ويروي أبو بكر عن نفسه : والله لو وضعت قدما في الجنة وقدما خارجها ما أمنت مكر الله ( 25 ) وهذا أبو بكر أيضا يشك في دخوله الجنة . .
ويروي البخاري حديث أبواب الجنة : باب الصلاة وباب الجهاد وباب الصدقة وباب الصيام . فقال أبو بكر للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ( 26 ) . .
قال ابن حجر نقلا عن الفقهاء : الرجاء من الله ومن نبيه واقع . وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر ( 27 ) . .
إن فقهاء القوم يحاولون لي عنق النص وتفسير الرجاء بمعنى اليقين حتى ينفوا عن أبي بكر شبهة عدم دخوله الجنة . وإذا كانت مكانة أبي بكر عند الرسول كما يصفون فلما ذا لم يقل الرسول : نعم وأنت منهم يا أبا بكر . حتى ينفي الشك من صدور
السامعين . . وينبغي لنا هنا أن نعرض لمناقب العشرة المذكورين حتى يتبين لنا كيف تتم عملية التضخيم على حساب الآخرين . ثم نقارن هذه الفضائل والمناقب بمناقب وفضائل من لم يذكروا ضمن العشرة وذلك من أجل وضوح الرؤيا . .
يروي البخاري قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن أحسن الناس على في صحبته وما له أبو بكر . ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته .لا يبقين في المسجد باب إلا سد . إلا باب أبي بكر ( 28 )
. . ومثل هذه المنقبة التي جاء بها البخاري لأبي بكر محل جدل كبير بين فقهاء القوم . إذ أن أكثر الفقهاء يشك في أن أبا بكر كان له دار مجاورة لمسجد الرسول . بل الثابت أن بيته كان بالسنح على أطراف المدينة . وهذا دفع ببعضهم إلى تفسير
الحديث على الوجه المجازي . وادعاء أن المقصود بالباب الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها . والمقصود بهذا التأويل هو دفع الشك عن متن الحديث أولا . وقطع الطريق على خصوم أبي بكر ثانيا . . وينقل ابن حجر قول ابن حبان عن هذا الحديث : في هذا دليل على أنه
* هامش *
( 25 ) - أنظر الطبري ( ج 2 ) والسيرة النبوية لابن هشام . وكنز العمال ( ج 5 ) .
( 26 ) - أنظر البخاري . كتاب فضائل الصحابة . باب فضل أبي بكر .
( 27 ) - أنظر فتح الباري ( ج 7 / 29 ) .
( 28 ) - أنظر البخاري باب فضل أبي بكر .
الخليفة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنه حسم بقوله : سدوا عني كل خوخة في المسجد . أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده وقال ابن حجر معلقا وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أبي بكر كان بالسنح من عوالي المدينة .
وهذا الإسناد ضعيف لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد ( 29 ) . . ومن حيث السند فهذا الحديث فيه شك إذ أن البخاري رواه من طريقين : طريق فليج ابن سليمان عن أبي سعيد الخدري ( 30 ) . . وطريق
عكرمة عن ابن عباس ( 31 ) . . وكلاهما فليج وعكرمة من الخوارج المكفرين للمسلمين المعادين لجميع الصحابة . وقد ذمهم فقهاء القوم ورجال الحديث ( 32 ) . . إلا أن الشك في هذه الرواية سوف يزداد إذا ما تبين لنا أن هناك روايات صحيحة بشهادة القوم تنص على أن الرسول أمر بسد جميع الأبواب إلا باب علي ( 33 ) . .
ومن هذه الروايات يتبين لنا أن الهدف من صنع هذه الفضيلة لأبي بكر هو التمويه على الإمام علي ومعارضة فضائله بفضائل مصطنعة . .
ويروي البخاري عن عمرو بن العاص قوله للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة فقلت من الرجال ؟ قال : أبوها . قلت ثم من ؟ قال : عمر . فعد رجالا ( 34 ) . .
ويكفي للرد على هذه الرواية أن راويها عمرو بن العاص حليف معاوية ومدبر أمره في الصراع مع الإمام علي وصاحب فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح في وقعة صفين ( 35 ) . .
وهل يعقل أن يسأل الرسول عن أحب الناس إليه فيقول زوجتي ؟ . .
إن هذه الإجابة إنما تضع الرسول بين أمرين أما أن يكون غير متفهم للسؤال . أو أن يكون شغوفا بعائشة إلى الدرجة التي ينشغل بها خياله . . والمعنى الثاني هو ما يريد القوم توكيده من خلال الرواية إذ أن هذا الحب
* هامش *
( 29 ) - أنظر فتح الباري ( ج 7 / 29 ) .
( 30 ) - أنظر المرجع السابق .
( 31 ) - أنظر المرجع السابق .
( 32 ) - قال ابن معين في فليج : ليس بثقة . وقال أحمد : كان يرى رأي الصفرية من الخوارج . أما عكرمة فقد كذبه ابن عمر وابن المسيب
ويحيى بن سعيد وابن سيرين . انظر كتب علم الرجال .
( 33 ) - أنظر الترمذي كتاب المناقب . ومسند أحمد ( ج 1 / 175 و / 330 ) .
( 34 ) - أنظر البخاري . باب فضل أبي بكر .
( 35 ) - أنظر كتابنا السيف والسياسة في الإسلام . وانظر ترجمة عمرو بن العاص في كتب التراجم .
والشغف سوف ينعكس على أبيها . وهو المقصود . ثم ما هي الحكمة من محاولة القوم انتزاع الأفضلية على لسان الرسول بهذا الترتيب الذي يجعل من أبي بكر في المقدمة دائما سوى التقليل من شأن الإمام وتصغيره ؟ . .
أن المتأمل في روايات الفضائل الخاصة بأبي بكر وعمر وعثمان سوف يصعب عليه أن يهضمها وأن يستوعبها عقله وتستريح لها نفسه . إلا أن القوم لما حرموا على المسلمين الخوض في المسند خاصة ما يروى في البخاري ومسلم . سدوا طريق التأمل أمام العقل . .
يروي البخاري عن أبي هريرة قوله : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة . فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال : من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري ؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت : أني لم أخلق لهذا ولكن خلقت للحرث . فقال الناس : سبحان الله . قال النبي : فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر ( 36 ) . .
وإن العقل ليحتار في مثل هذه الرواية إلى أي شئ تهدف ؟ . .
وما هي فضيلة أبي بكر في هذه الحكاية ؟ . .
هل هي إيمانه بنطق الذئب والبقرة ؟ . .
ولماذا يحصر الرسول الإيمان بهذه الحكاية في دائرته مع أبي بكر وعمر ؟ . .
هل هذا يعني أن الآخرين كفروا بها ؟ . .
إن القوم يحاولون استخلاص فضيلة لأبي بكر من خلال هذه الرواية فكانت النتيجة أن حكموا على المستمعين بتكذيب رواية الرسول ورفضها ما عدا أبو بكر وعمر . . وبالطبع من بين المكذبين الذين رفضوا هذه الحكاية الإمام علي . . والعجيب أنه في رواية مسلم لم يكن أبو بكر وعمر موجودان أثناء رواية هذه الحكاية ( 37 ) . .
* هامش *
( 36 ) - أنظر البخاري . باب فضل أبي بكر .
( 37 ) - أنظر مسلم . كتاب فضائل الصحابة . باب من فضائل أبي بكر .
ويروي البخاري أنه نشب خلاف بين أبي بكر وعمر فأقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما صاحبكم فقد غامر . فسلم وقال يا رسول الله إني كان بيني وبين ابن الخطاب شئ فأسرعت إليه ثم
ندمت . فسألته أن يغفر لي فأبى علي . فأقبلت إليك . فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر ( ثلاثا ) . ثم إن عمر ندم . فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبو بكر ؟ فقالوا : لا . فأتى النبي . فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه - أي
عمر - فقال : يا رسول الله . والله أنا كنت أظلم ( مرتين ) . فقال النبي : إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدق . وواساني بماله ونفسه . فهل أنتم تاركون لي صاحبي ( مرتين ) فما أوذي بعدها ( 38 ) . .
ومثل هذه الرواية إنما تذم أبا بكر وعمر لا تمدحهما . إذ أن الأمر على ما يبدو كان صداما ولم يكن مجرد مشادة كلامية . . وبالطبع لم يخبرنا الرواة حقيقة ما حدث بينهما ولم يشر القوم إلى حقيقة الأمر في تفسيراتهم لهذه الرواية .
إلا أن ظاهر الرواية يكشف لنا أن أبا بكر وقع في عمر وعمر وقع في أبي بكر وهذا الأمر في حد ذاته يعد نقصا فيهما . . وعلى ما يبدو من الرواية فإن الرسول كان منحازا لأبي بكر وقاسيا على عمر وهذا الانحياز ليس له ما يبرره سوى أن القوم يريدون رفع مكانة أبي بكر . ولكن الرفع هذه المرة جاء على حساب عمر . .
* هامش *
( 38 ) - البخاري . باب فضل أبي بكر . ( * )