ( 53 ) .
قال المولى محمد تقي المجلسي ـ في الشرح : ويظهر من المصنف ان أمثال هذه لا تسمى غناء وإنما الغناء ما كان في باطل .
قال : ويؤيده العرف ثم أورد روايات الأمر بالترجيع في قراءة القران وتحسين الصوت بها ـ على ما أسلفنا وزعم ان الجواز في ذلك إنما هو لكون المادة غير باطلة ، فلم يكن غنا ( 54 ) .
لكن ماذا يقول هؤلاء في روايات الأمر بالتغني بالقران على ما سلف بيانه ؟
وقد مال الى ذلك سيدنا الأستاذ الخوئي ( قده ) قال : يعتبر في الغناء ( أي في تحققه صدقا ) أمران :
الأول : ان تكون المادة باطلة لهوية .
والثاني : ان تكون الهيأة مشتملة على المد والترجيع قال : وبانتفاء احدهما لا يصدق الغناء فتحسين الصوت في قراءة القران وترقيقه ، وكذا ما تعارف عند أهل الخطابة والوعظ من الإلقاء بنحو يشتمل على الترجيع ، خارج عن الغناء ( أي لا يتحقق الغناء ) وقال ـ بصدد استثناء الغناء في المراثي : انه بالتخصص لا بالتخصيص ، لعدم كون المادة لهوية ( 55 ) .
لكنه خلاف ما توافقت عليه أراء الفقهاء واللغويين جميعا ، على ان الغناء كيفية صوتية قائمة بذاتها اما مجردة أو بالعزف على الات الموسيقى المعهودة ولم يعهد اعتبار المادة في صدق هذا المفهوم .
قال سيدنا الأستاذ الإمام الخميني ( قده ) : ( وليست مادة الكلام دخيلة في صدق الغناء ، ولا فرق في حصوله بين ان يكون الكلام باطلا أو حقا أو قرانا أو رثا لمظلوم ، ولا اصطلاحا خاصا بالشرع كي تفرض دخالة المادة في مفهومه قال : ولذلك فمن العجيب ما قيل من دخول الغناء تعبدا في قول الزور وان خالفه مفهوما ( 56 ) .
قلت : هذا هو فصل الخطاب والحمد للّه أولا وأخرا ونسأله التوفيق المتواصل في خدمة الشرع الحنيف انه ولي التوفيق وهو خير مستعان .
وصلى الله على محمد واله الطاهرين