الدعوة للتعددية والتسامح وإرساء قيم الاختلاف وقبول الآخر، وإشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الاديان والثقافات، وترسيخ العقلية النقدية الحوارية ، وحرية الفرد وامتلاكه لمصيره، وكذلك حقوق المراة والعمل على إنشاء دولة المؤسسات وتحقيق التنمية والتقدم وغيرها من الافكار والآراء المعاصرة هي قيم دعى اليها الاسلام، لكنها عزلت وجمدت بفعل التخلف والفكر الراكد والعنف الايدلوجي، لذلك اصبح المسلمون متخلفون عن ركب الحضارة.
مع ان الاسلام هو حركة تجديدة سيالة متحركة مع تصاعد الزمن وتقدم البشر، فالحياة تحتاج إلى تجديد ولا يتحقق ذلك إلا بحضور المجدد في الحياة.. ولا يكون الرجل مجددا ما لم يجدد عقله ونفسه وفكره، وبالتالي فهمه وإدراكه لحقائق الحياة كما هي.
فإذا أصبح المرجع مجددا، جدد من حوله.. من يلتقيه ويجالسه.. من يقلده ويحاججه.. من يقرأ فكره ويعاضده.. فلا يقوم جليسه إلا وعنده فكرة جديدة في الحياة، ولا يقترب احد منه إلا وقد اخذ الجديد النافع والموزون الشرعي المغير للواقع نحو عمل أحسن وأكمل.
ورجالات الإسلام وأعلامهم كانوا سباقين في هذا المضمار من اجل أن يصلوا بالعالم الإسلامي إلى ان يطوروا العقول ويزيحوا عنها الرين والصدأ نحو الأمام لطرح أفكار الإسلام باسلوب شيق يتواكبون فيه مع سير عجلة الزمن ، فرجال كـ جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد تقي الشيرازي ، وعبد الحسين شرف الدين وكاشف الغطاء، والإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمهم الله وغيرهم ... هم الاعلام الذين أثروا عالمنا الاسلامي الحديث بافكارهم الوضاءة والتي هي في النهاية عبارة عن ذلك المعين الذي لا ينضب والمستمد من وحي الرسالة المحمدية الخالدة.
فشخص كشخص الإمام الراحل المجدد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله ) قد افاض في مثل تلك الأمور والأفكار ، فأعطاها طابعاً وبعداً عملياً ترجم الى ارض الواقع ليتواصل الإسلام مع ديمومة الحياة الإنسانية ويعبر بعمق عن الأفكار المتجددة التي تظهر لتواكب التغيير وحاجات الناس الاجتماعية والثقافية.
فقد شمل التجديد لدى الامام الراحل أغلب معالم الحياة تقريباً إن لم نقل كلها فقد كان له تجديد في الفقه، وتجديد في الأسلوب وتجديد في المرجعية والعمل المرجعي ، وتجديد في مفردات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .... وغيرها.
موضوع التعددية مثلا قد اخذ حيزاً كبيراً من كتابات الامام الراحل (رحمه الله) وموقف الإمام واضح حيال هذا الموضوع، حيث يرى الإمام الشيرازي أن التعددية الحزبية أولتها الشريعة كامل الاهتمام والعناية، ودعى سماحته رحمه الله الى تشكيل الاحزاب الإسلامية، فقد نقل السيد الشيرازي (قدس سره) الصفة الكونية والمتمثلة في إن التنظيم يُعدُّ دليلاً على وجود الله سبحانه وتعالى إلى المجتمعات الإسلامية عبر ترجمة شرعية عملية لهذه الصفة، إذ يركز الإمام على الصفة الإيجابية للتنظيم يحاول أن يصف بها الهيئات والأحزاب التي تقوم على فكرة التنظيم ليضيف مشروعية على وجود الأحزاب داخل المجتمعات(1).
وتطرق سماحته إلى الفارق الذي يميّز الحزب بمفهومه الإسلامي عن مفهومه الغربي أو العلماني هو في أنه الأول يعمل تحت الغطاء المعرفي الإسلامي، بينما الثاني يعمل حسب الآراء الوضعية طابقت الشرع أم لم تطابقه، فقد عدّ الإمام الراحل هداية أعضاء الأحزاب العلمانية أو الوضعية إلى الخط الإسلامي الصحيح وإرشادهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة جزءاً من واجبات الأحزاب الإسلامية(2).
كذلك فالإمام الراحل (رحمه الله ) قد تطرق الى مسألة مهمة جدا في يومنا هذا ما كان العراقيون ليعرفوها الا بعدما سقط النظام الدكتاتوري الصدامي في العراق كان السيد الامام (رحمه الله ) قد تطرق اليها منذ زمن طويل ، الا وهي ضرورة التأكيد على إنشاء مجتمع مدني وبناء دولة المؤسسات، إذ يرى إن الإجتماع البشري مع تبعثر أفراده له تنسيق وكل يعمل في ذلك التنسيق لأجل أن البشر خلق هكذا، فالفرد يعمل في ضمن المجموعة، أو لأجل التقدم وقضاء الحوائج، وإنما يكون ذلك بالعمل السياسي(3)..
لذلك نجده رحمه الله سعى وبكل جهده الى تكوين والمساعدة في تكوين مئات المؤسسات غير المرتبطة بالحكومة سواء عندما كان داخل العراق او في خارجه وبميادين الحياة كافة، الاجتماعية والدينية والصحية والتربوية والمالية وغيرها.
وقد دعى الإمام الراحل الى ضرورة ملحة ومهمة في نفس الوقت ، نحن نعاني منها الان في مختلف البلاد الاسلامية، إذ يرى الإمام (رحمه الله ) ضرورة التاكيد على مسالة الخبروية أي جعل الشخص المناسب في المكان المناسب ويرفض كل الرفض الانقلابات العسكرية والسيطرة على السلطة عن طريق هذه الانقلابات فهو يعتبرهم كقطاع الطرق او قل كالسراق، إذ يقول سماحته في ذلكوأن الانقلابات العسكرية مرفوضة جملة وتفصيلاً، فإن الانقلاب ولو تذرع بألف ذريعة ليس إلا سبباً لتدهور أحوال الشعب إلى الأسوأ، فإذا استولى جماعة من العسكريين على الحكم كان اللازم أن يرفضهم الشعب، ويعاملهم معاملة اللصوص ويقدمهم للمحاكمة(4)..
وأكد سماحته (رحمه الله) على ضرورة الالتزام بنظام الشورى بعدها فلسفة نظام الحكم ، والاجتماع، والأسرة، ولأنها تعني إدارة أمر الإجتماع الانساني، الخاص والعام، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي، الذي هو سبيل الانسان للمشاركة في تغيير شئون هذا الاجتماع، فالإمام يرى ان الحكم في الإسلام هو بأكثرية الآراء وبالشورى كما يجب توفر بقية الشروط الشرعية ايضاً(5).
وجعل هذا المفهوم متداخلا في كل مداخل الحياة الانسانية حتى إنه رحمه الله يعتبر على المستوى الحوزوي صاحب نظرية كبيرة جدا في هذا المجال الا وهي (نظرية شورى الفقهاء المراجع).
أضف إلى أن الإمام (رحمه الله ) صاحب نظرية مهمة لاجل بناء دولة اسلامية جديدة مبنية على اسس وقواعد رصينة حتى تكون عالمية وهي نظرية (الديمقراطية الاستشارية) قد ذكرها الامام وفصلها في العديد من كتبه التي تكلمت عن السياسة والدولة.
كذلك فان الإمام (رحمه الله) نادى بحقوق المراة باعتبارها مجتمع بإكمله ولها حقوق وحظوظ متساوية مع الرجل، باستثناء بعض الامور المتعلقة بالطبيعة الجسمية للمراة.
كذلك كان الإمام الراحل (رحمه الله) يؤكد على إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الاديان والثقافات، وترسيخ العقلية النقدية الحوارية ويؤمن بحرية الفرد وامتلاكه لمصيره، وأكد على ضرورة الاهتمام بالعلم والمعرفة.
وخلاصة القول فإن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يرى أن الدين الإسلامي هو منهج حياة متكامل أنزله الله للناس كافة، يشمل عباداتهم ومعاملاتهم و يراعي مصالحهم مع تطور الحياة، وهو دين العلم والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والمعرفة.
كم نحن بحاجة الى تراث هذا العالم والفقيه المتنور لتحقيق الامن والسلام والرفاه والكرامة بلادنا وامتنا..؟مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث