انتم تقولون بلزوم الامامة بعد النبوة اي ان النبوة ختمت ولكن الامامة لم تختم
وقد يوعز ذلك الى انه لايمكن ان يترك الله الخلق دون مرشد يبين لهم احكامه التي نزلت على نبيه
فكيف يمكن جمع ذلك مع غيبة الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف
فيقال حين ذلك
( والاجابة للشيخ السبحاني )
يجب أن ننتبه إلى أن «غَيْبة» الإمام ليس معناها أنه يعيش في عالم غير هذا العالم أو أن وجوده الجسمي تحول إلى وجود غير ظاهر مثل أمواج «الأثير»، بل معنى غيبة الإمام –عجل الله تعالى فرجه الشريف- أنه يعيش بين الناس والناس يرونه ولكنهم لا يعرفونه وأنه يتمتَّع بحياةٍ طبيعيةٍ.
ثانياً: طبقاً لبيان الإمام علي بن أبي طالب (ع) في «نهج البلاغة»: لِـلَّهِ تعالى حجتان حجة حاضرة ظاهرة وحجة غائبة باطنة، يقول الإمام في ذلك:
«اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِـلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وبَيِّنَاتُهُ..»([1]).
يُبيِّن هذا الكلام أن القادة الذين ينصبهم الله يؤدُّون مهمتهم الخطيرة في هداية الناس وإرشادهم بشكلٍ علنيٍّ ظاهرٍ، وكذلك بشكل خفيٍّ سرِّيٍّ. فهم يبذلون جهدهم لإرشاد الناس في جميع الأحوال. وقد أرشدنا القرآن المجيد إلى مقام الولاية الرفيع وشأنها العالي وكيفية هداية أولياء الله للناس وبيَّن بوضوح أنه من الممكن لأحد رجال الله أن يكون مختفياً وغائباً عن الأنظار وفي الوقت ذاته يأخذ على عاتقه أمر هداية الناس وإرشادهم.
ثالثاً: رغم أن عدداً من أولياء الله كانوا غائبين عن الأنظار، إلا أنهم كانوا يقومون بإرشاد المجتمع وهدايته أو أنهم كانوا يقومون بمهمة تربية أفراد المجتمع وهم مستترون عن الأنظار بغطاء خاص، ورغم أنهم لم يكونوا أولياء ولا أنبياء إلا أنهم كانوا دائماً مستعدين ينتظرون تلقي الأمر من الله ليؤدوا ما يأمرهم به من أعمال. بعض أفراد هذا النمط من الأولياء هم:
أ) معلم سيدنا موسى (ع) الذي عرّفته بعض الأخبار باسم «الخضر». كان ولي الزمان هذا يعيش دون أن يعرفه أحد، وكان ذا علمٍ واسعٍ وصاحبَ روحٍ قويِّةٍ عاليةٍ. وقد صرح القرآن بأن موسى (ع) تعرّف عليه وكان يستفيد من علمه ولو لم يعرّفه الله عليه لما عرفه أحد. ورغم أنه كان محتجباً عن الأنظار إلا أنه لم يكن غافلاً عن حوادث زمنه وأوضاعه. وكان يتصرّف في أموال الناس وأنفسهم طبقاً لما يراه من المصالح وذلك استناداً إلى الولاية والصلاحيات التي منحَهَا اللهُ له. وقد أشارت الآيات من 65 إلى 82 من سورة الكهف في القرآن الكريم إلى هذه القصة وبينتها بشكل مفصل.
ب) غاب سيدنا موسى (ع) عن الأنظار واحتجب عن الناس أربعين يوماً. فلو كان من الضروري أن يكون الإمام الهادي والمرشد في وسط المجتمع دائماً وكانت غَيبته تتنافى مع مقام الهداية ومع الحكمة من وجوده، فماذا نقول بشأن سـيدنا موسى (ع) رغم أننا نعلم أن بني إسرائيل اتجهوا إلى عبادة العجل عندما غاب عنهم؟ هل كان هذا النبيُّ الذي ذكر القرآنُ صراحةً أنه غاب عن بني إسرائيل أربعين يوماً كاملةً إماماً أم لا؟ إذا قلنا إنه كان يمتلك مقام النبوّة والقيادة، سيُطْرَحَ السؤال: فما هي الفائدة من وجود مثل هذا الإمام؟ فإذا قلنا إن مقام الإمامة والقيادة قد سُلِبَ منه- في تلك الفترة الزمنية – كان كلامنا غير صحيح ولا أساس له، لأننا نعلم أنه بامتلاكه لواجب الإمامة والقيادة اختفى لأجل أخذ التوراة بعيداً عن الأنظار. وإذا كان ينبغي على الإمام أن يكون هادياً وملهماً للناس فإن طول المدة وقصرها سيان في نظر العقل ولا يُستثنى من مقدار الغيبة إلا ما تقتضيه ضرورات الحياة كالنوم ونحوه. ورغم أن حضرة موسى (ع) خلّف أخاه هارون (ع) وصياً له على الناس، لكننا لا نستطيع أن نفرق من هذه الناحية بين غيبة حضرة النبيّ والإمام موسى (ع) وغيبة الإمام حضـرة القائم – عجل الله تعالى فرجه الشريف- فأولاً هناك أيضاً لولي العصـر – عجل الله تعالى فرجه الشريف- نُوَّابٌ في الأمة يمكنهم أن يرشدوا الأمة في فترة غيبة الإمام وثانياً لا يمكن لوجود الوصي أن يبرِّرَ الغيبة.
ج) يصرّح القرآن الكريم بأن سيدنا يونس (ع) حُبس في بطن الحوت مدة احتجب فيها عن أمته (الأنبياء/87 والصافات/140 فما بعد)، فوليُّ الله هذا رغم امتلاكه لمقام الولاية كان بعيداً عن أمته؛ فإذا كان من الواجب أن يكون الإمام والمرشد الإلهي مفيضاً على الدوام وهادياً للخلق فكيف يمكن تبرير غيبته؟ من الواضح أنهم يغيبون لمصالح معينة ويحتفظون خلال مدة غيبتهم بمقام الولاية قائماً كما هو.
والحاصل يمكننا أن نستنبط من الأفكار المذكورة أعلاه ما يلي:
1- رغم أن بعض أولياء الله يختفون عن الأنظار إلا أنهم يبقون على اطلاع كامل بحوادث وأوضاع زمنهم، كما أنهم يتصرفون باستمرار في الأموال والأنفس استناداً إلى الولاية والصلاحيات التي أعطاها الله لهم، ويرشدون الأوضاع طبقاً للمصالح، وهذا كله رغم أن تصرفاتهم هذه مخفية عن أنظار الناس العاديين.
2- إن الهداية والقيادة والإمامة التي تُعدُّ من شؤون أولياء الله تتم أحياناً بصورة ظاهرة وأحياناً بصورة باطنة خفية، وليس من الضروريّ أبداً أن يكون الإمام معروفاً كي يقوم بالهداية والإرشاد بل يمكنه أن يقوم بهذه الوظيفة الهامَّة والخطيرة وهو مختفٍ، ويوصل من خلال ذلك نفعاً كثيراً للناس؛ فغيبة الإمام لا تتنافى مع مقام هدايته ونفعه للخلق.
3- تتخذ الهداية والإرشاد أحياناً صورة «بناء الفرد» وأحياناً صورة «بناء المجتمع». في صورة بناء الفرد وتربيته لا يلزم أبداً أن يعرف جميع الأفراد وليَّ الله ولا أن يقوم هو بشكل متواصل بهداية عامة الناس، بل عليه في الظروف الخاصة التي لا يتيسر فيها «بناء المجتمع» أن يقوم بتربية و«بناء الأفراد».
4- غيبة الولي لا تسلب منه مقام الولاية.
في المحصلة، وظيفة إمام الزمان – عجل الله تعالى فرجه الشـريف- في عهد الغيبة مثل وظيفة الأولياء والقادة في الماضي. يتصـرَّفُ الإمامُ في أمور حياة الناس الدينية والدنيوية في حال اختفائه، ويتصل بالأفراد المؤهلين والجديرين بهذا الاتصال، ويعمل على تربية الأفراد والشخصيات. فهل يبقى هناك مجال بعد قيام الإمام الغائب بكل هذه الوظائف لمن يقول: ما الفائدة من وجود ولي الزمان الغائب هذا؟
قال الله تعالى: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...? (الأنبياء/73).
لا تدل هذه الآية على أن الهداية التي يمارسها الأئمة إنما هي بأمر الله فحسب، بل تدل أيضاً على أن طريقة الهداية تتم بأمر الله كذلك. فأحياناً تتعلق إرادة الله ومشيئته بأن يشتغل الأئمة بالهداية وهم مختفون عن الأنظار، وأحياناً توجب المصالح أن يظهروا للناس ويخرجوا من وراء ستار الغيبة، ويقوموا بممارسة طريقة هداية المجتمع ككل، وعلى كل حال جميع هداياتهم وطرقها وأساليبها تتم بأمر من الله.].
([1]) نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، قم، ص 497.