ونعني هنا نوعية الحاكم الأعلى الذي يتولى رئاسة الدولة العالمية العادلة بعده (عليه السلام) ونواجه بهذا الصدد أطروحتين رئيسيتين:
الأطروحة الأولى:القول بالرجعة، أي الالتزام برجوع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلى الدنيا ليمارسوا الحكم بعد المهدي (عليه السلام).
الأطروحة الثانية: حكم الأولياء الصالحين بعد المهدي (عليه السلام).
وقد ورد في إثبات كل من الأطروحتين عدد من الأخبار، لا بد من سماع المهم منها، وعرضها على القواعد والقرائن العامة، لنختار في النهاية إحدى الأطروحتين.
القول بالرجعة:
حين ننظر إلى المفهوم على سعته، يحتمل أن يكون له أحد عدة معان:
المعنى الأول:ظهور المهدي (عليه السلام) نفسه، فإنه قد يصطلح عليه بالرجعة، باعتبار رجوعه إلى الناس بعد الغيبة، أو باعتبار رجوع العالم إلى الحق والعدل بعد الانحراف. وهذا المعنى حق صحيح، إلا أن اصطلاح الرجعة عليه غير صحيح، لأنه يوهم المعاني الأخرى الآتية التي هي محل الجدل والنقاش، ونحن في غنى عن هذا الاصطلاح بعد إمكان التعبير عن ظهور المهدي (عليه السلام) بمختلف التعابير.
المعنى الثاني:رجوع بعض الأموات إلى الدنيا، وإن لم يكونوا من الأئمة المعصومين (عليه السلام). وخاصة من محض الإيمان محضاً ومن محض الكفر محضاً.
المعنى الثالث:رجوع بعض الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كأمير المؤمنين علي (عليه السلام) والحسين. وربما قيل برجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً. وهم يرجعون على شكل يختلف عن حال وجودهم الأول في الدنيا من حيث الترتيب ومن حيث الفترة الزمنية أيضاً.
المعنى الرابع: رجوع كل الأئمة (عليهم السلام) بشكل عكسي، ضد الترتيب الذي كانوا عليه في الدنيا، فبعد المهدي (عليه السلام) أبوه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وبعده يظهر أبوه الإمام علي الهادي (عليه السلام) وهكذا. ويمارسون الحكم في الدنيا ما شاء الله تعالى حتى إذا وصل الحكم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كان هو دابة الأرض، وكانت نهاية البشرية بعد موته بأربعين يوماً.
والمعنيان الأخيران، قائمان على الفهم الإمامي للإسلام كما هو واضح. كما أن المعاني الثلاثة الأخيرة هي التي وقعت محل الجدل والنقاش في الفكر الإسلامي.
وينبغي لنا أولاً: أن نسرد الأخبار الدالة على ذلك، ونحن نختار نماذج مهمة ولا نقصد الاستيعاب.
أخرج المجلسي في البحار بالإسناد عن محمد بن مسلم قال سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدثان جميعاً –قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث-: أنهما سمعا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي. وإن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصة. لا يرجع إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً.
وبهذا الإسناد عن بكير بن أعين، قال: قال لي من لا أشك فيه، يعني أبا جعفر (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلياً سيرجعان.
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل.
(ويوم نحشر من كل أمة فوجاً). فقال: ليس أحد من المؤمنين قتل إلا سيرجع حتى يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى يقتل.
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) يقول فيها:
فلم يبعث الله نبياً ولا رسولاً ردهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي رواية أخرى عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
إن أول من يرجع لداركم الحسين (عليه السلام)، فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر.
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو نائم في المسجد، وقد جمع رملاً ووضع رأسه عليه. فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الله. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أ نسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة، وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم، أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون). ثم قال: يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، ومعك ميسم تسم به أعدائك.. إلى أن قال: فقال الرجل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن العامة تزعم أن قوله: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً) عنى في القيامة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فيحشر الله يوم القيامة من كل أمةٍ فوجاً ويدع الباقين؟ لا. ولكنه في الرجعة. وأما آية القيامة: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً).
وعن الحسن بن الجهم، قال: قال المأمون للرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن ما تقول في الرجعة؟ فقال: أنها الحق. قد كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن.وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يكون في هذه الأمة ما كان في الأمم السالفة حذوا النعل بالنعل والقذة بالقذة. وقال (عليه السلام): إذا خرج المهدي من ولدي، نزل عيسى بن مريم فصلى خلفه. وقال (عليه السلام) إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ثم يكون ماذا؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ثم يرجع الحق إلى أهله.
وعن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
لقد أسرى بي ربي عز وجل فأوحى إلي من وراء حجاب ما أوحى وكلمني بما كلم وكان مما كلمني به... يا محمد: علي آخر من أقبض روحه من الأئمة (عليهم السلام) وهو الدابة التي تكلمهم... الخبر.
وفي البحار أيضاً عن الإرشاد: روى عبد الكريم الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
إذا آن قيام القائم مطر الناس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب لم تر الخلائق مثله. فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، وكأني أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة، ينفضون شعورهم من التراب.
وقال المجلسي بعد سرده للأخبار:
اعلم يا أخي أني لا أظنك ترتاب بعدما مهدت وأوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار... وكيف يشك مؤمن بحقية الأئمة الأطهار فيما تواتر عنهم من مأتي حديث صريح، رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم، ثم عدهم المجلسي واحداً واحداً.
وهذا الكلام من المجلسي يواجه عدة مناقشات:
المناقشة الأولى:أن إجماع الشيعة وضرورة المذهب عندهم، لم تثبت على الإطلاق، بل المسألة عندهم محل الخلاف والكلام على طول الخط. والمتورعون منهم يقولون: أن الرجعة ليست من أصول الدين ولا من فروعه ولا يجب الاعتقاد فيها بشيء بل يكفي إيكال علمها إلى أهله. فهل في هذا الكلام –وهو الأكثر شيوعاً- اعتراف بالرجعة.
وإنما اعترف بالرجعة وأخذ بها، نتيجة لهذه الأخبار التي ادعى المجلسي تواترها، إذاً، فالرأي المتخذ حولها –ولا أقول الإجماع- ناتج من هذه الأخبار، ولا يمكن أن تزيد قيمة الفرع على الأصل.
المناقشة الثانية:أنه من الواضح أن مجرد نقل الرواية لا يعني الالتزام بمضمونها والتصديق بصحتها، من قبل الناقل أو الراوي. إذاً فهؤلاء الأربعون الناقلون لهذه الروايات لا يمكن أن نعدهم من المعترفين بالرجعة.
المناقشة الثالثة:أن هؤلاء الرواة الاثنين والأربعين الذين عددهم المجلسي لم يجتمعوا في جيل واحد. فلو رويت أخبار الرجعة من قبل أربعين شخصاً في كل جيل حتى يتصل بزمن المعصومين (عليهم السلام)، لكانت أخبار الرجعة المتواترة. ولكن يبدو من كلام المجلسي نفسه، وهو أوسع الناس إطلاعاً في عصره، أن مجموع الناقلين أربعون راوياً. فلو أخذنا المعدل وهو عملية لا مبرر لها الآن، لرأينا أنه يعود إلى كل جيل حوالي أحد عشر مؤلفاً، لأن المجلسي عاش في القرن الحادي عشر الهجري. وهو عدد لا يكفي التواتر.
المناقشة الرابعة:إن عدداً من المؤلفات التي ذكرها المجلسي، لم تثبت عن مؤلفيها، أو لم تصلنا عنهم بطريق صحيح مضبوط، أو أن روايته عن مؤلفه ضعيفة أساساً. كتفسير علي بن إبراهيم، وكتب أخرى لا حاجة إلى تعدادها.
المناقشة الخامسة:إن الروايات التي نقلها هؤلاء، ليست كلها صريحة وواضحة، وسنعرف عما قليل أنها مشوشة قد لا تدل على الرجعة أصلاً وقد تدل على الرجعة بالمعنى العام المشترك بين الاحتمالات الثلاثة السابقة، وقد تدل على واحد منها بعينه وتنفي الاحتمالات الأخرى...وهكذا.
إذاً، فالتواتر المدعى ليس له مدلول معين، ومعنى ذلك: أن الأخبار لم تتواتر على مدلول بعينه. وسنحاول إيضاح هذه النقطة أكثر.
ومعه، فكلام المجلسي يحتوي على شيء من المبالغة في الإثبات على أقل تقدير وأما مناقشات مداليل الأخبار، فنشير إلى المهم منها:
المناقشة الأولى:عدم اتحاد الأخبار بالمضمون. فإن مداليلها مختلفة اختلافاً شديداً. حتى لا يكاد يشترك خبران على مدلول واحد تقريباً.
والمداليل التي تعرب عنها الأخبار عديدة:
المدلول الأول:رجوع من محض الإيمان محضاً ورجوع من محض الكفر محضاً.
المدلول الثاني:رجوع كل مؤمن على الإطلاق. لأنه إن كان قد مات فهو يرجعه ليقتل، وإن كان قد قتل فيرجع ليموت.
المدلول الثالث:رجوع الأنبياء جميعاً.
المدلول الرابع: رجوع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
المدلول الخامس:رجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
المدلول السادس: رجوع الحسين بن علي (عليه السلام).
المدلول السابع:رجوع جماعة من كل أمة.
المدلول الثامن: رجوع عدد من المؤمنين في الجملة.
المدلول التاسع: رجوع بعض الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إجمالاً.
المدلول العاشر: رجوع الحق إلى أهله، وهو ليس قولاً بالرجعة كما عرفنا.
وليس شيء من هذه المداليل متواتر في الأخبار بكل تأكيد.
نعم، هناك مدلول مشترك إجمالي بين الإخبار الدالة على المداليل التسعة الأولى.
وهو رجوع بعض الأموات إجمالاً إلى الدنيا قبل يوم القيامة. وهو ما تتسالم عليه كثير من الأخبار. ومن هنا يكون قابلاً للإثبات، إلا أنه لا ينفع القائلين بالرجعة.
المناقشة الثانية:إن الالتزام بصحة المداليل التسعة جميعاً، أي القول بصحة الرجعة على إطلاقها، مما لا يكون، لضعف الأخبار الدالة على كثير منها. وأما الالتزام بها إجمالاً، بالمعنى الذي أشرنا إليه، فهو لا ينفع القائلين بالرجعة، لأن القول بالرجعة من الناحية الرسمية يتضمن أحد المعاني الثلاثة التي ذكرناها في أول الفصل. وهذا المعنى الإجمالي لا يعني ولا واحداً منها، بل ينسجم مع افتراضات أخرى كما هو واضح.
فهي لا تتعين في حدوثها بعد وفاة المهدي (عليه السلام) مباشرة، ولا أنها على نطاق واسع.
ولا تتعين في أحد المعصومين (عليهم السلام) ولا من محض الإيمان محضاً، ولا غير ذلك.
نعم، هناك مداليل تتكرر في الأخبار، وأوضحها رجوع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفته دابة الأرض التي نص عليها القرآن الكريم. إن هذه المداليل لا ترد عليها هذه المناقضة، وهي قابلة للإثبات من زاويتها.
المناقشة الثالثة:إن القول بالرجعة يتخذ سمة عقائدية، فإنه على تقدير صحته يعتبر أحد العقائد –وإن لم يكن من أصولها- وليس هو من الفروع والتشريعات على أي حال.
وقد نص علماء الإسلام بأن العقائد لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً ومتعدداً. ما لم يبلغ حد التواتر، وقد علمنا أن الأخبار في المداليل التسعة والمعاني الثلاثة غير متواترة، فلا تكون الأخبار قابلة لإثبات أي منها حتى لو كان المضمون متكرراً في الأخبار، ما لم يصل إلى حد التواتر.
وأما المضمون الإجمالي المتواتر، فقد عرفنا أنه لا ينفع القائلين بالرجعة، وسنزيد هذا إيضاحاً.
المناقشة الرابعة:إن المعنى الخير من المعاني الأربعة التي ذكرناها أولاً، وهو رجوع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بشكل عكسي، لعله من أكثر أشكال الرجعة تقليدية ورسوخاً في الأذهان المعتقدة بها. وقد وجدنا أنه ليس هناك ما يدل عليها على الإطلاق ولا خبر واحد ضعيف بل ليس هناك أي خبر يدل على رجوع جميع الأئمة المعصومين على التعيين، ولو بشكل مشوش، إلا بحسب إطلاقات أعم منهم بكثير، ككونهم ممن محض الإيمان محضاً..
بل أن هناك ما يدل على نفي هذا المعنى التقليدي، كقوله في الخبر: أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي.. فإنه لو صح ذلك لكان أول من يرجع هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وليس الحسين (عليه السلام).
وأما دلالة القرآن الكريم على الرجعة: فأما أن نفهمه على ضوء الأخبار المفسرة له، وأما أن نفهمه مستقلاً.
أما فهمه على ضوء الأخبار، وهو باستقلاله غير ظاهر بذلك المعنى، فهذا لا يعدو قيمة الخبر الدال على هذا الفهم، ويواجه نفس الإشكالات التي واجهناها في الأخبار.
ومن ثم يكون من اللازم الاستقلال في فهم الآيات.
وإذا نظرنا إلى الآيات المذكورة للرجعة، وجدنا لكل منها معنى مستقلاً لا يمت إلى الرجعة بصلة، حتى بذلك المعنى الإجمالي العام، أي أنها لا تدل على إحياء بعض الموتى قبل يوم القيامة، ولا أقل من احتمال ذلك المسقط لها عن الاستدلال على الرجعة.
وقد استدل البعض بأكثر من ثلاثين آية في هذا الصدد، وهو تطرف ومبالغة في الاستدلال بكل تأكيد، وإنما نود أن نشير هنا إلى ثلاث آيات فقط تعتبر هي الأهم بهذا الصدد، لنرى مقدار دلالتها على الرجعة:
الآية الأولى: قوله تعالى:
(قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل).
وطريقة فهم الرجعة منها: أن الآية تشير إلى حياتين وموتين للناس. ونحن لا نعرف إلا حياة واحدة وموتاً واحداً، فأين الثاني منهما؟ وجوابه: أن ذلك إنما يكون في الرجعة فإنها تتضمن حياة ثانية وموتاً بعدها، فإذا أضفناها إلى الحياة المعاصرة والموت الذي يليها، كان المجموع اثنين اثنين.
غير أن هذا الفهم إنما يكون صحيحاً بأحد أسلوبين:
الأسلوب الأول:أن تصح الأخبار الدالة عليه. قد عرفنا مناقشتها.
الأسلوب الثاني:أن يكون فهماً منحصراً، بحيث لا يوجد مثله أو أظهر منه في سياق الآية. فإن وجد ذلك، لم يمكن الاعتماد على هذا الفهم.
وهذه الآية تتضمن معاني محتملة غير الرجعة.
المعنى الأول:أن يكون الموت يشير إلى ما قبل الميلاد، حال وجود النطفة مثلاً.
وأن تكون الحياة الثانية هي الحياة في يوم القيامة. فإذا أضفناها إلى الحياة والموت المعهودين كانا كما قالت الآية الكريمة.
المعنى الثاني:أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في عالم البرزخ أي أن الميت يحيا بعد موته إلى عهد قريب من يوم القيامة. ثم يموت بنفخة الصور الأولى حين يصعق من في السماوات والأرض. وأما الأحياء ليوم القيامة فهو زمن التكلم وكأنه غير داخل في الحساب.
إلى معاني أخرى محتملة. ولعل أكثرها ظهوراً هو المعنى الأول، دون معنى الرجعة والمعاني الأخرى ـ فلا تكون الآية دالة على الرجعة بحال.
ولعل أوضح ما يقرب المعنى الأول على معنى الرجعة هو أن المعنى الأول عام لكل الناس، والرجعة خاصة ببعضهم، وظهور الآية هو العموم.
الآية الثانية:قوله تعالى:
(ويوم نحشر من كل أمة فوجاً).
وقد أشار أحد الأخبار التي سمعناها إلى طريقة فهم الرجعة من هذه الآية. إن الله تعالى يحشر في يوم القيامة الناس جميعاً، لا أنه يحشر بعضاً ويدع بعضاً. وهو المشار إليه في قوله تعالى (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً)، وما دامت الآية التي نتكلم عنها تشير إلى حشر البعض دون الكل (من كل أمة فوجاً) إذاً فهي لا تشير إلى حشر يوم القيامة، وإنما تشير إلى حشر آخر هو الحشر في الرجعة. وإنما سمي حشراً باعتبار أنه يتضمن الحياة بعد الموت لجماعات كثيرةّ، مشابهاً من هذه الجهة لحشر يوم القيامة.
ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها، لم نجدها دالة على الرجعة بحال ولا أقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة، لا تكون الآية دالة عليه أقل من دلالتها على معنى الرجعة.
وهذا المعنى هو الحشر التدريجي. فإن الحشر والحساب في يوم القيامة له أحد أسلوبين محتملين:
الأسلوب الأول:الحشر الدفعي أو المجموعي. بمعنى أن يحشر الناس كلهم من أول البشرية إلى آخرها سوية، ويحاسبون على أعمالهم.
وهذا هو المركوز في الأذهان عادة، غير أنه ليس في القرآن ما يدل عليه، وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها.
الأسلوب الثاني:الحشر التدريجي، جيلاً بعد جيل أو ديناً بعد دين أو مجموعة بعدد معين بعد مجموعة وهكذا. وحتى يتم حساب الدفعة الأولى تحشر الدفعة الثانية وهكذا.
فقد تكون الآية التي نحن بصددها دالة على هذا الأسلوب من الحشر. حيث يقول: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً). لأن حشر الجيل الواحد يتضمن أن يعود إلى الحياة جماعة من كل مذهب ودينمن كل أمة) كما كان عليه الحال في الدنيا. وهو لا يريد إهمال الآخرين، بل هو يشير إلى دفعة واحدة من الحشر التدريجي، وأما الدفعات الأخرى فيأتي دورها تباعا. ولن تكون مهملة بدليل قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) أي أن الحشر التدريجي سيستوعب في النتيجة كل البشرية من أولها إلى آخرها.
إّذاً، فكلتا الآيتين تشيران إلى يوم القيامة، ولا تمت إلى الرجعة بصلة، ولا أقل من احتمال ذلك بحيث تكون دلالتها على الرجعة غير ظاهرة.
الآية الثالثة:
(وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).
وطريقة دلالتها على الرجعة بأحد أسلوبين:
الأسلوب الأول:أن حادثة خروج دابة الأرض تكون عند الرجعة، فهي تخرج مع الراجعين لتقوم بوظيفتها بينهم.
إلا أن هذا الأسلوب غير صحيح بكل وضوح، لأن الآية لا تشير إلا إلى خروج دابة الأرض، وأما أنها تخرج في جيل طبيعي أو في جيل الرجعة، فهذا ما لا تشير إليه الآية إليه بحال.
الأسلوب الثاني:أنها تشير إلى رجعة دابة الأرض نفسها، أعني حياتها بعد الموت، فهي تشير إلى رجعة شخص واحد لا أكثر. وإذا أمكن ذلك في شخص أمكن في عديدين.
وهذا يتوقف على أن نفهم من (دابة الأرض) أنها إنسان سبق له أن عاش في هذه الحياة. وفي الآية قرينة على بشرية هذه الدابة وهي قوله: (تكلمهم) فإن الكلام يكون من البشر دون غيره. ويتوقف على أن نفهم من قوله: (أخرجنا) معنى؛ أرجعنا إلى الحياة بعد الموت، لا أن هذا الإنسان يولد في حينه. وقد يجعل قوله تعالى: (أن الناس كانوا لا يوقنون) دليلاً على ذلك، لأن الآية إنما تكون بالرجوع بعد الموت، وأما و كان يولد في زمانه، لما حدثت الآية، وقد قامت الأخبار التي سمعنا طرفاً منها، بتعيين هذا الإنسان بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
والإنصاف أن فكرة الأسلوب الثاني هي المستفادة من الآية الكريمة. فدابة الأرض هو إنسان بعينه، وقوله أخرجنا دال على الإيجاد غير الطبيعي لا على مجرد الولادة. إذاً، فالآية الكريمة دالة على رجعة هذا الإنسان.
غير أنها لا تدل على أي معنى آخر للرجعة، لا العام ولا الخاص، ومن المحتمل بل المؤكد أن هناك مصلحة في حكمة الله تعالى لرجوع دابة الأرض، لا تتوفر لأي بشر آخر، ومعه لا يمكن القول بالتعميم منه إلى رجعة أي شخص آخر. ومجرد الإمكان في قدرة الله تعالى، وهو مما لا شك فيه، لا يدل على الوقوع الفعلي.
وإّذا وصلنا إلى هذه النتيجة، استطعنا أن نستنتج نتيجة أخرى مهمة، هي التوحيد بين مدلول القرآن ومدلول الأخبار. فإننا عرفنا أن الأخبار لا يمكنها أن تثبت إلا المعنى الإجمالي الذي يناسب أن يكون هذا الراجع واحداً لا أكثر. وهذا صالح للانطباق على ما دل عليه القرآن الكريم من رجعة دابة الأرض. فإن هذا المعنى الإجمالي لم يثبت انطباقه بدليل كاف إلا على دابة الأرض فيتعين فيه، بعد ضم الدليلين إلى بعضهما.
ومعه، فلم يثبت أي معنى من معاني الرجعة ولا احتمالاتها السابقة، وإنما لا بد لنا كمسلمين، أن نبتعد بخروج دابة الأرض التي نطق بها القرآن الكريم. وفي الإمكان أن نسمي ذلك بالرجعة إلا أنه على خلاف اصطلاحه
حكم الأولياء الصالحين:
أخرج الشيخ في الغيبة بسنده عن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) –في حديث طويل- أنه (عليه السلام) قال:
يا أبا حمزة، إن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً.
وأخرج أيضاً بإسناده إلى جابر الجعفي، قال:
سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: والله ليملكن منا أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمائة سنة. قلت: متى يكون ذلك؟ قال: بعد القائم.
قلت: وكم يبقى القائم في عالمه. قال: تسع عشر سنة. ثم يخرج المنتصر فيطلب بدم الحسين (عليه السلام) ودماء أصحابه، فيقتل ويسبي، حتى يخرج السفاح.
وأخرجه النعماني في الغيبة إلى قوله:
تسع عشر سنة. إلا أنه قال: ثلاثمائة سنة يزداد تسعاً.
وأخرج في البحار نقلاً عن غيبة الشيخ عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الليلة التي كانت فيها وفاته، لعلي: يا أبا الحسن، احضر صحيفة ودواة. فأملى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصيته إلى هذا الموضع. فقال: يا علي، أنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثني عشر مهدياً. فأنت يا علي أول الاثني عشر إمام... وساق الحديث، إلى أن قال: وليسلمها الحسن (يعني الإمام حسن العسكري عليه السلام) إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد (عليهم السلام). فذلك اثني عشر مهدياً. فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المهديين (المقربين: نسخة الغيبة). له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو عبد الله، وأحمد، والاسم الثالث: المهدي. وهو أول المؤمنين.
وفي عدد من الأدعية الواردة في المصادر الإمامية الدعاء لهؤلاء الأولياء الصالحين (عليهم السلام) بعد الدعاء للمهدي (عليه السلام) والسلام عليه.
ففي بعض الأدعية المكرسة للدعاء للمهدي (عليه السلام) والثناء عليه، يقول في آخره:
(اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده، وبلغهم آمالهم وزد في آجالهم، واعز نصرهم وتتم لهم ما أسندت إليهم من أمرك لهم وثبت دعائمهم، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً... الخ الدعاء.
وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (عليه السلام) ويثني عليه طويلاً، ويقال في آخره: ويصل على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم وزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا وآخرة، إنك على كل شيء قدير..إلى غير ذلك من الأدعية.
هذا، وقد حاول المجلسي في البحار أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار من حيث كونها دالة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (عليه السلام) إلى غير الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وبين القول بالرجعة الذي يقول: بإيكال الرئاسة إلى الأئمة المعصومين أنفسهم. حيث قال: هذه الأخبار مخالفة للمشهور – يعني القول بالرجعة-
وطريق التأويل أحد وجهين.
الأول:أن يكون المراد بالاثني عشر مهدياً، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمة سوى القائم (عليه السلام)، بأن يكون ملكهم بعد القائم...
والثاني:أن يكون هؤلاء المهديون من أحباء القائم هادين للخلق في زمن سائر الأئمة الذين رجعوا، لئلا يخلو الزمان من حجة. وإن كان أوصياء الأنبياء و(أوصياء) الأئمة حججاً أيضاً. والله تعالى يعلم.
وقال الطبرسي في أعلام الورى: وجاءت الرواية الصحيحة بأنه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد، إلا ما روي من قيام ولده إن شاء الله ذلك. ولم ترد به الرواية على القطع والثبات. وأكثر الروايات أنه لن يمضي – يعني المهدي القائم (عليه السلام)- من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج.
هذا ما قالته المصادر الإمامية، ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر العامة أي أثر.
ونود أن نعلق أولاً على كلام المجلسي: أنه يعترف سلفاً أن كلا الوجهين نحو من أنحاء التأويل، والتأويل دائماً خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا يكفي مجرد الإمكان أو الاحتمال لإثباته.
وعلى أي حال، فالوجه الأول حاول فيه المجلسي على أن نقول: أن الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (عليه السلام) هم الأئمة المعصومون الاثنا عشر أنفسهم، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة. ويكون المراد منهما معاً الأئمة المعصومين أنفسهم.
إلا أن هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه، نذكر منها اثنين:
الوجه الأول:إن عدداً من روايات الأولياء التي سمعناها، تنص على أن الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (عليه السلام). قال في أحد الأخبار: (ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة –يعني المهدي (عليه السلام)- فليسلمها إلى ابنه أول المهديين).
وقال في الدعاء (والأئمة من ولده). مع أن الأئمة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (عليه السلام) بكل وضوح.
الوجه الثاني:إننا لو نجد –كما عرفنا- دليلاً كافياً على عودة الأئمة الاثني عشر كلهم، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوش، وإنما نص فقط –بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- على أمير المؤمنين (عليه السلام) وابنه الحسين (عليه السلام).
وإذا لم يثبت رجوع الأئمة الإثنا عشر جميعاً كيف يمكن حمل هذه الأخبار عليه.
وأما الوجه الثاني الذي ذكره المجلسي، فيتلخص في الاعتراف بوجود الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (عليه السلام)، متعاصرين. ولكن الحكم العام سيكون للمعصومين (عليهم السلام). وأما الأولياء فسيكونون هداة عاملين في العالم من الدرجة الثانية. وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.
وأوضح ما يرد على هذا الوجه هو أن روايات الأولياء، صريحة بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة تأويلاً باطلاً. كقوله: (ليملكن منا أهل البيت رجل) وقوله: (فإذا حضرته الوفاة، فليسلمها –يعني الإمامة، أو الخلافة- إلى ابنه أول المهديين) قوله: (اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده) ونحوه في الدعاء الآخر.
ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة مع جوابه.
وملخص الاستدلال:أنه ثبت في الفكر الإسلامي أن الأرض لا تخلو من حجة باستمرار ما دام للبشرية وجود، حتى لو كان اثنان كان أحدهما على صاحبه. ولكن الأرض بعد الأمام المهدي (عليه السلام) ستخلو من الحجة، ما لم نقل بالرجعة، ليرجع الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ليكونوا هم الحجج بعده، تطبيقاً لهذه القاعدة.
إلا أنه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك.
وملخص الجواب:إننا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة بل أن حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً، قال المجلسي لأن (وأوصياء الأنبياء و(أوصياء الأئمة حجج أيضاً) فالأرض تكون مشغولة بهم بصفتهم أصفياء للأئمة (عليهم السلام)، فلا تكون خالية من الحجة.
ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة، لا منافية مع حكم الأولياء الصالحين.
وأما تعليقنا على كلام الطبرسي، فهو أن ما ذكره من أن ما روي من قيام ولد المهدي (عليه السلام) بعده، لم يرد على القطع واليقين، أمر صحيح لأن الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين ليست متواترة. ولكننا سنرى أنها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام.
وأما ما ذكر من أنه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد، فهو أمر صحيح لأنه إن أريد بدولة القائم نظام حكمه، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية تقريباً أو تحقيقاً على ما سنسمع، وليس وراءه حكم آخر. وإن أريد به حكمه مادام في الحياة، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة، فهو أمر غير محتمل لأنه أمر تدل كثير من الروايات على نفيه، كروايات الرجعة وروايات الأولياء وروايات أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق وغير ذلك، بل تدل على ذلك بعض آيات القرآن كأية دابة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (عليه السلام) نفسه.
إذاً، فالبشرية ستبقى بعد المهدي (عليه السلام) والنظام سوف يستمر، وإنما يراد من ذلك القول: أنه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين على الشكل الذي كان قبل ظهوره.
وأما قوله: وأكثر الروايات أنه لمن يمضي من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوماً..
فهذه الروايات سنسمعها، ومؤداها أن الحجة سيرفع –أي يموت- قبل القيامة بأربعين يوماً. وسنرى أنه ليس المراد بالحجة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (عليه السلام) بدهر طويل.
وبعد هذه المناقشات، وقبل إعطاء وقبل إعطاء الفهم الكامل لحكم الأولياء الصاحين، لا بد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في الذهن: وهو أننا كيف استطعنا أن نعتبر روايات الأولياء كافية للإثبات التاريخي، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات، مع أنها أكثر عدداً وأغزر مادة وأوضح في أذهان العديدين.
وأما من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (عليه السلام) موكولاً إلى المعصومين (عليهم السلام) أو إلى الأولياء الصالحين.
ونحن حين نجد أن أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أن أخبار الأولياء قابلة للإثبات، كما سمعنا، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.
وبالرغم من أن مجرد ذلك كاف في السير البرهاني، إلا أننا نود أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.
إن نقطة القوة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة، هي أن أخبار الأولياء، ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنها ذات عشرة مداليل على الأقل، ليس لكل مدلول إلا عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبر واحد.
ومن هنا نقول لمن يفضل أخبار الرجعة: هل أنت تفضل أخباراً منها ذات مدلول معين، كرجوع الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً. أو تفضل تقديم مجموع أخبار الرجعة.
فإن رأيت تفضيل قسم معين من أخبار الرجعة، فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداَ من أخبار الأولياء، بل وأقل شهرة أيضاً، وكل قسم معين منها يصدق عليه ذلك.
بكل تأكيد، غير ما دل على رجوع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي سوف نشير إليه.
وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء، إذاً، فتصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول كما عرفنا، غير ذلك المدلول الإجمالي العام الذي برهنا على انطباقه على خروج دابة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم. وهو للرجعة، بل هو ليس من الرجعة في شيء. فإن مفهوم دابة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.
وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين ولا يعارض الأخبار الدالة عليه، وذلك لعدة أمور، نشير إلى أمرين منها:
الأمر الأول:أن خروج دابة الأرض غير محدد بتاريخ، لا في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.
الأمر الثاني:إن دابة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في الدولة العالمية العادلة، كما يستشعر من القرآن وتصرح به الأخبار، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل، فتعين منزلة كل فرد ودرجة فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه. ولعلنا نوضح ذلك فيما بعد.
وإذا تم ذلك، لم يكن خروج الدابة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم، لأن وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.
وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين، ينبغي لنا أن نقدم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه، ثم نعقبه بمناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد.
إن الإمام المهدي (عليه السلام) لن يهمل أمر الأئمة الباقية بعده، لا لمجرد أن لا تبقى رهن الانحلال والضياع، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحة، بل لأكثر من ذلك، وهو ما قلناه من أن إحدى الوظائف الرئيسية للمهدي (عجل الله فرجه الشريف) بعد ظهوره هو تأسيس القواعد العامة المركزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم. وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلا الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة، ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه ولعله يوليه التربية الخاصة التي تؤهله لهذه المهمة الجليلة. وأما احتمال تعيينه بالانتخاب فهو غير وارد.
ومن هنا سيقوم الإمام المهدي (عليه السلام) بتعيين ولي عهده أو خليفته، خلال حياته وربما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده والحاكم الأول لفترة (حكم الأولياء الصالحين).
وبالرغم من أن هذا الحاكم الأول قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده باعتبار أنه نتيجة تربية الإمام المهدي (عليه السلام) شخصياً والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه، بخلاف من يأتي بعده من الحاكمين. بالرغم من ذلك فإنه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (عليه السلام) نفسه، إلى حد يصدق (أنه لا خير في الحياة بعده).
والسر في ذلك –على ما يبدو- يعود إلى أمرين رئيسيين:
الأمر الأول:ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (عليه السلام) وخليفته، الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرفات بينهما.
الأمر الثاني:راجع إلى الأمة نفسها أو البشرية كلها بتعبير آخر من حيث أن المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل، إلا أنه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكل من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلفة عن الركب العام، لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون –مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (عليه السلام)- مواكبة للاتجاه العالمي العادل العام.
إذاً، فستكون التركة العالمية ثقيلة جداً، وتخلفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل، بعد ذهاب القائد الأعلى، محتملة جداً.. وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة الكلي مع الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً، وخاصة وأن الأمر الأول من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذ بكل وضوح.
نعم، لا شك أن الإمام المهدي (عليه السلام) قبل وفاته، قد أكد وشدد، بإعلانات علمية متكررة على ضرورة إطاعة خليفته وعلى ترسيخ (حكم الأولياء الصالحين) في الأذهان ترسيخاً عميقاً. إلا أن البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب، فإنها ستكون مظنة العصيان والتمرد في أكثر من مجال.
ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي (عليه السلام) بكل تفصيل. إن الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم، وستبقى تمارس التربية المركزة باستمرار، تماماً كما كانت عليه في عصر الإمام المهدي (عليه السلام)، أخذاً بالمنهج المهدوي العام.
وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية أو انتقالية، يوصل المجتمع العالمي إلى عصر العصمة، حيث يكون الرأي العام المتفق معصوماً، كما في تاريخ الغيبة الكبرى وعندئذ سترتفع الحاجة إلى (التعيين) في الرئاسة العامة، كما كان علي الحال خلال حكم الأولياء الصالحين، وستوكل الرئاسة إلى الانتخاب أو الشورى، حين يكون الأفراد كلهم من:
(الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون).
وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذ لا يمكن التعرف عليها الآن.
وببدء الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصوبين بالتعيين قد انتهى، ولكن الحكام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً، إلا أن هناك فرقاً بين أسلوب تربيته أساساً. أن الحاكم الذي سيتم تنصبيه عن طريق التعيين، يكون –بكل تأكيد- نتيجة لتربية خاصة مركزة من قبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصل للقواعد الموروثة من قبل الإمام المهدي (عليه السلام).
وأما الحاكم المنتخب، فهو لا يكون رأيه العام معصوماً، ومثل هذا المجتمع كما أن الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين ولذا أصبح رأيه العام معصوماًّ، لأن الرأي العام من الصالحين لا يكون إلا صالحاً. يحتوي –إلى جنب ذلك- على عدد يقل أو يكثر وصلوا إلى درجة علياً من العدالة والالتزام الصالح، قد نسميها بالعصمة.. أعني ما يسمى بلغة الفلاسفة المسلمين بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون مؤهلين لتولي الرئاسة العامة للدولة العالمية العادلة. ولن يكون بينهم وبين توليهم الفعلي إلا تجمع الأصوات في صالح أحدهم.
بقيت بعض الأسئلة والمناقشات، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا التسلسل الفكري، نعرضها على شكل سؤال وجواب:
السؤال الأول: ما هو عدد الأولياء الصالحين؟
هذا ما لا بد في تعيينه من الرجوع إلى الأخبار السابقة. قال الخبر الأول الذي نقلناه: (أن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً) وقال خبر آخر: (ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً).
وموقفنا من هذا الاختلاف، إننا إما أن نعتبر كلا الخبرين، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلاً، قابلاً للإثبات التاريخي، وإما أن نعتبرهما معاً غير قابلين له، أو يكون أحدهما قابلاً دون الآخر.
فإن لم يكونا قابلين للإثبات، هذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم الأولياء الصالحين، لاستفادتها من مجموع الأخبار.. إذاً، فسيصعب الجواب على هذا السؤال، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلاً، تبعاً للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسس هذا الحكم بعده. وميزانه –كما عرفنا- تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً. ولا يبقى العدد مهماً إلى درجة عالية.
نعم، قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) اثني عشر. غير أن هذا بمجرده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.
وإن كان أحد الخبرين قابلاً للإثبات دون الآخر، أخذ بمدلوله دون الآخر، ويمكننا بدوياً أن نقول: (أن الخبر القائل بعدد الاثني عشر أصح وأثبت، فيؤخذ به ويبقى الآخر غير قابل للإثبات.
وأما إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات، فيمكن الجمع بينهما، برفع اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر ولياً، عن ظهوره بالحصر والضبط، بقرينة الخبر الآخر القائل بالاثني عشر، وتكون النتيجة هو الالتزام بالاثني عشر بطبيعة الحال.
وبذلك يظهر أن الرقم الاثني عشر راجح على كل التقادير، وإن كان يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً. وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلماً لتسهيل الفكرة على أٌقل تقدير.
السؤال الثاني: كم مدة حكم الأولياء الصالحين بالسنين؟
إذا كان عدد الأولياء الحاكمين اثني عشر، وهم يتلون الرئاسة في عمر اعتيادي بطبيعة الحال. غير أن معدل العمر الاعتيادي، في دولة العدل الكامل في مجتمع السعادة والأخوة والرفاه، لن يكن هو الستين أو السبعين، بل هو المائة على أقل تقدير. ومن هنا يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها، وهو على كرسي الرئاسة. فإذا كان معدل بقاء الفرد منهم ستين عاماً، كان مجموع مدة حكم الأولياء الصالحين سبعمائة وعشرين عاماً. وهي مدة كافية جداً لتربية البشرية تربية مركزة دائبة ودقيقة، وإيصالها إلى مجتمع العصمة.
السؤال الثالث: كيف يعرف المجتمع بدء صفة العصمة؟
ومعرفته بذلك يعني عدة نتائج أهمها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء الصالحين وبدء حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى. ولمعرفة المجتمع بذلك عدة أطروحات محتملة:
الأطروحة الأولى:في غاية البساطة، وهي أن المجتمع عرف بوصية المهدي (عليه السلام) نفسه عدد الأولياء الصالحين سيمارسون الحكم فيه، ككونهم اثني عشر فرداً –مثلاُ- فإذا تم العدد، كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ. إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة قد فشلت في مهامها التربوية.
الأطروحة الثانية:لو فرضنا أن عدد الأولياء كان مجهولاً، وهو أمر بعيد عن أي حال. فمن المحتمل أن تكون هناك وصية خاصة بالأولياء أنفسهم موروثة من الإمام المهدي (عليه السلام) تقول: في عام كذا إذا مات الولي الحاكم يومئذ، فعليه أن لا يوصي إلى شخص بعده، بل ينتقل الأمر إلى الشورى. وقد يكون في ضمن الوصية تعليل ذلك بأن مجتمع العصمة قد بدأ.
الأطروحة الثالثة:أن تكون هناك وصية خاصة بالأولياء موروثة عن الإمام المهدي (عليه السلام) تحدد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات اجتماعية معينة، تعود إما إلى وقائع تاريخية أو إلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية، الذي سيكون عليه في المستقبل، أو إلى غير ذلك.
وهذه الأطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين معيناً سلفاً.
الأطروحة الرابعة:أن هؤلاء الأولياء الصالحين، هل هم مفترقون من حيث النسب، أو أنهم متسلسلون في النسب إلى الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه. أو أنهم على شكل آخر.
وينبغي أن نفهم سلفاً أنه لا أهمية كبيرة في الجواب على هذا السؤال إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة، دون قضية النسب.
نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك. قال أحدها: (إن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً). والمفهوم من قوله منا أنهم من نسل أهل البيت (عليهم السلام) إجمالاً. وقال الخبر الآخر:
(فليسلمها إلى ابنه أول المهديين) وهو دال على أن الولي الأول ابن المهدي (عليه السلام) نفسه.ولم يذكر الأولياء الذين بعده.ويقول أحد الأدعية التي سمعناها: (وولاة عهدك والأئمة من ولدك). فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلة، لفهمنا أن هؤلاء الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت (عليهم السلام) ولا يراد بأهل البيت في لغة الأخبار إلا الأئمة المعصومين (عليهم السلام). وحيث لا يحتمل أن يكونوا من نسل إمام آخر غير المهدي (عليه السلام) باعتبار بعد المسافة الزمنية، إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي (عليه السلام) إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه. وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار ولا تنفيه الأخبار الأخرى.
يبقى لدينا هل أنهم متسلسلون في النسب أحدهم ابن الآخر، أو أنهم متفرقون من هذه الجهة، وان انتسبوا إلى المهدي (عليه السلام) في النهاية.
وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء، لكن هناك فكرة عامة صالحة للقرينية على التسلسل النسبي. وهي ما نسميه بتسلسل الولاية. فإن كل ولي في ذلك العهد المرحلي السابق على صفة العصمة يحتاج إلى إعداد خاصة وتربية معنية، قبل أن يتولى الحكم.
ومن الصحيح أن المجتمع ككل وخاصة إذا كان صالحاً وعادلاً يمكنه أن يربي الحاكم أفضل تربية، إلا أن هناك عدداً من الحقائق والأساليب والقوانين الاجتماعية وغيرها، تكون خاصة بالحاكم عادة ولا يعرفها غيره على الإطلاق، وهي موروثة وراثة خاصة عن الإمام المهدي (عليه السلام). وهي في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد إلى مدة وجهود من قبل الحاكم السابق، الأمر الذي لا يتوفر عادة بين الوالد وولده، ومن الصعب جداً توفره بين أبناء الأعمام مثلاً.
ومعه، فمن المظنون جداً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً، من أجل الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم.
السؤال الخامس: هل المنطلق إلى فكرة (حكم الأولياء الصالحين) بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هو الفهم الإمامي للمهدي (عليه السلام) أو ينسجم مع الفهم الآخر.
كلا. إن حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه، ينسجم تماماً مع الفهم الآخر الذي يقول: (أن المهدي رجل يولد في حينه فيملأً الأرض قسطاً وعدلاً. ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي (عليه السلام) قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما هو واضح.
غير أن فكرة حكم الأولياء الصالحين، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار العامة أنفسهم. ولم نجد في حدود تتبعنا أي إشارة في تلك المصادر إلى دولة ما بعد المهدي (عليه السلام) مهما كانت صفتها. ويبقى مفكرو العامة بعد ذلك مخيرين بالالتزام بهذه الأطروحة.
السؤال السادس: ماذا –بعد ذلك- عن احتمال العصيان والتمرد خلال حكم الأولياء الصالحين؟
لا شك أن هذا الاحتمال يتضاءل تدريجياً، بالتربية المركزة التي تمارسها الدولة باتجاه العدالة والكمال. حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة، ولو بأول أشكالها، ارتفع احتمال التمرد والعصيان ارتفاعاً قطعياً، لبرهان بسيط هو منافاة العصمة مع العصيان. ولا اقل من أن تكون الأكثرية الساحقة للبشرية كذلك، بحيث من الصعب أن يفكر أحد في حركة تمرد أو بث دعاية باطلة.
وإنما يقع التساؤل عن الفترات الأولى لحكم الأولياء الصالحين، هل هي خالية عن التمرد و العصيان، أو يحصل ذلك فيها كثيراً، أو يحصل قليلاً؟
لا شك أن لنظام حكم الأولياء الصالحين، عدة ضمانات ضد مثل هذا الاحتمال، يمكننا أن نعترف على بعضها، بحسب مستوانا الذهني المعاصر:
الضمان الأول:السعادة والرفاه والأخوة والتناصف بين الناس هذا الذي أسمه ونشرة الإمام المهدي نفسه، الأمر الذي يجعل الفرد ومن ثم الجماعات تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه، مما يحدو بالأعم الأغلب جداً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرد أو عصيان يفهمون به، وفضحه ولوم صاحبه لوماً شديداً.
الضمان الثاني:القواعد والأسس الخاصة التي علمها المهدي (عليه السلام) نفسه لخلفائه، مما يمت إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ وأفضل الطرق في التصرف به ودفع شروره، وجلب مصالحه. الأمر الذي كان هو (عليه السلام)، أكثر الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله.
ومن أجل فوائد علمه بذلك، تزريقه إلى خلفائه الصالحين، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة، ويدفعوا عنها الشرور بأيسر طريق.
الضمان الثالث:عالمية الدول العادلة. فإن لهذا العصر جهتين من الضمان:
الجهة الأولى:الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم بصفتها تمارس حكماً مركزياً مهماً لم تمارسه أي دولة أخرى في التاريخ.
الجهة الثانية:سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا يستثني من ذلك شيء، ولها الطرق المعتقدة للحد من التهريب والختل والخداع ونحو ذلك.
فهذه الضمانات وغيرها، تنتج في هذا الصدد، نتيجتين مهمتين:
النتيجة الأولى:أنها تقف ضد احتمال كثرة التمرد والعصيان، بشكل يعيث عن تطبيق المنهج التربوي العام. إذ مع وجودها سيقل من يفكر من البشر بالحركات العصيانية.
النتيجة الثانية:أنها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرد والعصيان من القلائل الذين قد يفكرون بذلك، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة ستستطيع أن تقضي على كل حركة.
السؤال السابع: هل لدابة الأرض خلال هذا العهد، وظيفة معينة؟
لما كانت الوظيفة الرئيسية لدابة الأرض، كما يستفاد من الأخبار، هي تمييز الكافر من المؤمن والمنحرف من الملتزم، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل منهم علانية؛ فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور، المتطور نحو المجتمع المعصوم الخالي من الكفار والمنحرفين.. فهو لا يمكن أن ينجز إلا في إحدى فترتين:
الفترة الأولى:فترة ما بعد المهدي (عليه السلام) مباشرة، حيث تعيش الدولة العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها، بعد فقد قائدها الأعظم (عليه السلام).
فإن من الصحيح، كما عرفنا، أن الإمام المهدي (عليه السلام) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية، إلا أن هناك جزءاً من البشر، مهما كان قليلاً، قد سلم لدولة المهدي خوفاً أو طمعاً، لا عن إخلاص حقيقي، فمن المحتمل جداً أن تتحرك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة أو على بعض أجزائها على الأقل.
والضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال، غير أنه من المحتمل أن تخرج دابة الأرض، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة، باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرد وعصيان.
الفترة الثانية:الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة، وهي فترة سنبحث عن صحة وجودها في الفصل القادم. غير أنه – على تقدير صحتها - سيتصف المجتمع العالمي خلالها بالكفر والانحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر صفات العصمة والعدالة.
وعلى أي حال، فحيث نعلم من القرآن الكريم، بضرورة خروج دابة الأرض، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم لعدم انسجام وظيفتها معه كما أنه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور.. إذاً بتعيين وجودها في إحدى الفترتين المشار إليهما. وأما إذا عرفنا في الفصل الآتي، عدم وجود الدليل على انحراف المجتمع بعد اتصافه بالعصمة، إذاً ينحصر خروج دابة الأرض بعد وفاة المهدي (عليه السلام) مباشرة، لتقوم بوظيفتها الكاملة.
وبذلك يكون(سيف) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد وطد الإسلام في (آخر الزمان) كما وطده في عصر الرسالة وصدر الإسلام.
وبهذه الأسئلة السبعة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء الصالحين وما بعدها.