إن المؤمن المسلم، لا ينفكُ عن الصلاة.. أما المسلم الذي لا يُصلي؛ فهو إنسان لا قيمة لهُ في هذا الوجود، حتى بالمنطق العقلي: إنسان مسلم يعتقد بالخالق، والرازق، والمنعم؛ ولا يكلف نفسه أن يصلي لربه ركيعات قليلة!.. كم تأخذ الصلاة من وقت الإنسان؟.. إن مجموع الصلوات اليومية، لا يتعدى عشرين دقيقة!..
أما بالنسبة للإنسان المصلي: كيفَ يستطيع أن يُرقي من هذهِ الصلاة؟.. إن البعض يعتبر الصلاة الخاشعة، أمرا ترفيا، وأمرا زائدا.. بينما الأمر ليس بهذهِ المثابة!.. هنالك فرق بين الخمس أو الزكاة وبين الصلاة: فالإنسان عندما يدفع المال للفقير؛ أي هنالك مالٌ انتقلَ إلى فقير، فاشترى بهِ خُبزاً، فأكلَ وشبع.. أما القبول فهذه مسألةٌ أخرى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.. ولكن هل من شك أنَ قوام الصلاة، وجوهر الصلاة؛ هو حركةٌ قلبية يسمى الخشوع؟.. (الصلاةُ معراج المؤمن)، فالإنسانُ عندما يُصلي لا يرتفعُ عن الأرض أُنملةً واحدة؛ فأينَ هذهِ المعراجية؟.. (والصلاةُ قربان كلُ تقي)؛ أينَ هذهِ القُربانية؟.. إن كانَ البعض يُشكك في الروايات؛ فإنه لا يُشكك في الآيات الكريمة.. الصلاة في نظر القرآن الكريم، بمثابة قرينٍ صالح وعالم وواعظ، يبقى ملاصقا للإنسان؛ لأنَ القرآن يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}.
فإذن، إن للصلاةِ لسانا، ودعوة وبلاغا.. ومن المعلوم أن القربانية والمعراجية، وهذا الأمر والنهي عن المنكر، من مواصفات الصلاة البليغة الخاشعة.. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الصلاة عمود الدين: إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها).. فالقضية في غاية الأهمية، والصلاة الخاشعة: هي حركةٌ عاطفية رومانسية -إن صحَ التعبير- الذي يُريد أن يصلي صلاةً خاشعة، لابدَ أن يكون مرهف الحس، ولابدَ أن يحمل في قلبهِ شيئاً من حُب المولى.. فنحن عندما نقول: نُصلي لوجه الله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، هذا الوجه لهُ جمال الوجه الإلهي.. جمال الطبيعة، والوجوه الجميلة؛ كلها من آثار ذلك الجمال المطلق.. والذي لا يحمل في قلبهِ هذهِ الحالة الوجدانية؛ لا يمكنهُ الصلاة الخاشعة.
إن الكثير منا لم يذكر رب العالمين: ذكراً مُركزاً، فارغاً، قلبياً؛ بتوجه لدقيقةٍ واحدة.. أما العبادات، وقيام الليل، والأدعية، وغيرها؛ فهذا ذكرٌ لساني.. فنحن عندما نذكر الله، نذكر معهُ خمسين ذكرا، وخمسين هاجسا.. وهذا ليس ذِكراً مركزاً، يغطي كل جوانب الوجود.. بعض الأوقات الإنسان ينظر للتلفاز، فيستغرق فيه بكل وجوده، لدرجة أنه لا يسمع من حوله.. إن العُشاق حياتهم عجيبة!.. بعض الفتيات العاشقات، كتبت اسم من تحب على ورقة الامتحان، بدل اسمها.. أنظروا إلى الذوبان فيما يحبهُ الإنسان!.. وكذلك أحدهم كان يقف كل ليلة لساعات أمام بيت من يحب، إلى أن تسترق الفرصة لتفتح النافذة، أو الستارة لتنظر إليه، فيرتاح قلبه ويعود إلى المنزل.. هذه صلاةُ ليله لسنوات من عمره، يأتي إلى مكان لينظرَ إلى من يُحب؛ هذا هو الحب الصادق.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.. ويقول الإمام الصادق (ع):
تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لـمن يحب مطيعُ
إن الذي يريد الصلاة الخاشعة، من خلال الطيب، واللباس النظيف، وحتى من خلال حضور الجماعة وغيرهِ؛ هذا لا يكفي؛ إذ لابدَ من الرصيد الباطني.. أحدنا من الممكن طوالِ عمرهِ، لم يحمل لربه معشارَ الحب الذي يحمله لأولادهِ وزوجته!.. نحنُ ندّعي الحب لله عز وجل، ولكن فلننظر إلى القلب عند تعارض المصالح!.. فباختبار بسيط جداً، يثبت للإنسان أنه يحب الزوجة والأولاد أكثر مما يحب رب العالمين: عندما يأمر الزوجة بفعل ليسَ للهِ فيهِ رضا: إما مكروه، أو حرام.. فجلباً لرضاها، يخالفُ رضا رب العالمين؛ معنى ذلك أن الزوجة أحبُ إليه!..
كيفَ ندخل بحر الصلاة؟..
- الطهور: إنه أول خطوة من خطوات الصلاة الخاشعة.. ومدخل الصلاة عبارة عن الوضوء، فإذا لم يتقن أحدنا وضوءه، فقد أخل بالمدخل.. حالة الطهارة، حالة حاصلةٌ من التطهر.. الغسل حركةٌ جسمية: صبٌ للماء على البدن، والوضوء كذلك، إذا أكملت هذهِ الحالة، تُصبح على طهارة.. هُنالك شيء باطني، الإنسان المتوضئ يعيش حالة من حالات الطهارة.. فالإنسان الذي ينتقض وضوؤه يعيش حالة حدثية، ولكن بهذا الوضوء ترتفع هذه الظلمة.. ولهذا فإن الذين يداومون على الوضوء، بمجرد أن ينتقض وضوؤهم يعيشون ظلمة باطنية، يكفي أن يشعر العبد أنه مطرود من الصلاة، ومحروم من أن يضع يده على كتابة القرآن الكريم، وأن يلمس الكتاب القرآني!.. لماذا يبقى العبد محروماً؟.. لماذا لا يتوضأ؟.. وكذلك بالنسبة للجنابة: فإن الإنسان المتطهر الذي يعيش حالة من الطهارة الباطنية، يجتنب المبيت على جنابة أو ما شابه ذلك، وكأنَ الجنب أخرجَ من قاعة السلطان؛ ولهذا الأمر يبادر المؤمن إلى الغسل بعدَ كل جنابة.. وكذلكَ المُحدث، إنسان ليس على وضوء.. فالإنسان المتوضئ كأنهُ أخذَ بطاقة دخول على المولى، متى ما شاء يصلي بين يدي الله عزَ وجل.
ورد في حديث قدسي: (من أحدث ولم يتوضأ؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، ولم يصلِّ ركعتين؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، وصلى ركعتين، ودعاني؛ ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه، فقد جفوته.. ولست برب جاف).. هذهِ الأيام ترك الوضوء بعدَ الحدث، أقل ما يقال عنه بأنهُ كسل.. إن هناك وضوءين: وضوءٌ للصلاة، ووضوء لغير الصلاة.. وضوء الصلاة لا بأس في المبالغة والدقة به.. أما الوضوء الذي لغير الصلاة، فمن الممكن أن يكون سريعا.
إن الإنسان بعد الوضوء، يستطيع أن يصلي ركعتين مستحبتين، هذه الصلاة من الممكن تسميتها بصلاة العاشقين.. يمكن للإنسان أن يصليها أثناء المشي، وفي كل زمان ومكان وبأي كيفية؛ تقربا إلى الله عزَ وجل.. صلاة بمعنى إظهار الشوق إلى الله عزَ وجل!.. فالبعض وهو في وظيفته، في الساعة العاشرة -مثلا- بعد الإرهاق، وهو في قمة العمل؛ يتصل بزوجته، ويعبر عن شوقه لها.. هذهِ المرأة تطير من الفرح بهكذا زوج!.. الرواية تقول: (قول الرجل لزوجته: "إني أحبك"؛ لا يذهب من قلبها أبداً).. كم هو جميل من الإنسان أن يتوضأ في الساعة العاشرة، ويذهب إلى المصلى في مكان عمله، ويصلي لله ركعتين؛ شوقاً وحُباً لله عزَ وجل!.. هذهِ الحركات تُجمع له في الملف!.. كما هو المتعارف في الوزارات، وفي الدوائر الحكومية: كل عمل جيد يقوم بهِ الموظف، يدخل في ملفه، ويكون هذا العمل في يوم من الأيام مقدمة لترقيته.. كذلك هذهِ الحركات الجزئية، تتراكم لتعطيه في يوم من الأيام منحة إلهية.
إن بعض المصلين يصلي صلاة واجبة في المسجد، ويخرج ولا يدعو ربه بعدَ الفريضة.. عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من أدى لله مكتوبة، فله في أثرها دعوة مستجابة).. قال ابن الفحام: رأيت أمير المؤمنين -عليه السلام- في النوم، فسألته عن الخبر، فقال: صحيح إذا فرغت من المكتوبة فقل وأنت ساجد: (اللهم!.. إني أسألك بحق من رواه، وبحق من روي عنه.. صلّ على جماعتهم وافعل بي كيت وكيت).. فالذي يصلي ويخرج ولا يدعو، هذا الإنسان كأنهُ استغنى عن ربه.
إن الوضوء على قسمين: وضوء مائي، أي يصب الماء على بدنه، ولعله ينظر إلى التلفاز أثناء المسحتين والغسلتين.. وإنسان يتوضأ بآداب الوضوء.. أو تعلم أن الذي يلتزم بآداب الوضوء، يُصلي قبلَ أن يصلي؟.. فأول أدب من آداب الطهور، هو مستحبات الوضوء.. إذ أن أدعية الوضوء تهيئ الإنسان لجو الصلاة، وتنقل الإنسان إلى عالم الآخرة.. حيث أن أدعية الوضوء من مصاديق المناجاة المعبرة، فلو قرأها الإنسان أثناء الوضوء بتوجه، لاختلط ماء وضوئه بدموع عينيه.. فعندما ينظر إلى الماء، يبدأ بدعاء الوضوء: (الحمد لله الذي جعل الماء طهورا، ولم يجعله نجسا).
وعندما يغسل وجهه يقول: (اللهم!.. بيض وجهي يومَ تسودَ فيه الوجوه، ولا تسود وجهي يوم تبيضُ فيهِ الوجوه).. وهو يتوضأ، وإذا به ينتقل إلى عرصات يوم القيامة، حيث الوجوه السوداء: إما مسودة قبلَ نارِ جهنم، وإما سودتها نيران غضب الله عز وجل.. البعضُ قد يفتح الماء الحار خطأ أثناء الغُسل فيحترق بدنه، فيبكي أثناء الاستحمام، ويقول: يا رب، أنا لا أتحمل ماءً ساخناً سخنهُ سخان كهربائي، فكيفَ بنار جهنم، التي سجرها جبار السموات والأرض؟!.. فيتحول الحمام إلى معبد وإلى مسجد!..
وعند غسل اليد اليمنى، يقول: (اللهم!.. أعطني كتابي في يميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حسابا يسيرا).. فيوم القيامة هو يوم إعطاء الشهادات؛ شهادات الخلود: إما الخلود في الجنة، أو الخلود في النار، أو السنوات الطويلة في نار جهنم.. فالذي يأخذ كتابه بيمينه يطير فرحاً، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}.
وكذلك عند غسل اليد اليسرى، يتذكر قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}..يأخذ شهادة الدخول في نارِ جهنم، إن كان مؤمنا لعله آلاف السنين، وإن كانَ كافرا إلى الأبد.. فيقول: (اللهم!.. لا تعطني كتابي بشمالي، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران)، فيتذكر بذلك أهوال القيامة: حيث أن رب العالمين يوم القيامة يحشر البعض بهيئة إذلال، ويحشر المجرمين وأيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وكذلك يلبسون ثيابا من نار.. إذ أن هناك فرقا بين إنسان يشتري ثوباً جاهزاً فضفاضا، وبين إنسان يقطع له ثوب، فيكون الثوب لاصقا ببدنه.. ونحن نقول: يا رب!.. لا تلبسنا من مقطعات النيران ثوبا من حميم نار جهنم.. يقول تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}.. فالخلايا الحسية في الجلد إذا احترقت في نار جهنم وتحولت إلى فحم، فإن الإنسان يرتاح، وينتهي كل شيء.. ولكن الله -تعالى- يقول: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أي هو في عذاب متجدد!..
وعند مسح الرأس وإذا به يقول: (اللهم!.. غشٌني برحمتك وعفوك وبركاتك)؛ أي يا رب، أنا لا أريد رحمة عابرة.. بل غشني؛ أي أملأني من رأسي إلى قدمي، رحمة وبركة.
أما عند مسح الرجل فيقول: (اللهم!.. لا تزل قدمي يوم تزل فيه الأقدام، واجعل سعي فيما يرضيك عني يا ذا الجلال والإكرام)..أوَ تعلم أننا جميعاً من أهل جهنم وروداً {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}.. لأن الصراط يمر على جهنم، فيراها المؤمنون، يا لهُ من موقف رهيب!.. حسب ما هو معروف، أنه أدق من الشعرة، وأحدُ من السيف.. إنسان يمشي على هذا الحبل، ينظر تحتهُ نار جهنم، وصياح المعذبين.. وينظر أمامهُ الحور العين، وهو في كل لحظة يخشى من السقوط في نار جهنم؛ يا لهُ من عذاب نفسي!.. لذا، من الآن يقدم طلبا: (اللهمَ!.. لا تزل قدمي يومَ تَزلُ فيهِ الأقدام).. فالإنسان عند مسح القدم، وإذا به ينتقل إلى موضع الصراط.
فإذن، هذا هو الوضوء!.. ولكن أينَ هذا الوضوء من وضوءنا نحنُ؟.. هذا الوضوء، هو مقدمة للصلاة.. فالذي يتوضأ بآداب الوضوء؛ يرق قلبه، ويكون مقدمة لصلاةٍ خاشعةٍ بينَ يدي الله عِزَ وجل!..
الخلاصة: 1- إن المؤمن المسلم، لا ينفك عن الصلاة، أما المسلم الذي لا يصلي فلا قيمة له في هذا الوجود.
2- أن للصلاة لسانا ودعوة وبلاغا، فالقربانية والمعراجية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي ثمار الصلاة البليغة الخاشعة.
3- أن الذي يريد الصلاة الخاشعة، لابد له من رصيد من الحب الباطني لله جل وعلا.
4- أن الطهور هو أول خطوات الصلاة الخاشعة، لذا علينا أن نتقن الوضوء، لئلا نُخل بالمدخل.
5- لماذا لا نحرص على صلاة ركعتين مستحبتين بعد الوضوء؟ صلاة بمعنى إظهار الشوق إلى الله عز وجل، في أي وقت ومكان، وبأي كيفية، فقط تقربا لله جل ذكره، أن هذه الحركات الجزئية تتراكم، لتعطي في يوم من الأيام منحة إلهية.
6- أن من يلتزم بآداب الوضوء، وأذكاره ، وأدعيته، هذا الإنسان يصلي قبل أن يصلي، لأنه بذلك يتهيأ لجو الصلاة، وينتقل إلى عالم الآخرة.
7- إنه لا بد من وقفة ولو يسيرة بالدعاء بعد الفريضة، فالذي يصلي ويخرج ولا يدعو، هذا الإنسان كأنه استغنى عن ربه جل وعلا.