القسم الثاني
ه - اتجاه ابن تيمية
الاتجاه الخامس - ان المتشابه هو آيات الصفات خاصة اعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير. وصفات انبيائه كقوله تعالى في عيسى ابن مريم عليهما السلام (وكلمته القاها الى مريم وروح منه) النساء 171. وما يشبه ذلك
ويكاد ينهج الاتجاه الخامس المنهج الذي سار عليه الاتجاه الرابع حيث لا يعطينا تحديداً معيناً للمحكم والمتشابه. وانما يعرفنا على المتشابه من خلال ذكر بعض مصاديقه وامثلته كالصفات.
اضف الى ذلك انه لا مبرر لحصر المتشابه في الصفات دون غيرها في الوقت الذي نجد ان اكثر المفاهيم التي تتحدث عن عوالم يوم القيامة تشترك مع الصفات في بعض المفاهيم التي تتحدث عن عالم الغيب بشكل عام. مع انها ليست من الصفات في شيء. على ان التشابه في صفات الانبياء انما كان بسبب اضافة هذه الصفة الى الله سبحانه كما في الآية الكريمة. واما صفة النبي باعتباره انساناً فليس فيها تشابه.
ز - اتجاه العلامة الطباطبائي.
الاتجاه السادس - ما تبناه السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان) بعد أن ناقش الاتجاهات المختلفة في تحديد معنى المحكم والمتشابه قال :
(ان الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه ان تكون الآية - مع حفظ
كونها آية - دالة على معنى مريب مردد. لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند اهل اللسان كإرجاع العام والمطلق الى المخصص والمقيد ونحو ذلك. بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اخرى لا ريب فيها تبين حال المتشابه)
وقال في موضع آخر (ان المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع الى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة والآية محكمة في نفسها)
ويمكننا ان نوضح رأي العلامة الطباطبائي في هذا البحث بالنقاط التالية : -
1 - ان التشابه لا ينشأ من دلالة اللفظ على المعنى حيث يجب ان تكون الآية المتشابهة دالة على معنى معين عرفي.
ويستند هذا الالتزام الى ان التشابه في الآية الكريمة اخذ بالشكل الذي يمكن استغلاله في مجال الفتنة. واذا لم يكن اللفظ له ظهور في معنى معين لا يمكن استغلاله في مجال الفتنة حيث (جرى دأب اهل اللسان في ظرف التفاهم ان لا يتبعوا ما هذا شأنه من الالفاظ. فلم يقدم على مثله اهل اللسان سواء في ذلك اهل الزيغ منهم والراسخون في العلم)
2 - ان تكون الآية المتشابهة دالة على معنى يتعارض مع مدلول آية اخرى غير مريب وهي الآية المحكمة. ويستند هذا الالتزام الى ان الآيات المحكمة هي ام الكتاب وتعني الامومة هذه حل التشابه عند الرجوع الى المحكمات بالشكل الذي يتعين به مدلول الآية المتشابهة على ضوء مدلول الآية الاخرى المحكمة. وهذا لا يتحقق اذا لم يكن تعارض بين الآيتين
3 - ان يكون المعنى المدلول للآية المتشابهة مردداً ومريباً.
ويستند هذا الشرط الى ضرورة وجود المقياس الذي نرجع اليه في معرفة الآية المحكمة الأمّ من الآية المتشابهة التي نرجع اليها بعد وجود التعارض بينهما وهذا المقياس هو ريب المعنى في المتشابه واستقراره في المحكم.
4 - ان ظاهر الآية السابعة من آل عمران هو انقسام الآيات القرآنية بشكل استيعابي الى المحكم والمتشابه بحيث تنعدم الواسطة
ويمكننا ان نلاحظ على هذا الاتجاه بعدة ملاحظات :
فأولاً - نجد هذا الاتجاه غير قادر على تحديد الموقف تجاه الآيات التي تكون دالة على معنى مردد بين معنى مريب ومعنى غير مريب. لان هذه الآيات لا تكون واجدة لميزان المتشابه لفقدانها الظهور اللفظي كما انها غير محكمة لما فيها من التردد في الدلالة على المعنى.
وحين يعجز الاتجاه عن تحديد موقفه من هذه الآيات نجد النقطة الرابعة غير واردة في المحكم والمتشابه. وقد يتشبث هذا الاتجاه بالمذهب الذي يقول بضرورة ان تكون جميع الآيات القرآنية ظاهرة في معان معينة على اساس ان القرآن الكريم كتاب هدى ونور مبين وحينئذ فلا يبقى مجال لمثل هذه الفرضية في آيات القرآن الكريم.
ولكن هذه الضرورة القرآنية انما يلتزم بها في الحدود التي تقول بعدم وجود آية قرآنية غامضة بشكل مطلق بحيث لا يوجد في القرآن ما يوضحها ويفسرها والا فمن الممكن الالتزام بوجود آيات قرآنية مجملة الدلالة من ناحية مفهومها اللغوي مع الالتزام بوجود ما يوضحها في القرآن
الكريم نفسه. وهذا الالتزام لا يزيد عن الالتزام - من حيث الروح - عن الالتزام الذي آمن به هذا الاتجاه بان يكون اللفظ ظاهراً في معنى مريب يفسره المحكم.
وبعد هذا لا مجال لادعاء ان الآية المتشابهة لا بد وان تكون ظاهرة في معنى اذ يكتشف هذا عن التزام غريب من القرآن الكريم يتلخص في انه كلما اراد معنى غير مريب من لفظ غير ظاهر فيه يستعمل لفظاً ظاهراً في معنى مريب ويكشف عن ارادته للمعنى غير المريب بواسطة المحكم، دون ان يستعمل اللفظ في معنى مردد بين المريب وغير المريب ويكشف عن هذا التردد بواسطة المحكم.
وثانياً - ان هذا الاتجاه يلتزم بضرورة قيام الآية المحكمة بدور احكام الآية المتشابهة بعد ارجاعها اليها. مع ان الآية المحكمة لا تقوم الا بدور تضييق نطاق تصور المعنى في الآية المتشابهة على ضوء ما تعطيه الآية المحكمة من معنى لا ان تجعل من الآية المتشابهة آية محكمة بشكل يتحدد صورة معناها ويتجسد مصداقه.
اذ يكفي في صدق مفهوم الاحكام على الآية ان تقوم بدور الوقاية من تسرب صور ومصاديق المعاني الباطلة الى المعنى المتشابه. وهذا يكون في بعض الاحيان نتيجة طبيعية لتصورنا للمحكم والمتشابه حيث اخذناه على اساس التشابه في تحديد صورة المعنى ومصداقه لا في تحديد مدلول اللفظ ومعناه. وبهذا نجد الفرق بين احكام القرينة اللفظية لذي القرينة بشكل يجعله مختصاً بمعنى خاص وبين احكام الآية المحكمة للآية المتشابهة. مع اننا نتصور هذا الشيء في القرينة اللفظية ايضاً.
وثالثاً - ان هذا الاتجاه يلتزم بضرورة التعارض المفهومي بين المحكم والمتشابه كما جاء في النقطة الثانية في الوقت الذي عرفنا ان الآية المتشابهة لا تدل على مفهوم لغوي باطل ليلتزم بتعارضه مع المفهوم اللغوي للآية المحكمة. وانما
ينشأ الزيغ من محاولة تأويل الآية المتشابهة الذي يعني تجسيدها في مصداق معين وصورة محددة الامر الذي يفرض علينا الرجوع الى المحكم في محاولة تحديده وتجسيده. وهذا الشيء هو الذي يستفاد من معنى الآية الكريمة حيث ان الآية المتشابهة لو كانت دالة بحسب ظهورها على معنى باطل لكان مجرد اتباعه زيغاً دون محاولة تأويله مع ان الآية تقول انهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
ونخلص من مجموعة هذه الآراء والمناقشات الى تلخيص الرأي المختار بالنقاط التالية : -
1 - ان الآية المتشابهة لا بد وان تكون ذات ظهور خاص في معنى لغوي معين بقرينة قوله تعالى (فيتبعون).
2 - ان المعنى الذي تدل عليه الآية المتشابهة لا يكون بمفهومه اللغوي باطلاً وانما يكون صحيحاً والفتنة والزيغ انما يكونان بمحاولة تجسيده في صورة ومصداق باطلين.
3 - ان التشابه انما يكون في المعنى نفسه وذلك بتحديد صورة المعنى وتجسيد مصداقه لا في علاقة المعنى باللفظ والاحكام ما يكون في قبال هذا التشابه بان تكون صورة المعنى المحكم محددة ومصداقه الواقعي مجسداً بشكل يستقر اليه القلب ولا يتردد فيه.
فأي معنى قرآني اذا لاحظناه فان كنا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه فهو معنى متشابه والآية التي تتضمنه آية متشابهة. وان كنا لا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه وانما يركن القلب والعقل الى صورة واضحة ومصداق معين فهو معنى محكم والآية التي تتضمنه آية محكمة.
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم
لقد تعرض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث وذكروا لاثارته سببين.
الاول - ان القرآن الكريم كتاب هداية ونور مبين ووجود المتشابه فيه لا يتفق مع هذه الحقيقة لان المتشابه لا يعلمه الا الله والراسخون في العلم.
الثاني - ما اشار اليه الفخر الرازي ونسبه الى الملاحدة - ان وجود المتشابه في القرآن كان سبباً لاختلاف المذاهب والآراء وتمسك كل واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع مذهبهم. وهذا يناقض الاهداف التي جاء من اجلها القرآن الكريم.
ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن على استكشاف وجوه الحكمة في المتشابهات في القرآن. وعلى هذا الاساس ذكرت وجوه متعددة ومختلفة تتأرجح بين الضعف وغاية القوة والمتانة
وسوف نشير في بحثنا الى بعضها مع مناقشة ما يستحق النقد منها.
الاول - ما ذكره الشيخ محمد عبده - ان الله سبحانه انزل التشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فانه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحاً لا شبهة فيه عند احد من الاذكياء ولا من البلداء لما كان في الايمان به شيء من معنى الخضوع لما انزل الله تعالى والتسليم لما جاءت به رسوله
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بأن الخضوع هو انفعال معين وتأثر خاص من قبل الضعيف في مقابل القوي. ولا يكون ذلك من الانسان الا لما يدرك عظمته او لشيء لا يتمكن من ادراكه لعظمته وكبره كقدرة اللّه وعظمته وسائر صفاته التي اذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الاحاطة به. وهذان الأمران عبر واردين في المتشابه لانه وان كان من الامور التي لا يدركها العقل ولا ينالها ولكنه يغتر باعتقاده لادراكها وحينئذ
لا معنى لخضوعه لها
ولكن هذه المناقشة لا يمكن الالتزام بها وذلك لان معنى الامتحان بالمتشابه هو وضعه كمقياس بين المؤمن وغيره. فالمؤمن من آمن به استسلاماً منه للمتشابه وان لم يدرك كنهه دون محاولة تأويله. والذي زاغ قلبه يغتر به ويدعي معرفة تأويله والانسان في حالة غروره وان لم يكن خاضعاً ولكنه غير مؤمن لان الخضوع لا يكون الا من المؤمن وهو لا يكون مغتراً.
وبعبارة اخرى ان المتشابه لا يكون بطبيعته مورداً لاغترار العقل وانما قد يزيغ الانسان فيغتر بادراكه لكنهه. ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابه. فاذا صدّق الانسان به واستسلم له فهو قد ثبت على الايمان واذا اغتر به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه. وهذا ما اشار اليه القرآن الكريم حيث قال (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فهو شيء تمحص به القلوب. فمن كان في قلبه مرض وزيغ اتبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
الثاني - ما ذكره الشيخ محمد عبده ايضاً ان وجود المتشابه في القرآن كان حافزاً لعقل المؤمن الى النظر كيلا يضعف فيموت فان السهل الجلي جداً لا عمل للعقل فيه والعقل اعز القوى الانسانية التي يجب تربيتها والدين أعز شيء على الانسان فاذا لم يجد العقل مجالاً للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه واذا مات فيه لا يكون حياً بغيره
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي ان القرآن الكريم اهتم بالعقل وتربيته اهتماماً بالغاً. فأمر باستعمال العقل في الآيات الآفاقية والأنفسية اجمالاً في بعض الموارد كما فصل ذلك في موارد اخرى كالامر بالتدبر في خلق السموات والارض والجبال والشجر والدواب والانسان واختلاف الالسنة
والالوان. كما حث على التفكير والسير في الارض والنظر في احوال الماضين وحرض العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي كل ذلك ما يغني عن سلوك طريق آخر هو انزال المتشابهات الذي يكون مزلقة للاقدام ومصرعاً للعقل
الثالث - ما ذكره الشيخ محمد عبده ايضاً. ان الانبياء بعثوا الى جميع الاصناف من عامة الناس وخاصتهم وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد. وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء وانما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الامر فيه الى الله تعالى والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بان الكتاب الكريم كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين هذه المتشابهات عند الرجوع اليها ولازم ذلك ان لا تتضمن المتشابهات من المعاني ما هو ازيد مما تكشف عنه المحكمات وعند ذلك يبقى سؤالنا. ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ؟ واي حاجة اليها مع وجود المحكمات ؟ على حاله.
والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمد عبده انه اخذ المعاني نوعين متباينين - الاول - معاني يفهمهما جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات. الثاني - معاني حقيقتها بحيث لا يدركها الا الخاصة ولا يتلقاها غيرهم وهي المعارف الالهية والحكم الدقيقة فكان من نتيجته ان من المتشابهات ما لا ترجع معانيها الى المحكمات. وقد مر ان ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على ان القرآن يفسر بعضه بعضاً وغير ذلك
وهذه المناقشة لا تقوم على اساس منطقي. اذ ما هو الشيء الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني.
اذا كان المانع من ذلك هو ما يشير اليه العلامة الطباطبائي من امومة المحكمات للمتشابهات.. فقد عرفنا ان هذه الامومة لا تعني اكثر من وضع حدود خاصة معينة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن. وهذا لا يعني تجسيد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابه وتعيينها في مصداق خاص حتى تختفي الفائدة منه.
فقوله تعالى (ليس كمثله شيء) محكم يسقط من الحساب جميع التجسيدات التي تشبه الاشياء كمفهوم الاستواء على العرش في قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) ولكنه لا يعطينا الصورة الواقعية والمصداق المجسد لهذا الاستواء فهو معنى مستقل لا يمكن ان نفهمه عن ذلك المحكم (ليس كمثله شيء).
واذا عرفنا دور المحكم تجاه المتشابه امكننا ان نتصور بسهولة ان بعض المعاني لا يدركها الا الراسخون في العلم دون العامة. خصوصاً المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية كجريان الشمس (الشمس تجري لمستقر لها) او تلقيح الرياح (وجعلنا الرياح لواقح) او جعل الماء مصدراً للحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فان كل هذه المعلومات حين تتكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي اشار اليها القرآن الكريم ويعرفها الخاصة من الناس دون غيرهم.
والعلامة الطباطبائي نفسه تصور هذا التمايز بين الناس في الادراك للمعاني وان حاول ان يصوغه بشكل آخر (فظهر ان للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم. ولازمه ان يكون
ما يتلقاه اهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه اهل المرتبة والدرجة الاخرى التي فوق هذه او تحتها. فقد تبين للقرآن معان مختلفة مترتبة)
فهو يتعقل في المعنى القرآني الاختلاف. ولكنه يتصوره على اساس الاختلاف في الدرجة والمرتبة للمعنى الواحد كما يتعقل في الفهم الانساني هذا الاختلاف ايضاً. وحين نتعقل ذلك لا يبقى ما يمنع ارادة القرآن الكريم بآية معينة مرتبة ودرجة خاصة من معنى معين دون غيرها. وحينئذ لا يقدر على فهم هذه المرتبة والدرجة الا ذلك القريب من الله.
الرابع - ما ذكره العلامة الطباطبائي - ان التربية الاسلامية سارت على منهج معين بفرض الواقع للانسان وعلاقته بالله سبحانه خالق الكون ومدبر اموره وبالمعاد والجزاء.
وهذا المنهج يتلخص في ان عامة الناس لا تكاد تتجاوز افهامهم وعقولهم المحسوسات المادية الى عالم ما وراء الطبيعة. ولا يمكن ان يعطى انسان ما معنى من المعاني الا عن طريق تصوراته ومعلوماته الذهنية التي حصلت له خلال حياته المادية والعقلية. والناس في هذه التصورات والمعلومات على مراتب ودرجات تختلف باختلاف الممارسة المادية والعقلية.
والهداية القرآنية ليست مختصة بجماعة دون اخرى وانما هي هبة اللّه سبحانه للناس كافة. وهذا الاختلاف في الفهم وعموم الهداية القرآنية : يفرضان ان يسوق القرآن الكريم بياناته مساق الامثال بان يستثمر ما يعرفه الانسان ويعهده في ذهنه من المعاني والصور ليبين ما لا يعرفه من هذه المعاني والصور.
وقد يكون ذلك في القرآن الكريم مع عدم وجود التوافق الكلي بين المعنى الذي يعرفه الانسان مسبقاً والمعنى الجديد الذي يحاول القرآن الكريم تعريف الانسان عليه. وانما يلحظ القرآن جانباً معيناً من الانسجام
والتوافق. كما نفعل ذلك في حياتنا العملية حين نستثمر الاوزان والمكاييل للتعريف بالمواد الغذائية وغيرها مع عدم وجود التوافق بينها وبين المواد الغذائية في شكل او صورة او حجم.
وحين نستعمل الصورة المادية المحسوسة - التي عرفها الانسان في حياته كأمثال للمعارف الالهية المجردة يقع الفهم الانساني في ادراكه لهذه المعارف الممثلة بين امرين قد يستلزم كل منهما محذوراً : -
الاول - الجمود بهذه المعارف في مرتبة الحس المادي وحينئذ تنقلب عن واقعها المجرد الذي استهدفته الهداية القرآنية.
الثاني - الانعتاق من الاطار المادي للمثال والقيام بعملية تجريد للخصوصيات غير الداخلة في التمثيل. وهذا يستلزم - احياناً - الزيادة والنقيصة في هذه العملية او الشدة والضعف.
ولذا نجد القرآن يلجأ الى عملية واسعة في التمثيل تفادياً لهذه المشاكل العقلية والنفسية. وذلك بتوزيع المعاني التي يريد من الانسان ادراكها وتربيته على تصورها الى امثال مختلفة وجعلها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضاً ويوضح بعضها امر بعض لينتهي الامر الى تصفية عامة تؤدي الى النتيجتين التاليتين : -
الاولى - ان البيانات القرآنية ليست الا امثالاً لها في ما ورائها حقائق ممثلة وليس الهدف والمقصود منها مرتبطاً باللفظ المأخوذ من الحسِّ والمحسوسات فنتخلَّص بذلك من محذور الجمود.
الثانية - بعد الالتفات الى أن البيانات القرآنية أمثال - نعلم حدود المعنى الالهي المقصود من وراء هذه البيانات حين نجمع بين هذه الامثال المتعددة وتنفي بكل واحد منها خصوصية من الخصوصيات المأخوذة من عالم الحس الموجودة في المثال الآخر. فنطرح ما يجب طرحه من الخصوصيات
المحيطة بالكلام ونحتفظ بما يجب الاحتفاظ به منها
ولا شك ان هذا الوجه يمكن ان يعتبر تعليلاً وجيهاً لورود الكثير من الآيات المتشابهة ولكننا لا نقبله تعليلاً شاملاً لكل ما ورد في القرآن من المتشابهات حيث نرى ان بعضها لا يمكن تحديد مصداقه بشكل قاطع بناء على مذهبنا في حقيقة المتشابه الذي عرفنا فيه ان المفهوم اللغوي له مفهوم صحيح وغير باطل لينتفي الريب بواسطة الامثلة الاخرى القرآنية.
وفي نهاية المطاف يجدر بنا ان نذكر خلاصة الوجه الصحيح في حكمة ورود المتشابه في القرآن. وبهذا الصدد يحسن بنا ان نقسم المتشابه الى قسمين رئيسيين.
الاول - المتشابه الذي لا يعلم تأويله ومصداقه الا اللّه.
الثاني - المتشابه الذي لا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم.
اما ورود القسم الاول في القرآن فلأن من الاهداف الرئيسة التي جاء من اجلها القرآن الكريم هو ربط الانسان الذي يعيش الحياة الدنيا بالمبدأ الاعلى وهو اللّه سبحانه وبالمعاد وهو الدار الآخرة وعوالمها. وهذا الربط لا يمكن ان يتحقق الا عن طريق اثارة المواضيع التي تتعلق بعالم الغيب وما يتصل به من افكار ومفاهيم لينمّي غريزة الايمان التي فطر الانسان عليها ويشده الى عالمه الذي سوف ينتهي اليه. فلم يكن هناك سبيل امام القرآن الكريم يتفادى به المتشابه في القرآن بعد ان كان هو السبيل الوحيد الذي يوصل الى هذا الهدف الرئيسي.
واما ورود القسم الثاني في القرآن الكريم بهذا الاسلوب امام العقل
البشري كبعض المسائل الكونية وغيرها لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة ونحن في هذا العصر حين نعيش التطور المدني العظيم في المجالات العلمية المختلفة. ندرك قيمة بعض الآيات القرآنية التي المحت الى بعض الحقائق العلمية ووضعتها تحت تصرف الانسان لينطلق منها في بحثه وتحقيقه.
وبهذا يمكن ان نقدم تفسيراً لحكمة ورود المتشابه في القرآن الكريم.
_____________________________________