القرآن كتاب الله، المعلم للإنسان، ورسالته الهادية في زحمة الضلال، وكلمته المضيئة في ظلمات الأرض، ودعوته الرائدة في دنيا الحياة، هبطت آياته لترسم للإنسان طريق النجاة، وتأخذ بيده في متاهات المسير.
لقد تحدث القرآن للإنسان طويلاً وعرّفه بذاته وحقيقته البشرية المعقدة، فرسم أمامه لوحة تلك الذات الغامضة، وصورة الحياة الصاخبة بخيرها وشرها، بآلامها و مسراتها، بدموعها الحارة وابتسامتها الندية، ليكتشف ذاته، ويفهم الحياة، ويعرف كيف يتعامل معها، ويواجه التحديات والمغريات.
إن ذات الإنسان عالم غريب ينطوي على حقائق مثيرة، ومثيرات متناقضة، واستجابات متفاوتة، يصنع من حوله أنماطا شتى من السلوك والممارسات، فيكشف بذلك عما تنطوي عليه ذاته ويعبر عما تحويه نفسه، كلما تماست وتفاعلت مع التحديات والمثيرات الخارجية، والمحفزات التي تملأ الحياة من حوله.
إن هذه الإثارة والتحدي تسلكان بطبيعتيهما كدواعي ووسائل للكشف عن محتوى الذات ومضمون النفس.
فذات الإنسان الباطنة، وحقيقته الكامنة، تظهر على شكل مواقف وسلوك وتعبير مجسد إذا ما تفاعلت مع المثيرات الخارجية والمحفزات والتحديات، الخير منها والشرّير.
وحالات التفاعل والتحدي والإثارة هذه يطلق عليها القرآن اسم (الابتلاء) و(الفتنة)، قال تعالى:{ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}.(الأنبياء /35)
ذلك لأن الابتلاء في لغة العرب هو "الاختبار" إختبار الشيء للكشف عن حقيقته ومعرفة جودته ورداءته.
قال الراغب الاصفهاني معرفاً الابتلاء بقوله:
(وبلوته: إختبرته ، فاني أخلقته من كثرة اختباري له، وقرئ: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} أي نعرف حقيقة ماعملت، ولذلك قيل أبليت فلاناً إذا اختبرته، وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلي الجسم، قال تعالى:
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}
{ولنبلونكم بشيء من الخوف}.
قال عزّ وجلّ:{إن هذا لهو البلاء المبين}.
وسمي التكليف بلاءً من أوجه: أحدها أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء، والثاني أنها اختبارات، ولهذا قال الله عزّ وجلّ:
{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}.
والثالث أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاءً، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، فصارت المنحة أعظم البلائين، وبهذا النظر قال عمر: بلينا بالضراء، فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال أمير المؤمنين: (من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله) وقال تعالى:
{ونبلوكم بالشر والخير فتنة ـ وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً}.
وقوله عزّ وجلّ:{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}.
راجع إلى الأمرين، إلى المحنة التي في قوله عزّ وجلّ:
{يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم}.
والى المنحة التي أنجاهم،
وكذلك قوله تعالى: {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}.
راجع إلى الأمرين، كما وصف كتابه بقوله:{قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}.
وإذا قيل ابتلى فلان كذا، وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين: أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره، والثاني ظهور جودته ورداءته، وربما قصد به الأمران، وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل في الله تعالى بلا كذا، أو أبلاه فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته، دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يجهل من أمره، إذ كان الله علام الغيوب، وعلى هذا قوله عزّ وجلّ:
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ}.
ويقال أبليت فلاناً يميناً إذا عرضت عليه اليمين لتبلوه بها)(1).