من الدولة الإسلامية إلى سيادة الدولة الغربية
«دولة المسلمين» الجزء الأول - الإشكالية
الدكتور عبد الستار بوحسن
الإشكالية - مقدمة
تساؤلات الايدولوجيا
ما هي حدود الحرية؟
وما هي حقوق الشعوب وما هي حدود سلطات الحاكم وهل الديمقراطية والانتخابات هي فعلا الطريقة المثلى لبناء وممارسة السلطة في الدول العربية وهل تكون الفوضى هي البديل الحتمي والوحيد للحكم القمعي الاستبدادي والاستئثار بالسلطة وعلى من يكون المعول في التغيير ومن يمثل قيادته؟
وهل الرغبة في التغيير تستحق التضحيات الكبرى التي يجب دفعها ثمنا له أم أن ذلك تهور بل جنون.
وهل الشكل الوحيد المناسب للحكم في دولنا العربية هو الحكم الجبري المصحوب بالعنف وهل الشعوب العربية لم تبلغ درجة النضج الذي يؤهلها للوصول لمرحلة الديمقراطية والدولة الحديثة وامتلاك حق تقرير مصيرها بيدها.
ونحن كعرب نتميز بخصوصية عن باقي الدول والبشر ينبغي علينا مراعاتها بدلا من الاندفاع للتغيير الذي يقفز على هذه الخصوصية «على افتراض وجودها في الأصل جدلاً»
وهل التعايش مع الاستبداد هو أهون الشرين فعلينا تحمله خوفا من قدوم الأسوء الذي يلوح لنا بجلاء ولا نحتاج الى تحاليل سياسية عميقة لمعرفة مقدار سوء البديل للاستبداد الحالي الجاثم على الدول العربية.
وهل الشعوب العربية تبقى راضية على المستوى العام عن حكامها حتى لو تخلل ذلك كثير من التذمر والشكوى والذي هو طبيعة بشرية لا تخلو منها أكثر الدول رفاهية وتقدما وغنا وحضارة.
وهل الاصلاح الاقتصادي الذي يمس المواطن في لقمة عيشهم له الأولوية.
بل هل الاصلاح الثقافي واعادة التأسيس المعرفي وتعديل أنماط السلوك المتخلفة التي تسود مجتمعاتنا العربية هي الأهم وهي المقدمة لأي اصلاح سياسي وبدونه يصبح الاصلاح السياسي بلا قيمة أو جدوى بل يصبح مثل الدوران على النفس دون التحرك للأمام لأن التخلف الثقافي والمعرفي والسلوكي سيعيد انتاج التخلف السياسي فورا وبشكل متكرر فما الاصلاح السياسي الا ثمرة ونتيجة تلقائية ومنطقية للاصلاح الثقافي.
هل الانظمة العربية أكثر تقدمية من شعوبها وهل مشكلتنا نحن كشعوب عربية أننا لا نقرأ أم أن المشكلة أننا لا نحترم الوقت أم وأم الكثير من أنماط سلوكنا المتخلف.
وهل ثقافتنا بما تحمل من تراكم رجعي وتاريخنا بما يحمل من قمع ودموية هو ارث يساهم بشكل فعلي واساسي في اعاقة تقدمنا وتطورنا ولا يمكننا التخلص منه طبعا باعتباره جزء من هويتنا وهل يملك الانسان أن ينسخ هويته حتى لو حاول وحاول.
وهل بيئتنا الجغرافية والثقافية تصعب التراكم الحضاري اللازم لأي بناء سياسي للدولة كما هو الحال في باقي دول العالم الأخرى.
وهل التقسيمات القطرية التي خلقها المستعمر وأصبحت قدرنا ولدت لنا من المشاكل المستعصية كالخلافات الحدودية المزمنة وعدم مراعاة التقسيم العادل للثروة بين الدول مما أنتج دول صغيرة مجهرية بغنى فاحش وثروات فاضت الى أن ملأت المصارف الغربية ودول مكتظة يقتلها الفقر والحاجة وغيرها الكثير من المشاكل التي خلفها لنا المستعمر بعد رحيله، ما يصعب علينا أي مهمة لتطوير بلداننا.
وهل وجود دولة اسرائيل فرض علينا معركة وجودية مما يتطلب منا حالة من التأهب والتعبئة الأزلية وجعل أي حديث عن ديمقراطية هو حديث ترف وأقل ما يقال عنه ان منطق الاولويات يؤخره الى أجل غير مسمى.
و هل عاداتنا وتقاليدنا هي من الجمود بحيث تصعب المهمة علينا كثيرا وهل العشائرية والقبلية والعنصرية والمذهبية والطائفية والعنصرية والمناطقية والقطرية والتحزبات السياسية والفكرية وانقساماتنا الحادة واللامتناهية تمنع بشكل طبيعي من قيام دولة موحدة وقوية على النمط الغربي يمتلك فيها الشعب قراره وشؤون حكمه وحق تقرير مصيره وتصبح الدولة الغربية هي اسرع وصفة للتمزق والحروب الاهلية والتشظي والتقسيم والتوترات.
ثم لو كانت هناك ثورة فحتما سيكون العنف هو بطلها بلا منازع وسيجتاح الشوارع والازقة في معارك طاحنة لا تنتهي بين قوى العهد القديم وحملة شعلة التغيير تفتت البلدان ويجهز على النزر اليسير الذي يعتاش عليه الناس وقد تحقق خلال سنوات طويلة عجاف.
هل نحن بحاجة الى كل تلك الثورات والفورات التي جربتها كثير من الدول غيرنا كالثورة الشيوعية في روسيا مثلا وارتدت على أهلها بأفدح الخسائر ولم تزد شعبها الا بؤسا وخيبة وديكتاتوريات افضع من سابقاتها واكتشف الناس ولكن متأخرين للأسف أن كل تلك المبادئ التي رفعوها وضحوا لأجلها بالارواح واطراف الجسد لم تكن في احسن حالاتها سوى شعارات رومنسية فارغة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع ان لم تكن اقنعة وخطط تمويهية لسلب وظلم الناس بشكل أفظع وأنذل.
ثم وفي كل الاحوال هل ستتركنا الدول الكبرى وبالخصوص امريكا نمشي في المسار الذي نختطه لانفسنا أم ستتآمر لافشال أي مسعا لنا تجاه تحصيل حقوقنا وان فشلت في ذلك فحتما سوف تترصد مجريات الاحداث وسوف تتدخل في الوقت المناسب لاختطاف اي انجاز لنا ولا بد أن تجد لها وكيلا آخر يحفظ لها مصالحها على حساب الشعب. فما الداعي اذن لكل تلك التضحيات من أصلها.
كل تلك الاسئلة لم يتضمنها هذا الطرح من باب اثارة العصف الذهني بل كانت أسئلة العرب التي ظلوا يتداولونها ويشنقونها ويسحلونها ليل نهار لعشرات السنين ابتداءا من لحظات الاستقلال الاولى وجلاء المستعمر وصولا لاشتعال أحداث الربيع العربي.
والنتيجة كانت أنه لم تحسم تلك النقاشات ولم يجب عليها الاجابات الشافية بل كثيرا ما كانت تخضع للاجابات الموسمية فقد تختلف الاجابات حسب كثير من المتغيرات. ولم يكن ذلك لقلة المثقفين والمفكرين المهتمين بالاجابة عليها او كسلهم.
كل تلك الاسئلة كانت تتمنع على أكثر العقول صفاءا واشراقا لانها تنتظر عربة البوعزيزي كي يحضر لها الاجابات ولحظة الحسم التاريخية الكبرى. لقد ولى عصر الاسئلة فمرحبا بعصر الاجابات. لقد أتت الاجابات لانها لم تكن تحتاج الى نظريات أو أفكار وفلسفات بقدر ما كانت بحاجة الى حسم يأتي من معترك الواقع وميدان التجربة. وذلك منطقي جدا فالتنبؤ في أي مجال للنشاط البشري ليس تحكمه حسابات رياضية ولا أشكالا هندسية يمكن القطع مسبقا بحاصلها بل يشبه الى حد كبير رمي أحجار النرد يخطأ كثيراً ويصيب نادراً جداً وفي كل الاحوال لا يمكن معرفة النتيجة الا على طاولة اللعب وبعد ممارسة الرمي. يخطأ كثيرا من يظن أن الربيع العربي مجرد تغيير سياسي.
بوعزيزي قال لا لبن علي وأجاب بلا في جميع الاسئلة الآنفة الذكر وقال نعم للشعب وصدق أبي القاسم الشابي واستجاب القدر.
الدولة الحديثة
تتسم الدولة الحديثة بأنها تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية. للاختصار والتبسيط وهي أولا الديمقراطية كشكل من أشكال تنظيم السلطة والتوفيق بين القوى السياسية المختلفة من سلطة ومعارضة واستقلال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وغير ذلك من اجراءات من انتخابات وأحزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني ودستور وثانيا الليبرالية بمفهومها العام والذي أبرز ما تتضمنه الحريات الأربع والعنصر الثالث هو حقوق الانسان بمفهومها العام ولقد نتج عن ذلك انهاء الصراع على السلطة واحلال التنافس السياسي ضمن لعبة متفق عليها تحكمها انظمة وقوانين وضوابط واضحة وفعالة.
لا بد من ادراك أن الدولة الحديثة كما غيرها من مظاهر الحضارة الحديثة كاملة هي نتاج وثمرة جهود الانسان من جميع الحضارات من بابلية وسومرية ومصرية قديمة وفارسية وهندية ويونانية وصينية وصولا الى الحضارة العربية الاسلامية وانتهاءا بالحضارة الاوربية الحديثة. فالحضارة الحديثة وان كانت اوربية وغربية المنجز والتكامل الا أن لها جذورا عميقة في عدد لا يحصى من الحضارات التي توجت تجربة وسعي الانسان للتطور وتحسين شروط حياته. أي بامكاننا القول أننا نعيش النسخة الأحدث من الحضارة البشرية. وهذا يفترض أن يكون كلاما مكرورا وغير ذي جدوى ولكن لا بد من اعادته في كل مرة لوجود من يحمل حساسية مفرطة تجاه نتاج الغرب الحضاري فمقبول أن تكون هناك حساسية تجاه الغرب الاستعماري ولكن النتاج الحضاري هو ملك لكل البشر مهما كان مصدره ومنبعه.
الاشكالية: بين الدولة الاسلامية والدولة المدنية
معركة الايديولوجيا في حلبة السياسة
في السابق كانت هناك ممانعة لشكل الدولة الحديثة بناءا على افتراض نظري مفاده وجود تعارض تكويني بين هذه الدولة والاسلام من حيث أحكامه وتشريعاته وهو بالطبع افتراض غير واقعي، مما أدى الى نشوء معركة وهمية بناءا على هذا الافتراض، وهي معركة لم يكن يفترض أن تنشأ بالاساس. وكانت صورتها على شكل توترات ايديولوجية تغذي وتنفخ في المعارك والاحترابات السياسية «و التي هي مصلحية بالاساس» في مختلف الدول العربية والاسلامية. فقد انقسمت اما الى سلطة تنحاز للدولة الحديثة وبين معارضة اسلامية في الغالب لا ترى شرعية لهذه الدول وترى أنها انحراف عن تعاليم الدين واستحداث شريعة جديدة مخالفة لشريعة الدين والقرآن والمقدس، فأصبح هنالك حراك ايديولوجي لا سياسي. كانت هناك بالمقابل حالات معكوسة في الدول التي تتبنى الطرح الاسلامي حيث ينظر لدعاة الدولة المدنية الحديثة على أنهم هراطقة وزنادقة أو عملاء لدول أجنبية أو مغسولي الدماغ من قبل الاعلام الاجنبي.
الثقافة السياسية الدينية كانت عامل مؤثر في تأخر تبني الدولة الحديثة حيث وجدت حالة من الممانعة للتحديث السياسي، وهي كانت اما مساعدة في هذا التأخر كالسودان مثلا، او كانت حاسمة وفاعلة بشكل كامل وفارض يستبعد ويقطع مع أي شكل من أشكال الدولة الحديثة كما هو الحال في انموذج طالبان بأفغانستان. ليس فقط ذلك بل حتى نشوء الدولة العلمانية المعادي للدين في تركيا أتاتورك وتونس أبورقيبة كان ينبني على نفس الاساس وهو وجود هذا التعارض بين الدولة الحديثة والدين وبالتالي تم اختيار الدولة الحديثة هذه المرة، وقد كانت النظرة هي الاختيار بين التقدم والرجعية واتخذ التعامل مع كل ما يمت للدين طابع الحدية وبالتالي فان تاثير الربيع العربي من المرجح أن يتسع ليشمل الدول العلمانية أيضا ويدفع باتجاه تخفيف وتليين العلمانيات المتطرفة.
منتج غربي
حينما نرفض انموذج الدولة الغربية الحديثة باعتبارها منتجا غربيا فاننا نقع في مفارقة كبيرة وهي أن جميع مناحي الحياة العصرية هي منتجات غربية بالكامل من أكبر الامور الى أدقها وذلك مثل أنظمة المرور والطيران وأنظمة المدارس والجامعات والمعاملات الحكومية والمنشئات الطبية والعسكرية من بنائها الى أنظمتها وطريقة عملها والبنوك والشوارع والرياضة وجميع التفاصيل الحياتية هي اختراع غربي أو غربية المنجز فأين نهرب من دعوى رفض الأخذ من الغرب. و قد استفادت بعض الادبيات الديكتاتورية من هذه الدعوى لترسيخ سلطتها وسيطرتها ووأد أي مسعى باتجاه التطوير السياسي، فيما هذه الانظمة الديكتاتورية تستفيد من الدول الغربية في سجونها وقمعها وتجسسها وأسلحتها، فحلال للديكتاتورية والاستبداد الاستفادة من جميع منتجات الغرب لقمع الشعوب وحرام على هذه الشعوب بدورها الاستفادة من مظاهر الحياة الغربية للمطالبة بحقوقها وممارسة حرياتها!!.
التاريخ والتراث سبب التخلف
- كانت هناك اشكالية كبيرة حين تم الربط بين التخلف السياسي العربي وبين التراث وهذا ما ذهب له المفكر محمد جابر الانصاري في كثير من اطروحاته وكتبه وغيره كثيرون من المفكرين مما كان يشكل شبه حالة اجماع بين المثقفين «هذا لا يعفي اصحاب التفكير الرجعي من غير المثقفين الذين يرون الخلاص كل الخلاص بالرجوع للتراث بكل تفاصيله». من الواضح أن ذلك ليس بالطرح الواقعي فلو لم تكن هناك اشكاليات حديثة متصلة بالواقع المعاصر وليس بالتراث لما استمر ذلك الواقع المريض. فجميع الدول الديمقراطية الراسخة تحمل تراثات لا تقل سوءا عنا ان لم تزد «مثلا قلما تجد أثرا للمذابح الجماعية بحق المدنيين في التراث العربي والاسلامي». ان لب المشكله والقضية ليست في أحداث ووقائع حصلت في الماضي السحيق بل في مشاكل حية نابضة لها القدرة على عرقلة التطور وصده. وبالاضافة الى ذلك فان هذا الربط ليس فقط ليس واعيا بل انه يقلل ويشكك في أي محاولة لاصلاح الواقع المعاش حيث ينحو باللوم على تاريخ لم نملك الخيار في صنعه ولا يمكننا بحال تغييره أو التنصل منه، وبالتالي فانها علة صعب الفكاك منها ولا يمكن حلها. ببساطة يخدم هذا الطرح استمرار الاستبداد وتسويغه باعتباره مرضاً وراثياً ولد معنا ولا بد من التعايش معه على كل حال.
لقد تنبه بعض المفكرون العرب لاحقاً للخلل الموجود في هذا الطرح وكان تشخيصهم حاسما بأن الاشكالية تنبع من الواقع السياسي «سيطرة نظم الاستبداد» وليس في الثقافة «التي تشمل التراث والعادات والتقاليد والدين والتعليم وأساليب التربية وغيرها». وبالتالي فان الحل يتجه لمحاولات تغيير ذلك الواقع واصلاحه وليس نعي ثقافتنا والتحسر على تراثنا. وهذا الطرح موفق جداً وأتى ليحسم حالة من التخدير العام التي لطالما روج لها كثير من المثقفون. والأدلة كثيرة على ذلك، فالهند وبعض الدول الافريقية والتي كانت ولازالت قطاعات كبيرة من شعوبها لا تعرف أي مظهر من مظاهر الحضارة تعيش قدراً مقبولاً من الديمقراطية والتعددية السياسية بمختلف تمظهراتها.
ان الاحداث التاريخية تمتلك كل الدول منها كما نمتلك بل وربما أسوأ من حروب وقهر وتعذيب وغيره لكننا نجدها تجاوزت كل ذلك وبنت دولها الحديثة ولذلك تفتقر الكتابات التي تحيل أسباب التخلف الى حقب تاريخية سابقة الى الدقة فالبشر مهما بلغ بهم التأثر بالتاريخ فانهم لايزالون يعيشون حاضرهم وليس التاريخ، والأحداث المعاصرة تلعب أكبر الأثر في تكوينهم ووعيهم، وبالتالي اذا كان واقعهم متخلفاً فهو الملام وليس التاريخ.
الغيب حين يكون عصا العجلة
طبعا لا يمكننا أن نبرأ العوامل الثقافية بشكل كامل فقد وفرت الأدوات التي استقوى بها الاستبداد لإطالة عمره. حيث تم تعطيل أي جهد بشري بادعاء تعارضه مع الدين «الغيب» وانعكاسات ذلك على مجمل المجالات وافتراض تعارض أي ابداع بشري مع الدين حيث أن النص الديني وكل ما اتصل به من تفاسير واجتهادات بشرية وما ربط به قسرا مما ليس منه كالعادات والتقاليد والاساطير والقصص الشعبية يتم تأطير كل ذلك في بوتقة واحدة ويطلق عليها الدين والذي شمل كل شيء ولا ينقصه شيء وبالتالي يعم الركود الفكري والعلمي بل كثيرا ما تواجه ردود الفعل العدوانية أي جهد للتطوير في اي مجال من مجالات الابداع الانساني. طبعا ذلك أنجع وأسرع وصفة للتخلف والتراجع الحضاري الشامل بما في ذلك وفي مقدمة ذلك شؤون السياسة والحكم.
أيضا فيما يتصل بدور العامل الثقافي فان هناك عامل ثقافي موجود وهو كون الاسلام أكثر الديانات شمولا حيث توجد من ضمن أحكامه ما يدخل في حيز السياسة والاجتماع القانون والحقوق والعقوبات والمعاملات المالية وغيرها من المجالات التي لم تتطرق أو تتوسع فيها الأديان الأخرى وأدى ذلك الى نشوء تصور أن الدولة شيء منجز من النص وبالتالي لا يحتاج لأي جهد بشري اضافي وخلق حالة من الحساسية تجاه أي تنظيمات وقوانين وضعية. فتبني شكل من أشكال الدول الحديثة كان أصعب على المسلمين أو بالأحرى يحتاج لفترة من الزمن حتى يتم هذا الشكل الجديد وفحصه وازالة ما يبدو منه التعارض مع التعاليم والقيم الاسلامية وذلك ما يستدعي حالة من الجدل والعصف الفكري والثقافي في حجم ثورة فكرية شاملة. على كل حال، كان لابد من الاعتماد على الجهد البشري في التنظيم والتقنين وأنظمة المرور أنصع مثال على ذلك.
و لسنا هنا في معرض نقاش فلسفة الديمقراطية ولكن اطلالة سريعة على بعض الافكار التي طرحت نتيجة التردد تجاه التسليم بالديمقراطية والدولة الحديثة باعتبارها النموذج الامثل للدولة. حيث أن بعض مفكري التيار الديني أقر بقبول ونجاعة الديمقراطية كعملية اجرائية وكوسيلة وتحفظ على فلسفتها باعتبار أن الديمقراطية تبتني على أن الشعب هو مصدر السلطات فيما الدولة الاسلامية تقوم فلسفتها على أن الله هو مصدر السلطات. ولكن ينشأ تساؤل هنا، فمن يمثل الله ومن يتحدث باسمه بعد ختام النبوات، أليس هم المسلمون بشكل عام وألم يستخلف الله الانسان على هذه الدنيا، وقد أدى ذلك الى ظهور طبقة تدعي تمثيلها الحصري لله مما نتج في بعض الأحيان عن تكوين تنظيم كهنوتي يقصي باقي المجتمع ويدعي امتلاكة للختم والتوقيع الالهي وتصدر الفرمانات على هذا الاساس. مرة أخرى ان افتراض أن فلسفة الديمقراطية القائمة على أن الشعب مصدر السلطات، تخالف الدين هو افتراض لا أساس له، كون الشعب سوف يستخدم سلطته بالطريقة والاسلوب الذي يمليه عليه هويته ومعتقداته وثقافته والتي هي الاسلام في الدول الاسلامية.
اليساريون والدولة الحديثة
في النصف الثاني من القرن المنصرم كان الفكر الاشتراكي والشيوعي واليسار بشكل عام أكثر جاذبية وسحرا للطبقة المثقفة والنشطاء السياسيين «من غير التيارات الدينية الحركية التي كانت ضعيفة سياسياً على كل حال حتى آخر عقدين حينما انتعشت مع تراجع اليسار». بل حتى التيارات القومية والناصرية فيما بعد وجدت نفسها منحازة أكثر الى جهة اليسار. ولذلك ظلت الدولة الحديثة بشكلها المنجز في الغرب لا تمثل الانموذج للدولة المبتغاة في نظر وتصور هؤلاء المثقفين والذين كانوا يمثلون الثقل الأكبر من خارج السلطة في توجيه الرأي العام والوعي الشعبي بعد علماء الدين. وهو ماتمثل بنشوء الكثير من التنظيمات والاحزاب اليسارية بمختلف المسميات وبدرجة مختلفة من التطرف او التسالم مع الواقع السائد، بل كان هناك نوع من النفور من بعض أبرز قيم ومبادئ الدولة الحديثة. وشكل هذا الميول عند المثقفين كابحاً آخراً لعجلة التطور والنضج السياسي تجاه الدولة الحديثة.
ما ساعد على ذلك أن الدول العربية كانت تعيش حالة من الهزيمة الشاملة في قبالة الدول الغربية. وحينما تنظر لدولة الاتحاد السوفيتي والتي استطاعت مواجهة الغرب والوقوف كند ومنافس، فان ذلك يقلل من بشاعة الديكتاتورية التي كانت سائدة في المعسكر الشرقي السابق وأدى لنشوء جاذبية للفكر اليساري من شيوعي واشتراكي جذب كثيرا من المثقفين العرب والحركات السياسية العربية. بدا الاتحاد السوفيتي كدولة متطورة بل فائقة القوة والتطور انموذجا ممكنا لتحقيق القوة والتطور للدول العربية وادخالها لعصر الصناعة مما أدى لاهمال المنافع الظاهرة للنموذج الديمقراطي وما يوفره من مكاسب ويكفله من حقوق وحريات.
لقد كان الاتحاد السوفيتي السابق في موقف افضل كثيرا تجاه العرب كما يتبدى من عدم ممانعته لبيع الاسلحة لهم وتزويدهم بالخبراء والقروض او حتى التعاون في مجال التصنيع العسكري والذي كان في نظر الغرب من الموبقات التي لا يتصور اقدام أي من الدول الغربية عليها. فيما بعد ومع أفول نجم الاشتراكية وتصدع المعسكر الشرقي وتساقطه أحجاره عاد المثقفون اليساريون وأدركوا أهمية الديمقراطية والدولة الحديثة والتي كانوا ينظرون ضدها باعتبارها ترف لا يليق بقضايا الأمة وبالتعئبة اللازمة لمواجهة الامبريالية وقوى الرأسمالية، وليكتب عبدالرحمن منيف كتابا كاملا ويسميه الديمقراطية أولاً.. الديمقراطية دائماً.
عوامل معاصرة
على كل حال فان ما سبق من ذكر لدور العامل الديني والثقافي وانتعاش التيارات اليسارية لم تكن الا عوامل مساعدة في قبالة عاملين أساسيين معاصرين تطرحهما هذه الورقة. العاملين الرئيسيين الذين أثرا بالسلب على التطور والنضوج السياسي في الدول العربية هما اكتشاف الموارد الطبيعية في أراضيها والصراع العربي الاسرائيلي.
وجود وتركز الثروات الطبيعية وأهمها النفط والغاز، والذي هو وقود العالم وبدونه تنطفئ الدنيا، في الدول العربية وبعض الدول الاسلامية الأخرى مما جعلها منطقة صراع على النفوذ وهدفا لتنافس الدول الكبرى وما جره ذلك من تبني ورعاية بعض الأنظمة الديكتاتورية الحليفة ومقاومة الديمقراطية خوفا من أن تأتي الديمقراطية بنوع آخر من السلطة يكون خصما او محايدا على أقل تقدير وهو ما يشكل خسارة فادحة لهذه القوى الكبرى وتغذية الحروب ضد الخصوم وما يجره ذلك من دمار وتأخر لجميع الدول المتحاربة الغالب والمغلوب منها على السواء. هذا فيما يتعلق بالعامل الخارجي أما فيما يتعلق بالداخل فقد أدى الى نشوء الدولة الريعية التي تمتلك السلطة فيها قوى هائلة نتيجة المداخيل العالية التي تصب في جيب السلطة مباشرة، كما تكون هي رب العمل الذي يتحكم بأرزاق الناس وليس هناك على السلطة أي قيود كبيرة لا على شكل قيود مالية باعتبارها مستغنية عن الضرائب ولا قيود في القوة البشرية حيث سهولة استقدام العمالة الأجنبية كبديل عن الوطنية وبالتالي تقل خيارات الضغط على السلطة.
أيضاً، وجود الكيان الاسرائيلي في قلب هذه المنطقة وتشكيله خطرا مزمنا يتهدد حدود هذه الدول ونتج ليس فقط عن احتلال فلسطين بل عن تهديده للدول العربية الاخرى ومهاجمتها بل واحتلال أجزاء من أراضيها من آن لآخر وغزو واحتلال كامل لدولة لبنان في عام 1982. لا أحد يستطيع الانكار أن وجود دولة اسرائيل أدى الى ادخال الدول العربية في حالة طوارىء مزمنة او حالة الحرب الصريحة او التعبئة على أقل تقدير وما تفرضه هذه الحالة من ترتيب الاولويات تجاه هذا التهديد الوجودي الذي يهدد هذه الدول ويؤدي الى تدعيم الديكتاتوريات والتي نشأت في دول حديثة التشكل والاستقلال ولم تتجذر على أرضها الممارسات الديمقراطية ولم تنضج بها الدولة الحديثة بعد. وربما مثال ذلك ما يذكره المؤرخون من دور الدول الصليبية التي استهدفت فلسطين أيضا في تأخر المسلمين واشغالهم بحروب أدت الى حالة تأخر حضاري شاملة. هذا التهديد خدم كثيرا الديكتاتوريات وشكل عظم الظهر للدعاية السياسية لعدد من الانظمة العربية.
من العوامل المؤثرة التي عقدت هذه النقطة أيضا هو أن الدول الغربية وهي الدول التي يرسخ فيها هذا اللون من الانظمة السياسية كانت وراء انشاء دولة اسرائيل «بريطانيا» ورعاية وتبني كامل لهذه الدولة ومعاملتها كجزء عضوي منها «أمريكا في المقام الأول وباقي الدول الاوربية بشكل أقل» وتوفير كامل ومطلق أشكال الدعم من أسلحة فتاكة ودعم اعلامي واستخدام الفيتو لشل أي ردة فعل دولية ضد اسرائيل، بل والاستعداد الكامل لدخول حرب شاملة ضد الدول العربية لصالح اسرائيل وامدادها بحبل الحياة، مما ولد نفورا من السياسة الظالمة والمقززة لهذه الدول وبالتالي انعكس ذلك على النظرة لشكل النظام السياسي السائد في هذه الدول.
أيضا في فترة الاستقلال كانت الدولة الحديثة هي النظام السائد في الدول الاستعمارية التي ارتكبت فظاعات في الدول المستعمرة لا سيما الدول العربية مما ولد حالة من النفور الشعبي والاستعداد النفسي الشعبي لتقبل أي ايديولوجيا مخالفة لهذه الدول برغم أن حكومات الاستقلال الأولى اختارت على المستوى الرسمي أنظمة مشابهة شكليا للنظام الدولتي الغربي، وتبدى هذا النفور الشعبي على شكل انقلابات على أنظمة حكم ما بعد الاستقلال شهدتها كثير من الدول العربية كما في مصر وليبيا والعراق وسورية «هي انقلابات عسكرية مهما تلبست وتسمت بمسمى الثورات»، حتى وان استفادت من حالة الحنق الشعبي والرغبة الجامحة في التغيير. بل ان هذا النظام هو السائد في اسرائيل الدولة العدوة بالاساس.
ما يدعم هذا الطرح هو أن الدول الاسلامية البعيدة نوعا ما عن نطاق الصراع العربي الاسرائيلي والتي لا تمتلك موارد طبيعية تجلب لها المطامع الاجنبية كانت اكثر قدرة على السير في تطور سياسي هادئ ومستمر باتجاه النضوج السياسي وتبني الدولة الحديثة ولم تكن هناك عراقيل كبيرة في وجه هذا التقدم والتطور برغم قوة وحضور ونشاط الحالة الدينية عندها مثل باكستان واندونيسيا وماليزيا.
فلو كان هناك اشكالية حقيقية وواقعية ناهضة بين الاسلام والدولة الحديثة أو بين المسلمين والدولة الحديثة لعانت هذه الدول المسلمة من هذه الاشكالية. بل حتى انها تجاوزت كثيرا من الازمات التي لازالت الدول العربية تعاني منها كالتعامل مع المرأة حيث رأينا رؤساء حكومات من النساء في باكستان وبنجلادش واندونيسيا. لم يقتصر الدور السلبي للدول الغربية والمضاد للديمقراطية على الدول العربية بل ان دول أمريكا اللاتينية عانت أيضا من هذه الاشكالية وكثيرا ما حدثت انقلابات عسكرية بدعم غربي وأمريكي بشكل أساسي ضد حكومات منتخبة مثل ما حدث في فنزويلا ضد شافيز.
لا يعني هذا حماساً لنظرية المؤامرة المضخمة ولا الميل مع الاتجاه الذي يرجع كل مصائبنا لأمريكا ولكن نتحمل أنفسنا سبب كل اخفاق وفشل يحدث وضعف يبين حتى لو كان للعوامل الخارجية دور جوهري فيه، لكن يجب النظر للعامل الخارجي في حجمه الطبيعي وكواحد من عوامل العديدة وليس عملاً من أعمال الشعوذة وا لسحر الذي يقف خلف جميع خيباتنا كما ينظر له أنصار نظرية المؤامرة.
اليابان والتي تمثل انموذج للشعوب الشرقية التي تبنت بشكل كامل الحضارة الغربية بما فيها شكل الدولة، مرت قبل ذلك بحالة من التخوف والتردد والتحفظ ازاء هذا الجديد الذي يطرق ابوابها ويهدد الثقافة التي كانت سائدة عندها ولم تختار الانفتاح الا تحت تهديد الغزو والاجتياح من السفن الغربية الراسية عند موانئها، اذن هي حالة بشرية طبيعية التحفظ ازاء كل شئ جديد وغير معروف «المرء عدو ما يجهل أو الناس أعداء ما جهلوا» وذلك بعكس ما حدث لدينا من ضغط العامل الخارجي تجاه بقاء الاوضاع كما هي ومحاربة أي شكل أو ممارسة من ممارسات الدولة الحديثة وذلك بغض النظر عن مكياج الدعوات لاحترام حقوق الانسان والتي تصدر من حكومات الدول الغربية للحكومات الشرق أوسطية من آن لآخر ولا تؤخذ بمحمل الجد وهي للاستهلاك الاعلامي فحسب.
يتبع... الجزء الثاني - الحل