الامام الحسن (عليه السلام) مثل سائر المعصومين (عليهم السلام) توفر على النتاج الفني فيما أثر عنه (عليه السلام) من الخطب والرسائل والاحاديث... الخ، بحسب ما يتطلبه الموقف من صياغة خاصة لهذا النمط من النصوص أو ذاك. انه وسائر المعصومين (عليهم السلام) امتداد لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله) من حيث كونه قد خلفهم عترة أوصل اليهم ميراث العلم والأدب، كل ما في الأمر أن كل واحد منهم (عليهم السلام) أتيحت له ظروف خاصة في نشر الفكر الاسلامي (ومنه: اللغة الفنية لهذا الفكر) من حيث نسبة النتاج الصادر عنهم (عليهم السلام).
وقد خبر رجال الثقافة الذين عاصروا الائمة (عليهم السلام) - ومنهم الامام الحسن (عليه السلام)- المستوى المتفرد الذي يطبع شخصية الامام (عليه السلام)، حتى ان (الحسن البصري) وهو احد كبار رجال الفكر الذين عرفوا ببراعتهم في علوم الكلام والأدب وسواهما كتب الى الامام الحسن (عليه السلام) طالباً الافادة منه في بعض المسائل الكلامية:
(أما بعد: فانكم معشر بني هاشم: الفلك الجارية واللجج الغامرة والاعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح (عليه السلام) التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون، كتبت اليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في (القدر) وحيرتنا في الاستطاعة فاخبرنا بالذي عليه رايك ورأي آبائك (عليهم السلام) فان من علم الله علمكم وانتم شهداء على الناس والله لشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض والله سميع). (1)
ان هذه الرسالة تعد وثيقة خطيرة كل الخطورة حيث ان كاتبها يعد في نظر المؤرخين أبرز شخصية عرفتها الفترة التي نؤرخ لها وما بعدها من الفترات، بخاصة في مقدرتها الخطابية وفي تخصصها في علم الكلام الذي بدأت معالمه تأخذ بالاتساع في هذا العصر،.. ولذلك حينما يعبر عن حيرته في (القدر) ويطلب من الامام (عليه السلام) المعونة في ذلك، فهذا يعني أن تفرد الامام (عليه السلام) بالمعرفة أمر لم يخف حتى على الاتجاهات الفكرية التي انفصلت عن خط الامام (عليه السلام)... والأهم من ذلك أن (الحسن البصري) أقر بان علم الامام (عليه السلام) وعلم آبائه هو من فيض الله تعالى (فان من علم الله علمكم... الخ)...
ما يعنينا من هذا أن نشير الى أن ريادته (عليه السلام) علمياً امر قد خبره مجتمعه، كما أن مقدرته البلاغية (وهي جزء من المعرفة) أمر قد خبره مجتمعه أيضاً، حتى أن معاوية ذات يوم حاول مقاطعة احدى خطب الامام (عليه السلام) حتى لا يفتن به الجمهور فنياً...، وأولئك جميعاً يكشف عن التفرد الذي يطبع شخصيته (عليه السلام) على المستويات جميعاً...
المهم، - بعد ذلك- ان نعرض لنماذج من النصوص الفنية المأثورة عنه (عليه السلام) وهي نصوص تتراوح بين الخطب والرسائل والخواطر والأحاديث. ونبدأ ذلك بالحديث عن:
كان الامام الحسن (عليه السلام) قد ساهم في الوقائع التي حدثت في اواخر حياة الامام علي (عليه السلام) كما ان الامام الحسن (عليه السلام) في زمنه الذي شهد صراعات مختلفة مع معاوية ومع مجتمعه، فرض عليه قدراً كبيراً من (الخطب) التي تطلبها الموقف،... وهذا يعني أن الخطب الصادرة عن الامام (عليه السلام) قد اتيح لها ان تتضخم من حيث الحجم تبعاً للظروف المشار اليها...
ويمكننا تقديم بعض النماذج لخطبه (عليه السلام) ومنها: خطبته في الحث على مشاركة الجمهور في حرب الجمل: «الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء وعلى ما أحببنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله امتن علينا بنبوته واختصه برسالته وأرسل عليه وحيه واصطفاه على جميع خلقه وأرسله الى الانس والجن: حين عبدت الأوثان، واطيع الشيطان، وجحد الرحمان».
وبعد أن دعاهم الى الجهاد مع الامام علي (عليه السلام):
«ثم والله ما دعا الى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك الابل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين ثم نكث منهم ناكثون...» الخ. (2)
الملاحظ - فنياً- في هذه الخطبة: استهلالها «بالتحميد»، واقتباسها الآيات الكريمة، وصياغة ذلك وفق لغة محكمة كل الاحكام، مشرقة، مترسلة، مشفوعة ببعض العناصر الايقاعية من نحو (الأوثان، الشيطان، الرحمان...) ثم بعض العناصر (الصورية) التي استدعتها طبيعة الموقف،... وهذا من نحو قوله (عليه السلام):
«ولقد تداك الناس عليه تداك الابل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين».
ان هذا (التشبيه) قد استقاه الامام (عليه السلام) من خلال تجربتين: احداهما من أبيه (عليه السلام) حيث قدم تشبيهاً مماثلاً في احتجاجاته(3)، والاخرى: مستقاة من تجربته الشخصية حيث شاهد بنفسه كيفية تداك الناس على مبايعة أبيه (عليه السلام)، وهو امر أشار الامام علي (عليه السلام) اليه - في احدى خطبه- حينما ألمح بأن الحسن والحسين (عليهما السلام) قد أصابهما الأذى من تدافع المبايعين وزحامهم،...
اذن: هذا (التشبيه) - والامام (عليه السلام) يختلف عن سواه من العاديين بأن يصوغ صوره «التخيلية» من «الواقع» وليس من (الوهم) أو (المبالغة)، كما انه لا يلجأ الى ذلك الا لمتطلبات السياق قد فرضه موقف خاص، وها هو الموقف يتطلب التذكير بمبايعة الناس لأبيه لأن حرب الجمل قادها - من الطرف الآخر- أشخاص على وعي كامل بواقع المبايعة، الا انهم نكثوا ذلك، فاستدعى الموقف التذكير بالمبايعة ومن ثم تقديم (تشبيه) واقعي لبلورة مدى المشروعية التي واكبت قضية البيعة، ومدى المفارقة التي صدر عنها الناكثون...
وفي معركة صفين ساهم (عليه السلام) في صياغة الخطب أيضاً، ومنها قوله (عليه السلام): (لا تخاذلوا، ان الخذلان يقطع نياط القلوب، وان الاقدام على الاسنة نخوة وعصمة، لم يتمنع قوم قط الا رفع الله عنهم العلة، وكفاهم حوائج الذلة...). (4)
في هذا النص نلحظ عنصراً ايقاعياً وصورياً ايضاً: استدعاه الموقف،... فالحث على القتال يتطلب التصعيد العاطفي (الا ان التصعيد العاطفي - في لغة الامام (عليه السلام)- يقترن برصانة تختلف عن التصعيد العاطفي الذي يصدر عنه العاديون من الناس)،... ومن جملة العناصر التي تساهم في التصعيد هو: الايقاع والصورة، فالايقاع من نحو (رفع عنهم العلة، وكفاهم حوائج الذلة)، واما الصورة فقد صاغ منها كلاً من (التمثيل) و(الاستعارة) حيث ان هذين النمطين من الصورة يظلان اشد فاعلية من (التشبيه) الذي يتطلب مقارنة بين شيئين يتناسب فيهما منطق الاحتجاج كما لحظنا في نص أسبق،...اما هنا فان التمثيل والاستعارة (نياط القلوب) (الاقدام: نخوة وعصمة) (حوائج الذلة)... الخ يتناسبان مع لغة الحث على الجهاد، كما هو واضح.
اما خطبه (عليه السلام) في عهده، فقد انصب غالبها على موقفه (عليه السلام) من معاوية حيث تأرجح هذا الموقف بين حماسة الجمهور وتخاذلهم، حتى انعكس ذلك على خطبه (عليه السلام)... وهذا ما نجده في الخطبة الآتية:
«انا والله لا يثنينا عن أهل الشام شك ولاندم، وانما كنا نقاتل اهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم،وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، الا وقد اصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره...» (5).
العنصر (الصوري) في هذه الخطبة: قد اعتمد (الاستعارة) المقرونة بعنصر لفظي هو (التقابل والتضاد والتماثل)، وهذا العنصر (يتجانس فنياً) مع طبيعة الموقف المتأرجح لدى الجمهور،.. لنقرأ (كنتم في مسيركم الى صفين: ودينكم امام دنياكم) (واصبحتم اليوم: ودنياكم امام دينكم).. إن هذا (التقابل) بين ايثار (الدين على الدنيا) و(الدنيا على الدين) في معركتين أو موقفين: انما هو نابع من طبيعة التركيبة النفسية والاجتماعية للجمهور، ولذلك جاء عنصر (التقابل) فارضاً فاعليته الفنية في هذا الميدان.
اذن: لحظنا كيف ان الامام (عليه السلام) قد استخدم في الخطب الثلاث (وكل منها قد فرضه موقف اجتماعي خاص) عناصر صورية ولفظية مثل (التشبيه) في الخطبة الاولى، و(الاستعارة) و(التمثيل) في الخطبة الثانية و(التقابل) في الخطبة الثالثة: فيما يكشف مثل هذا الاستخدام للعناصر الفنية عن تمكن بلاغي لابد أن يتفرد به الامام (عليه السلام) عن سائر الخطباء، حيث لم يستخدم التشبيه أو الاستعارة أو التمثيل أو التقابل والتضاد والتماثل من أجل التزويق الفني بقدر ما استخدمها في سياقات خاصة، بالنحو الذي لحظناه...
*******
(2) جمهرة الخطب: ج 1، ص 293-294. (3) نهج البلاغة: ص 110. (4) جمهرة الخطب: ج 1، ص 235. (5) المجالس السنية: ج 2، ص 271.
المناخ الاجتماعي الذي فرض صياغة (الخطب) لدى الامام (عليه السلام)، فرض أيضاً: صياغة (الرسائل) - السياسية بخاصة- حيث ان (الرسائل) تقترن مع (الخطب) من خلال تحرك كل منهما في سياق خاص،... لقد كانت طبيعة الصراع القائم بين الامام (عليه السلام) (حيث بويع بعد وفاة ابيه (عليه السلام)) وبين سلطان الشام الذي استمر على الاستئثار بالحكم غير المشروع منذ زمن الامام علي (عليه السلام) تفرض (المراسلات) بين الطرفين، وبين أطراف اجتماعية أخرى لها فاعليتها الاجتماعية في تحريك الاحداث والتأثير عليها،... لذلك نجد (فن الرسالة) قد واكب (فن الخطبة) من حيث المساحة التي احتلها هذا الفن لدى الامام (عليه السلام).
ونكتفي بعرض رسالة واحدة بعثها (عليه السلام) الى سلطان الشام، جاء فيها:
«ان علياً (عليه السلام) لما مضى لسبيله -رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم من الله عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً- ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسال الله ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، وانما حملني على الكتاب اليك الاعذار فيما بيني وبين الله عزوجل في أمرك، ولك في ذلك - ان فعلته - الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وأدخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم اني احق بهذا الامر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ومن له قلب منيب...» (6).
الملاحظ في هذه الرسالة (ترسلها) وخلوها من التزويق الخارجي نظراً لكونها في سياق يتطلب توضيح المسؤولية الخلافية... الا ان الامام (عليه السلام) وشحها بعنصر صوري هو (التضمين) خلافاً لما لحظناه في نصوص سابقة وشحت بعناصر التشبيه والاستعارة والتمثيل والتقابل، لمتطلبات فنية أوضحناها...
هنا ايضاً: حينما يتجه (عليه السلام) الى عنصر التضمين، فلأن الموقف الاجتماعي يتطلب عنصراً فنياً خاصاً هو التضمين.. لقد ضمن (عليه السلام) رسالته اكثر من آية كريمة من نحو (ويوم يبعث حياً) ومن نحو (عند كل أواب حفيظ) ومن نحو (ومن له قلب منيب) الخ...
ان الاهمية الفنية لأمثلة هذا «التضمين»ان الرسالة قد ذكرت تولية الامام (عليه السلام) بعد ابيه (عليه السلام) ذاكرة اسلامه ووفاته وانبعاثه، تعبيراً عن مشروعية خلافة أبيه (عليه السلام) ورضا الله تعالى عنه (عليه السلام)، ممهداً بذلك لمشروعية خلافته نفسه (أي الامام الحسن (عليه السلام))، ولذلك أردف التضمين المذكور بقوله: «ولاني المسلمون الأمر بعده»،... ثم انتقل (عليه السلام) الى مطالبة معاوية بالتسليم لهذا الحق وهو عارف به كل المعرفة، لكن بما ان الاقرار بالحق مع معرفة الشخص به يتطلب (تقوى) و(توبة) و(انابة) الى الله تعالى، حينئذ فان (تضمين) هذه السمات من خلال الآيات القرآنية التي لا يتنازع فيها اثنان تظل فارضة مسوغها الفني، من أجل تعميق القناعة بمشروعية ما طرحه الامام (عليه السلام) في هذه الرسالة التي كتبت بلغة مترسلة واضحة بحيث تتناسب مع سمات فنية تتسم بالترسل وبالوضوح ايضاً، وهو ما يتوافق وعنصر (التضمين) المتسم بما هو واضح من الآيات الكريمة.
والحق، أن الوضوح والترسل يقترنان عند الامام بسمة اخرى هي الاقتصاد اللغوي، حيث تظل هذه الطوابع الثلاثة ملحوظة في رسائله من حيث كونها تعنى بابراز المضمونات التي تتطلب عرضاً سريعاً ودقيقاً يتناسب مع طبيعة المناخ الاجتماعي الذي كان يحياه (عليه السلام)...
ويمكننا ملاحظة طابع (الاقتصاد اللغوي) عند الامام (عليه السلام) في رسالته الآتية الى سلطان الشام حينما بعث رجلين يتجسسان لصالحه:
«اما بعد: فانك دسست الي الرجال كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء الله، وبلغني انك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجي...» (7).
فالرسالة لا تتجاوز سطرين أو أكثر كما هو ملاحظ، لكنها تتضمن دلالات عميقة ترتبط بمسائل الخلافة وصراع الرجل حيالها...
ولعل الرسالة الآتية التي بعثها الى زياد بن ابيه تجسد نموذجاً فريداً في (الاقتصاد اللغوي) الذي يشع بدلالات كبيرة، فقد حدث لزياد أن ينكل بأحد المؤمنين، فطالبه الحسن (عليه السلام) بالاقلاع عن ذلك، فرد عليه زياد برسالة جاء فيها: (من زياد بن ابي سفيان الى الحسن بن فاطمة. اما بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وانت طالب حاجة وانا سلطان...) الخ. (8)
واضح، أن لغة هذه الرسالة متورمة تحوم على الذات وتفكر بعقلية (السلطان) كما انها تصدر عن عقلية (عصبية) يخيل اليها أن الى الانتساب الى الأم عار على الشخصية، وحينئذ لم يجبه الامام الا بكلمات مأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله): «من الحسن بن فاطمة الى زياد بن سمية، اما بعد: فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. والسلام»...(9).
واضح، أن هذه الكلمات تختصر كلاماً طويلاً ذا دلالات كبيرة ترتبط بنسب هذا الشخص الذي حاول ان يحط من شخصية الامام (عليه السلام) وحينئذ فان اقتصاده للكلام في اربع عبارات أو اكثر يكشف عن تمكن لغوي وفني وفكري ضخم، له فاعلية اشد من الكلام المفصل الذي يخبره الشخص المرسل اليه.
ومهما يكن، فان الاقتصاد اللغوي يظل سمة ملحوظة في رسائل الامام (عليه السلام) بالنحو الذي اوضحناه.
وهذا الاقتصاد لا يقتصر على رسائله السياسية، بل ينسحب على غالبية رسائله ايضاً ومنها الرسائل العلمية، أو ما يمكن درجه ضمن عنوان:
*******
(6) جمهرة الرسائل: ج 2، ص 9-10. (7) نفس المصدر: ص 3. (8) نفس المصدر: ص 36. (9) نفس المصدر: ص 37.
والمكاتبة هي: كلام علمي يتم من خلال تقديم الاسئلة العلمية والرد عليها،... وهذا من نحو ما ألمحنا اليه في مقدمة حديثنا عن أدب الامام (عليه السلام) حيث لحظنا أن الحسن البصري وجه اليه سوالاً عن (القدر) فأجابه (عليه السلام) (مكاتبة) على ذلك،... والمهم هو: أن جوابه (عليه السلام) قد اتسم بطابع (الاقتصاد اللغوي) الذي لحظنا انسحابه على رسائله المتنوعة... فمع ان قضية فلسفية او كلامية مثل (القدر) تتطلب جواباً مفصلاً، الا انه (عليه السلام) اكتفى من ذلك بالعبارات الآتية:
«اما بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ان الله يعلمه فقد كفر، ومن احال المعاصي على الله فقد فجر، ان الله لم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيرأ، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً، وان انتهوا الى معصية فشاء ان يمن عليهم بان يحول بينهم وبينها: فعل، وان لم يفعل فليس هو الذي حملهم جبراً ولا ألزموها كرهاً، بل من عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم، لا جبراً لهم على ما امرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه «فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين» والسلام على من اتبع الهدى».(10)
صحيح، ان هذه المكاتبة تتضمن شيئاً من التفصيل لقضايا الجبر والاختيار، الا ان هذه القضية الكلامية بصفتها من القضايا التي تتطلب شرحاً واسهابا وتفصيلاً - كما هو ملاحظ لدى المعنيين بالقضايا الكلامية- ... هذه القضية حينما يختصرها الامام (عليه السلام) في سطور محدودة، حينئذ نستكشف مدى حرص الامام (عليه السلام) على الاقتصاد اللغوي بهذا النحو الذي لحظناه.
المهم، أن الاقتصاد اللغوي يظل - في الواقع- مرتبطاً بطبيعة السياق الذي يرد فيه،... واذا كانت (المكاتبة) - وهي تتطلب تفصيلاً علمياً موسعاً- قد اقتصر فيها من حيث الاقتصاد اللغوي على سطور، فان هناك نمطاً اخر قد توفر الامام (عليه السلام) عليه يقتصر فيه على كلمات وليس على سطور، نظراً لمتطلبات السياق،... وهذا ما يدرج ضمن عنوان:
المقابلة هي: توجيه أسئلة خاصة الى الامام (عليه السلام)، فيما يجيب عنها بكلام يلحظ (الاقتصاد اللغوي) فيه بنحو لافت أيضاً، بخاصة فيما يرتبط بظواهر أخلاقية او عبادية او نفسية،... وهذا من نحو ما ورد عنه (عليه السلام):
قيل له: ما الزهد؟
قال: «الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا».
قيل: فما الحلم:
قال: «كظم الغيظ وملك النفس».
قيل: ما السداد؟
قال: «دفع المنكر بالمعروف».
قيل: فما الشرف؟
قال: «اصطناع العشيرة وحمل الجريرة».
قيل: فما النجدة؟
قال: «الذب عن الجار والصبر في المواطن والاقدام عند الكريهة».
قيل: فما المجد؟
قال: «ان تعطي في الغرم وان تعفو عن الجرم».
قيل: فما المروءة؟
قال: «حفظ الدين واعزاز النفس ولين الكنف وتعهد الصنيعة وأداء الحقوق والتحبب الى الناس».
قيل: فما الدنيئة؟
قال: «النظر في اليسير ومنع الحقير».
قيل: فما اللؤم؟
قال: «قلة الندى وان ينطق بالخنى».
قيل: فما السماح؟
قال: «البذل في السراء والضراء».
قيل: فما الشح؟
قال: «ان ترى ما في يديك شرفاً وما انفقته تلفاً».
قيل: فما الاخاء؟
قال: «الاخاء في الشدة والرخاء».
قيل: فما الجبن؟
قال: «الجرأة على الصديق والنكول عن العدو.. الخ».(11)
الملاحظ، أن كل واحدة من هذه السمات تتطلب تعريفاً في سطور الا انه (عليه السلام) قد استخدم (الاقتصاد اللغوي) في التعريف بها بحيث يمكن أن يكلم بها القارىء اجمالاً موشحاً بشيء من التوضيح، وهذا هو معطى (الاقتصاد اللغوي) نظراً لأن الاجمال بدون توضيح لا يحقق الهدف العلمي، كما أن التوضيح مفصلاً لا يتناسب مع طابع التركيز والاقتصاد، وحينئذ يتعين الاجمال المقترن بشيء من الوضوح.
كلما لحظنا في النموذج المتقدم، وهو نموذج يأخذ قضية التفصيل أو الاجمال بحسب متطلبات السياق، فحين يتحدث عن الجبن أو الحلم مثلاً، نجده يقتصر في ذلك على مفردتين لكل منهما، مثل: ان ترى ما في يديك شرفاً، وما انفقته تلفاً-بالنسبة الى الشح، لكن عندما يتحدث عن المروءة، يقدم ست مفردات عنها: حفظ الدين، اعزاز النفس، اجراء الحقوق...الخ، وهذا يعني أن السياق هو الذي يحدد نسبة الاقتصاد اللغوي في التعبير...
طبيعياً، ينبغي الا نغفل ان النموذج المتقدم بالرغم من كونه (مقابلة) تقتصر على الجواب العلمي، الا انه (عليه السلام) وشح اجاباته بعناصر ايقاعية وصورية ايضاً حتى يهب الاجابة طابعها الجمالي الذي يحملنا على جعل كلامه (عليه السلام) ضمن لغة الادب، وهو أمر يمكن للقارىء ملاحظته ايقاعياً في فقرات من نحو (شرفاً، تلفاً) (السراء، الضراء) (الغرم، الجرم) (الاخاء، الرخاء) (اليسير، الحقير)... الخ.
اخيراً: ثمة شكلان فنيان قد توفر الامام (عليه السلام) عليهما ايضاً، مما ينبغي الوقوف عندهما، أولهما هو:
الخاطرة - كما كررنا- هي شعور مفرد حيال ظاهرة تستوقف الشخص، موشحة بعناصر سريعة من الايقاع والصورة وصيغ لفظية ذات اثارة، من نحو: التساؤل او التقابل ونحوهما...
واليك النموذج الآتي وهو انطباعاته (عليه السلام) عن شهر رمضان، حين شاهد نفراً يلعبون في يوم الفطر، فقال مخاطباً القوم:
«ان الله تعالى جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته الى مرضاته، فسبق قوم ففازوا وقصر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون، وايم الله لو كشف الغطاء لعلموا ان المحسن مشغول باحسانه والمسيء مشغول باساءته».(12)
فهذا النموذج، يتسم بالانطباع السريع عن شهر رمضان المبارك، حيث وشحه بعناصر صورية (تمثيل، رمز، استعارة) فالتمثيل من نحو قوله (عليه السلام) (مضماراً لخلقه) والرمز من نحو قوله (عليه السلام) (لو كشف الغطاء)، والاستعارة من نحو قوله (عليه السلام) (فيستبقون فيه) ونحو (فسبق قوم.).. الخ. كما نلحظ فيه عناصر (التقابل) من نحو (فسبق... وقصر) (فازوا.. فخابوا) (يثاب... يخسر) (المحسنون، المبطلون)... الخ. هذا فضلاً عن عناصر ايقاعية واضحة، فيما لا حاجة الى الاستشهاد بها.
وأما الشكل الفني الآخر، فهو:
*******
الحديث الفني هو النتاج الغالب لدى المعصومين (عيلهم السلام)، حيث سبق القول الى ان طبيعة الظواهر العبادية التي يحرص المعصومون (عليهم السلام) على توصيلها الى المسلمين تتطلب توصيات مختصرة، يقدمها المعصوم (عليه السلام) في مناسبات مختلفة من خلال مقابلة أو مجلس أو لقاء عابر او مجرد القاء التوصية العامة لهذه الظاهرة أو تلك.. والمهم - بعد ذلك- أن هذه الأحاديث أو التوصيات - كما لحظنا ذلك عند حديثنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) والامام علي (عليه السلام)- لم تصغ بشكل عادي بل توشح في الغالب بعناصر صورية وايقاعية تتطلبها طبيعة الموضوع أو التوصية، لذلك فان اضخم تراث فني وعبادي يمكن الوقوف عنده، يتمثل في ما أطلقنا عليه مصطلح: الحديث الفني، ولكونه من حيث الفن، يقترن بعناصر ايقاعية وصورية كما قلنا.
واليك نموذجاً من هذه الأحاديث المأثورة عن الامام الحسن (عليه السلام):
«ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد»(13).
«اليقين معاذ للسلامة».(14)
«المزاح يأكل الهيبة».(15)
«جدوا في الطلب وتجاه الهرب».(16)
«من تذكر بعد السفر، اعتد».(17)
«يا ابن آدم انك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك».(18)
«ما فتح الله عزوجل من أحد باب مسألة فخزن عنه باب الاجابة، ولا فتح على رجل باب عمل فخزن عنه باب القبول، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه باب المزيد».(19)
«لا شيء أقرب من يد الى جسد، وان اليد تفل فتقطع وتحسم».(20)
هذه النماذج تتضمن عناصر صورية وايقاعية ملحوظة، وابرز ما فيها هو: عنصر (الصورة) بمستوياتها المتنوعة، من تشبيه واستعارة وتمثيل ورمز واستدلال.. فالتشبيه من نحو: (أشبه بمظلوم)، والاستعارة من نحو: (يأكل الهيبة)، والرمز من نحو: (بعد السفر)، والتمثيل من نحو: (معاذ للسلامة)، والاستدلال من نحو: (اليد تفل)... الخ.
كما ان الصورة تأخذ مستوياتها المتنوعة من التركيب، فعنصر (الاستعارة) مثلاً: نجده في نموذج منها (مفرداً) مثل: (المزاح يأكل الهيبة) ونجده في نموذج آخر (مركباً) مثل: (ما فتح الله عزوجل من أحد باب مسألة فخزن عنه باب الاجابة، ولا فتح على رجل باب عمل فخزن عنه باب القبول، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه باب المزيد) ، حيث قدم في هذا النموذج ثلاث تركيبات استعارية عن المسألة، والعمل، والشكر... ثم ادرج من كل مركب استعارة بداخلها (باب المسألة، باب الاجابة) (باب العمل، باب القبول) (باب الشكر، باب المزيد)، ثم (وازن) بين المركبات الاستعارية الثلاثة كما هو واضح، وكل اولئك يهب عنصر الاستعارة - فضلاً عن تنويعها وتجانسها- جمالاً وطرافة واثارة بالنحو الذي لحظناه.
*******
(13) المجالس السنية: ج 2، ص 349. (14) تحف العقول: ص 239. (15) المجالس السنية: ج 2، ص 349. (16) تحف العقول: ص 239. (17) نفس المصدر: ص 239. (18) المجالس السنية: ج 2، ص 249. (19) المجالس السنية: ج 2، ص 349. (20) تحف العقول: ص 239.