براثا.. وحدة الإيمان بين صومعة الراهب والجامع
وأنت تتجه إلى الشمال الغربي من بغداد وعلى بعد خمسة كيلو مترات من روضة الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد(عليهما السلام) يتهادى أمام ناظريك معلم واضح من معالم الهداية الربانية والكرامة النبوية وترتفع بشموخ منارة يأتلف تحت قبة عنايتها آلاف الزائرين من شتى بقاع الدنيا وقد شدوا الرحال للتبرك ببقعة هي لليوم مهوى قلوب العارفين ومأوى المتهجدين..
إنها(براثا) التي تعني بالسريانية القديمة(ابن العجائب)، وقيل(بيت مريم) أو(أرض عيسى).. وجامع براثا من العتبات المقدسة والمزارات المعظمة عند كل من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ويعد من أقدم معالم بغداد في تاريخ الإسلام حتى قبل تأسيس العاصمة العباسية بقرن وثمانية أعوام.
تاريخ وكرامات
في الرواية أن براثا كانت في زمن ديرا من أديرة النصارى يعتكف فيه راهب يدعى حبار وقد أسلم وانتقل مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مركز الخلافة الإسلامية(الكوفة) وتحول الدير إلى مسجد ظل معروفا باسم جامع براثا.. كان ذلك عند مرور الإمام(عليه السلام) بهذا المكان عام 37هـ وإقامته فيه أربعة أيام وذلك لدى عودته من واقعة النهروان ومعه ولداه الحسنان(عليهم السلام) ونحو مائة ألف رجل من أصحابه. وقد اقتلع بيده المباركة من موضع فيه صخرة صماء سوداء اللون فنبع من مكانها ماء قراح ألذ من الزبد وأحلى من الشهد استحال فيما بعد إلى بئر ولا يزال الناس إلى يومنا يستشفون به وبالصخرة ذاتها بواسطة أخذ الماء من البئر وسكبه في نقرة وجدت على وجه تلك الصخرة كمثل إناء ومن ثم غرفه وسقي المرضى والأطفال الذين يتأخر نطقهم فيشفون وتنحل عقد ألسنتهم إذا ما شربوا من ذلك الماء القدسي ببركة تلك الصخرة وكرامة قالعها ومشيئة الله العلي العظيم.. ولقد جرب عدة أشخاص ذلك بأنفسهم وكانت النتائج أكثر من رائعة ومذهلة إذ أصبح الطفل الذي كان بالكاد ينطق بكلمة يتكلم بطلاقة ولباقة شديدة وذكاء مفرط أيضاً.
ونقل لي أحد الزوار الذين التقيتهم كرامة ظهرت له من هذا البئر الشريف قائلاًأعرف امرأة مصابة بالحساسية وقد أخذت لها من ماء البئر بنية القربة إلى الله والاستشفاء مرتين فبدأت تتعافى تدريجياً وهاأنا ذا آخذ الماء للمرة الثالثة لتبرأ بإذن الله تماما).
ها هنا وضعت مريم
بعد أن نبع الماء وشرب القوم وتوضئوا للصلاة ـ كما في الرواية المتقدمة ـ أشار الإمام علي(عليه السلام) إلى موقع قريب وقال لأصحابه: (احفروا هاهنا سبعة أذرع).. فعندما حفروا وجدوا قطعة من حجارة بيضاء تعود في قدمها إلى ما قبل الإسلام، فقال(عليه السلام): (هاهنا وضعت مريم عيسى) أي على تلك الصخرة البيضاء وهذا مما يدلل على قدم جامع براثا وقدسيته.
وهذه القطعة من الرخام الأبيض التي تعد من أنفس الذخائر المتحفية والقطع الأثرية، لم تزل موجودة حتى يومنا ويقصدها كل داخل إلى المسجد للدعاء عندها والتبرك باستلامها. وقد نقش على جوانبها بخط بارز آية الكرسي وأسماء المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام).
ملتقى الأديان
يؤكد السيد ضياء حسن علوان أحد السدنة في جامع براثا أن هذا المكان المهيب ما انفك يستقبل العديد من المسيحيين وبعض أبناء الملل والديانات الأخرى إلى جانب إخوانهم المسلمين. وبهذا فهو يعد أكبر مركز لتلاقي الأديان وبخاصة الإسلام والمسيحية. ويصل عدد زواره من مختلف الشرائح والأعمار ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا إلى حوالي أربعة آلاف زائر يوميا.
محطة مضيئة
وفيما رحت أتجول بعدتي الصحفية بين أرجاء الجامع وأطرح أسئلتي على كل من أصادفهم في طريقي تناهى إلى سمعي خبر إسلام الأستاذ خوشابا بنيامين دولفس البالغ من العمر 36 عاماً وإعلانه ذلك على الملأ الأسبوع الماضي فقط. وعندما سئل عن الموضوع أجاب باختزال شديد مفاده أن ما شاهده من كرامات في جامع براثا كانت هي السبب في إجابته دعوة الإسلام واعتناقه دينا رسميا.
وتحيا من جديد
في الطابق العلوي للجامع ثمة مكتبة ضخمة يرجع تأسيسها إلى سنة 1962م. كانت ـ كما يقول السادن ـ تحتوي على كتب ومخطوطات قديمة ونفيسة لا توجد في أي مكتبة أخرى في العراق لكنها أغلقت منذ فترة طويلة من قبل النظام المقبور وتم نقل بعض كتبها ومخطوطاتها المهمة إلى جهة مجهولة وأحرق بعض ما تبقى أو أتلف كليا.. ويستبشر السيد ضياء خيرا ويؤكد: إننا نقوم بإحيائها من جديد وإعادة النشاط إليها بجلب الكتب الثمينة والمصادر النافعة وسنبني في براثا مدرسة عقائدية فكرية لترسيخ قواعد الإيمان وحب العلم والمعرفة والعمل في نفوس أبنائنا.
منزل العظماء
وفي الأخبار أنه صلى في براثا سبعون من الأنبياء والأوصياء منهم إبراهيم وعيسى ودانيال ويوشع وإلياس وأمير المؤمنين(سلام الله عليهم أجمعين)، وأن فيه قبر أحد أنبياء الله، وأنه يحشر في هذا المكان عشرون ألف ومائة شهيد.
وتضمنت أرض براثا رفات العديد من رجالات عصرنا وعظماء بلادنا أمثال المؤرخ والأديب الشهير المرحوم الدكتور طه باقر والأستاذ الناقد المعروف المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر والأستاذ اللغوي القدير المرحوم الدكتور مصطفى جواد وعالم الاجتماع الكبير المرحوم الدكتور علي الوردي وآخرين..
مشاريع تعمير وتوسيع
تبلغ مساحة براثا الجامع والمدفن والحديقة في السابق أضعاف ما هو عليه الآن، أما مساحته الحالية فتصل إلى حوالي(4000) متر مربع، وقد وضعت المخططات لتوسعته وإعادة بنائه من جديد وفق شكل هندسي حديث روعي فيه بقاء الروح التاريخية وبهاء الهيبة القدسية ليظل كما كان على مر التاريخ محط أنظار السياح الأجانب والزائرين المتعبدين والدارسين لتطور العمران الإسلامي، وتبقى أرواحهم معلقة في زواياه الرخامية المفعمة بمشاعر الهيبة والجلال الملكوتي.
نشر هذا الاستطلاع لأول مرة في العدد الثامن من مجلة عفاف التي تصدر عن مؤسسة المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) العالمية، وعلى موقعها الإلكتروني www.afafonline.com