|
عضو فضي
|
رقم العضوية : 34252
|
الإنتساب : Apr 2009
|
المشاركات : 1,863
|
بمعدل : 0.33 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
الحوزويه الصغيره
المنتدى :
المنتدى الفقهي
صدرا والحكمة المتعالية
بتاريخ : 26-04-2013 الساعة : 07:01 PM
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
صدرا والحكمة المتعالية
تمهيد:
يمكن القول إنّ الفكر الفلسفيّ السائد هذه الآونة، ولا سيما في الأوساط العلميّة الإسلاميّة وخصوصاً في الحوزات العلميّة، هو فكر وفلسفة الحكمة المتعالية، التي أرسى دعائمَها وأسّس قواعدَها في القرن الحادي عشر الهجريّ صدرُ الدين الشيرازيّ، الملقّب بصدر المتألّهين أو بالملا صدرا. ولا يمكن دراسة هذه الفلسفة من دون إطلالةٍ على الحياة العلميّة لهذا الرجل العظيم.
من هو صدر؟
ولد في شيراز دون أن تحدّد بالدقة سنة ولادته ، من والدٍ صالحٍ اسمه إبراهيم بن يحيى القوامي، وقيل إنّه كان أحد وزراء دولة فارس. وكان هو الولد الوحيد حيث حظي باهتمامٍ كبيرٍ عند والده، الذي وجّهه لطلب العلم، فبدأ دراسته في شيراز عاصمة الدولة آنذاك. وانتقل بعد وفاة والده إلى أصفهان، وأنفق كلّ ماله الذي ورثه في تحصيل العلم، فتتلمذ على يد الشيخ بهاء الدين العامليّ (953- 1031هـ)، الذي وجّهه بعد فترة إلى فيلسوف عصره السيّد محمد باقر الداماد ( المتوفّى سنة 1040 هـ). ويمكن تقسيم حياة فيلسوفنا العلميّة إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى، التلمذة:
حيث كان يتتبّع آراء المتكلّمين والحكماء ومناقشاتهم، ولم يكن في هذه المرحلة قد نضج من الناحية الفلسفيّة، ولم ينفتح له المسلك العرفانيّ. وفي هذه الفترة " استوعب في هذا المجال من حكماء اليونان خصوصاً، أفلاطون وأرسطو، وما أبانته دراسات كبار حكماء الإسلام كالفارابيّ وابن سينا وشيخ الإشراق وغيرهم، وما ابتكره هؤلاء، كما هضم ما وصل إليه كبار العرفاء عن طريق الذوق والوجدان".
لكن مع ذلك كلّه يعبّر هو عن هذه المرحلة بقوله: " وإنّي كنت سالفاً كثير الاشتغال بالبحث والتكرار، وشديد المراجعة إلى مطالعة كتب الحكماء والنظّار، حتى ظننتُ أنّي على شيءٍ، فلمّا انفتحت بصيرتي ونظرتُ إلى حالي رأيتُ نفسي (...) فارغةً من العلوم الحقيقيّة وحقائق العيان، ممّا لا يدرك إلا بالذوق والوجدان".
ثم نجده في مقدّمة كتابه الأسفار يقول: " ثمّ إنّي قد صرفتُ قوّتي في سالف الزمان، منذ أوّل الحداثة والريعان في الفلسفة الإلهيّة، (...) واقتفيت آثار الحكماء السابقين، والفضلاء اللاحقين، (...) وحصّلت من ما وجدته من كتب اليونانيين، والرؤساء والمعلّمين، تحصيلاً يختار اللباب من كلّ باب، (...) من غير أن يظفر من الحكمة بطائلٍ، أو يرجع البحث إلى نائلٍ". وكأنّه يظهر الندم على هذا الجهد الذي بذله. ولكن سيبدو أنّه استفاد كثيراً في هذه المرحلة لتكوين فلسفته، وتدعيمها.
المرحلة الثانية، العزلة:
فقد انقطع عن الناس إلى كهك، وهي إحدى قرى قم المقدّسة، خمسة عشر عاماً على ما قيل، تفرّغ فيها للعبادة وتصفية الفكر وتهذيب الخيال. فهو يقول بعد أن يذكر في مقدمة كتابه الأسفار أحوال أهل ذلك الزمان، ومعاداتهم له: " فأمسكتُ عناني عن الاشتغال بالناس ومخالطتهم، وآيستُ من مرافقتهم، ومؤانستهم، وسهلت عليّ معاداة الدوران، ومعاندة أبناء الزمان، وخلصت عن إنكارهم وإقرارهم، وتساوى عندي إعزازهم وإضرارهم، فتوجّهتُ توجّهاً عزيزاً نحو مسبّب الأسباب، وتضرّعت تضرّعاً جبلّيّاً إلى مسهّل الأمور الصعاب، فلمّا بقيتُ على هذا الحال من الإستتار والإنزواء (...) زماناً مديداً وأمداً بعيداً، اشتعلت نفسي لطول الجاهدات اشتعالاً نوريّاً، والتهب قلبي لكثرة الرياضات التهاباً قويّاً، ففاضت عليها أنوار الملكوت، وحلّت بها خبايا الجبروت، ولحقتها الأضواء الأحديّة...". وبذلك يكون قد انتقل إلى:
المرحلة الثالثة، التأليف:
فيقول "فألهمني الله الإفاضةَ ممّا شربنا جرعةً للعطاش الطالبين، واْلإِلَاحةَ ممّا وجدنا لعُمهِ للقلوب السالكين، ليحيا من شرب منه جرعةً، ويتنوّر قلب من وجد منه لعمه، فبلغ الكتاب أجله، وأراد الله تقديمه وقد كان أجّله، فأظهره في الوقت الذي قدّره، وأبرزه على من له يسّره، فرأيتُ إخراجه من القوّة إلى الفعل والتكميل، وإبرازه من الخفاء إلى الوجود والتحصيل، فأعملتُ فيه فكري، وجمعت على ضمّ شوارده أمري، وسألتُ الله تعالى أن يشدّ أزري، ويحطّ بكرمه وزري، ويشرح لإتمامه صدري، فنهضَت عزيمتي بعد ما كانت قاعدةً، وهبّت همّتي غبّ ما كانت راكدةً، واهتزّ الخامد من نشاطي..."، فصنّف كتاباً إلهياً- الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة- وبدأ في مرحلته هذه بالتأليف والكتابة.
أهم مؤلفات صدر المتألّهين بعد كتاب الأسفار:
1- تفسر القرآن الكريم.
2- شرح على أصول الكافي.
3- مفاتيح الغيب.
4- المبدأ والمعاد.
5- رسالة في حدوث العالم.
6- كتاب المشاعر.
7- الشواهد الربوبيّة.
8- العرشيّة.
9- رسالة التصوّر والتصديق.
وقد طبع أكثر مؤلفاته التي يبلغ عددها 32 كتاباً ورسالةً تقريباً.
ميّزات هذه المدرسة:
إنّ المنهج المتّبع في مدرسة الحكمة المتعالية، منهجٌ مختلفٌ عن كلّ المدارس السابقة عليه، فهو ليس منهجاً مشّائياً بحتاً، ولا إشراقيّاً بحتاً، ولا صوفيّاً، ولا كلاميّاً، "وليست فلسفةً تجميعيّة، بل لها بناؤها الفلسفيّ المشخّص". فهي بحقٍّ مزيجٌ من كلّ هذه المناهج والمدارس. وبملاحظة حياة صدر المتألّهين بمراحلها الثلاث، يمكن استنتاج ركائز الفلسفة الني شيّدها، والأُسُس التي اعتمد عليها. فهو فيلسوف إسلاميّ قرأ كلّ ما تقدّم عليه من أفكارٍ وفلسفاتٍ، وطاقت نفسه لحياة العزلة والتصوّف، لكنّه خرج من عزلته منتصراً، يحمل فلسفةً جديدةً، لم يكن ليوفّق إليها من قبله، فكانت فلسفته مزيجاً من البرهان والوجدان والقرآن، أو قل مزيجاً من العقل والكشف والشرع.
1- الجمع بين البرهان والوجدان:
أولاً: إنّ الحكمة المتعالية تتّخذ من العقل أساساً لها، ومن الشهود والمكاشفة أساساً آخر، لكن لا بنحو الفلسفة المشائيّة تنكر على الشهود كلّ النكير، ولا كالصوفيّة يعترضون ويسفّهون العقل أيّ تسفيه، بل هي تحارب من يعتمد على الشهود والكشف فقط، كما وتذمّ من يعتمد على العقل والبرهان فقط.
فنجد صدرا يشنّع على من ينكر العلم اللّدنيّ، بينما هو يعتبره أقوى وأشدّ فيقول: " إنّ كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبيّ اللّدنيّ، الذي يعتمد عليه السلّاك والعرفاء، وهو أقوى وأحكم من سائر العلوم، قائلين ما معنى العلم إلا الذي يحصل من تعلّمٍ أو فكريّة ورويّة".
ويذمّ المعتمدين على البحث والعقل فقط فيقول: " (...) لا على مجرّد الأنظار البحثيّة، التي سيلعب بالمعوّلين عليها والمعتمدين بها الشكوك، يلعن اللاحق منهم فيها السابق، ولم يتصالحوا عليها ويتوافقوا فيها، بل كلّما دخلت أمةٌ لعنت أختها".
فأولى "أنّ يرجع إلى طريقتنا في المعارف والعلوم الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألّهين من الحكماء، والملّيين من العرفاء".
ويقول في موضعٍ آخر في وصف كتابه الأسفار بأنه: "قد اندمجت فيه العلوم التألهية في الحكمة البحثيّة وتدرعت فيه الحقائق الكشفيّة بالبيانات التعليميّة".
ويفتخر بالطريقة التي وصل إليها بأنّها " ممّا لست أظنّ أن قد وصل إليه أحدٌ ممّن أعرفه من شيعة المشّائين ومتأخّريهم، دون أئمّتهم ومتقدّميهم، كأرسطو ومن سبقه. ولا أزعم، إن كان يقدر على إثباته بقوّة البحث والبرهان شخصٌ من المعروفين بالمكاشفة والعرفان، من مشايخ الصوفيّة من سابقيهم ولاحقيهم".
وهذا يعني أنّه لم يبلغ المشاؤون ما بلغه هو من المكاشفة والوجدان، ولا الإشراقيّون والعرفاء بلغوا ما بلغه هو بالبحث والبرهان، نعم يمكن القول: "إنّ فلسفة صدر المتألّهين تشبه المدرسة الإشراقيّة من ناحية الأسلوب، أي إنّها تعتمد كلاً من الاستدلال والمكاشفة، إلا أنّها تختلف عنها في الأُسُس والاستنتاجات".
ثانياً: يقدّم البحث الفلسفيّ على الشهود الوجدانيّ، شفقةً بالمتعلّمين، وتسهيلاً عليهم، لأنّ الطالب قد لا يقتنع بالمشاهدة ولا يصدّق بها ابتداءً، لكنّه إذا وجد الدليل البحثيّ العقليّ واقتنع به، ثمّ سمع بالمشاهدة والكشف أمكنه التصديق أكثر: "ونحن أيضاً سالكو هذا المنهج في أكثر مقاصدنا الخاصّة، حيث سلكنا أوّلاً مسلك القوم في أوائل الأبحاث وأواسطها، ثم نفترق عنهم في الغايات، لئلا تنبو الطبائع عمّا نحن بصدده في أوّل الأمر، بل يحصل لهم الإستيناس به، ويقع في أسماعهم كلامنا موقع القبول إشفاقاً بهم".
2- المطابقة بين الشرع والعقل:
وهذه الميزة التي تفصل بين هذه المدرسة وسائر المدارس من حيث النتائج، فلم يقع فيما وقع به المشاؤون من تطبيق الشريعة وتأويلها بما يلائم العقل، ولم يفشل من حيث النتيجة بعدم الحصول على البراهين العقليّة بما يلائم الشريعة كما حصل للإشراقيّين، بل وجد في كلّ مسائله الفلسفيّة الحكميّة التي طرحها مطابقةً بين العقل والشرع: "وحاشا الشريعة الحقّة الإلهيّة البيضاء أن تكون أحكامها مصادمةً للمعارف اليقينيّة الضروريّة، وتبّاً لفلسفةٍ تكون قوانينها غير مطابقةٍ للكتاب والسنّة". وعلى هذا لا يزال يستشهد على كلّ مسألةٍ فلسفيّةٍ عويصةٍ بالآيات القرآنيّة والآثار الإسلاميّة. وهو بارعٌ في تطبيق ما يستشهد به على فلسفته. ولم يكن استشهاده بها لرفع شبهة المتّهمين له بالخروج عن الدين، بل هو من الذين يدّعون أنّه لا أحد يفهم أسرار القرآن الكريم، والسنّة الشريفة كما يفهمها هو. وهو يسعى في كلّ ما ألّفه إلى أن يبيّن هذا المنهج الفريد، فيهدف من كتبه الفلسفيّة إلى بيان تأييد العقل للدين، ومن كتبه الدينيّة بيان تأييد الدين للعقل، فكانت كتبه كلّها دينيّةً فلسفيّةً.
3- محوريّة القرآن:
وقد يتبادر للأذهان من هذا الأسلوب الفريد الذي يتّبعه الملّا صدرا، أنّ البرهان والعرفان والقرآن في عرضٍ واحدٍ، وأنّها طرقٌ ثلاثٌ توصل إلى الحقيقة وتكشف عنها، وأنّه لا تقدّم لبعضها على الآخر، إلا بالأسلوب التأليفيّ والكتابيّ لإقناع الطلاب، وشفقةً بهم كما تقدّم، ولكنّ الصحيح أنّ المحوريّة الأساس للقرآن في مدرسته: " إنّ الحكمة المتعالية وجدت كمالها في الجمع بين الأدلّة، البرهان والعرفان والقرآن، وأنّه لا يوجد أي اختلافٍ بينها، وإنّما هي توافقٌ وانسجامٌ تامٌّ، نعم في مقام المقايسة الداخليّة بين هذه الطرق الثلاث، فإنّ المحوريّة والأصالة هي للقرآن، والآخران يدوران حوله، لا ينفكّان عنه".
حدود العقل:
ومن الضروريّ جداً وضوح مكانة العقل في هذه المدرسة. فقد يتصوّر أن الحقائق، التي كشفت اللثام عنها الحكمة المتعالية، يتوصّل إليها بالطرق الثلاث المتقدّمة، وأنّ ما يصل إليه الكشف والشهود، وما يحكي ويخبر عنه القرآن والسنّة، يمكن للعقل والبرهان أن يصل إليه، ويستدلّ عليه. وقد يتصوّر أنّه يوجد تنافٍ بين القرآن والوجدان من جهةٍ، والبرهان من جهةٍ ثانيةٍ، حيث إن هذه الطرق في عرض بعضها، والتنافي واقعٌ فيما بينها.
لكن الحقّ غير هذا، فإنّ هذه الطرق ليست في عرض بعضها البعض حتى يقع التنافي فيما بينها، وإنّما هي في طول بعضها البعض، ويأتي دور المكاشفة والشهود حينما ينتهي دور العقل والبرهان.
يقول صدر المتألّهين: "ثمّ إنّ بعض أسرار الدين وأطوار الشرع المبين بلغ إلى حدّ ما هو خارجٌ عن طور العقل الفكريّ، وإنّما يعرف بطور الولاية والنبوّة، ونسبة طور العقل ونوره إلى طور الولاية ونورها، كنسبة نور الحسّ
إلى نور الفكر، فليس لميزان الفكر كثير فائدةٍ وتصرّف هناك" .
وقال أيضاً: "إنّ مقتضى البرهان الصحيح ممّا ليس إنكاره في جِبلّة العقل السليم من الأمراض والأسقام الباطنة. نعم ربما يكون بعض المراتب الكماليّة مما يقصر عن غورها العقول السليمة، لغاية شرفها وعلوّها عن إدراك العقول، لاستيطانها في هذه الدار وعدم مهاجرتها إلى عالم الأسرار، لا أنّ شيئاً من المطالب الحقّة ممّا يقدح فيها ويحكم بفسادها العقل السليم والذهن المستقيم".
وينقل عن الغزالي فيقول: "قال الشيخ الفاضل الغزالي: اعلم أنّه لا يجوز في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته. نعم يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه، بمعنى أنه لا يدرك بمجرّد العقل. ومن لم يفرّق بين ما يحيله العقل وبين ما لا يناله العقل فهو أخسّ من أن يخاطب فيترك وجهله".
تقويم هذه المدرسة:
لقد استطاع "صدر المتألّهين أن يجمع بين الفلسفة والعرفان، واستفاد في ذلك بالسنّة والقرآن، وبيّن المعارف الذوقيّة في صورة الدليل والبرهان، فتولّد بهذا الترتيب بين مناهج المعرفة منهجٌ حديثٌ، وسمّي بالحكمة المتعالية". و"استطاع أن يحقّق إنجازاً ضخماً على مستوى القواعد والمباني الفلسفيّة، أدّت إلى بناء نظامٍ عقليٍّ جديدٍ قائمٍ على أسسٍ برهانيّةٍ يمكنها تفسير العالَم الإمكانيّ وعلاقته بمبدئه المتعالي".
وقد حسمت هذه المدرسة النزاع بين الفلسفة المشائيّة والإشراقيّة، ولم يعد معنى للصراع بين أرسطو وأفلاطون في هذه المدرسة، حيث وضعت كل مسألةٍ في مكانها، واستفادت من المناهج المعرفيّة كلّها. يقول المطهري: "وقد وضع صدر المتألّهين نهايةً حاسمةً لهذا النزاع الطويل (أي بين أرسطو وأفلاطون) بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته. ومنذ هذا الزمن لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد لاحظ كلّ من جاء بعده واطلع على فلسفته، أنّ النزاع الذي امتدّ لألفي عامٍ بين المشّائين والإشراقيّين قد حسم على يد هذا الفيلسوف العظيم".
خلاصة الدرس
إنّ الفكر الفلسفيّ السائد هذه الآونة، لا سيما في الأوساط العلميّة الإسلاميّة، وخصوصاً في الحوزات العلميّة، هو فكر وفلسفة الحكمة المتعالية، التي أرسى دعائمَها وأسّس قواعدَها صدرُ الدين الشيرازيّ، الملقّب بصدر المتألّهين. ويمكن تقسيم حياة فيلسوفنا العلميّة إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى، التلمذة: حيث كان يتتبّع آراء المتكلّمين والحكماء ومناقشاتهم. ولم يكن في هذه المرحلة قد نضج من الناحية الفلسفيّة. ولم ينفتح له المسلك العرفانيّ. ولكنّه استفاد كثيراً في هذه المرحلة لتكوين فلسفته، وتدعيمها.
المرحلة الثانية، العزلة: فقد انقطع عن الناس إلى إحدى قرى قم المقدّسة خمسة عشر عاماً على ما قيل، تفرّغ فيها للعبادة وتصفية الفكر وتهذيب الخيال، إلى أن دخل في:
المرحلة الثالثة، التأليف: فصنّف كتاباً إلهياً- الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة- ويكون بذلك قد دخل مرحلةً جديدة من حياته، قدّم فيها أنفس ما قدّمه للفلسفة الإسلاميّة.
يعدّ المنهج المتبع في مدرسة الحكمة المتعالية، منهجاً مختلفاً عن كلّ المدارس السابقة عليه. فهو ليس منهجاً مشّائياً بحتاً، ولا إشراقيّاً بحتاً، ولا صوفيّاً، ولا كلاميّاً. وليست هذه المدرسة فلسفةً تجميعيّة، بل لها بناؤها الفلسفيّ المشخّص.وهي بحقٍّ مزيجٌ من كلّ هذه المناهج والمدارس. وقد تميّزت عن غيرها من المدارس بأنّها:
1- تجمع بين البرهان والوجدان: فالحكمة المتعالية تتّخذ من العقل أساساً لها، ومن الشهود والمكاشفة أساساً آخر، لكن لا بنحو الفلسفة المشائيّة تنكر على الشهود كلّ النكير، ولا كالصوفيّة يعترضون ويسفّهون العقل أيّ تسفيه، بل هي تحارب من يعتمد على الشهود والكشف فقط، كما وتذمّ من يعتمد على العقل والبرهان فقط.
2- تطابق بين الشرع والعقل: وهذه الميزة التي تفصل بين هذه المدرسة وسائر المدارس من حيث النتائج. فلم يقع فيما وقع به المشّاؤون من تطبيق الشريعة وتأويلها بما يلائم العقل. ولم يفشل من حيث النتيجة بعدم الحصول على البراهين العقليّة بما يلائم الشريعة كما حصل للإشراقيّين، بل وجد في كلّ مسائله الفلسفيّة الحكميّة التي طرحها مطابقةً بين العقل والشرع. ولهذا لا يزال يستشهد على كلّ مسألةٍ فلسفيّةٍ عويصةٍ بالآيات القرآنيّة والآثار الإسلاميّة.
3- محوريّة القرآن: وقد يتبادر للأذهان من هذا الأسلوب الذي يتّبعه الملّا صدرا، أنّ البرهان والعرفان والقرآن في عرضٍ واحدٍ، وأنّها طرقٌ ثلاثٌ توصل إلى الحقيقة وتكشف عنها، وأنّه لا تقدّم لبعضها على الآخر، إلا بالأسلوب التأليفيّ والكتابيّ لإقناع الطلاب وشفقةً بهم كما تقدّم. ولكن الصحيح أنّه في مقام المقايسة الداخليّة بين الطرق الثلاث، فإنّ المحوريّة والأصالة هي للقرآن، والآخران يدوران حوله، لا ينفكان عنه.
حدود العقل: ومن الضروريّ جداً وضوح مكانة العقل في هذه المدرسة. فقد يتصوّر أن الحقائق، التي كشفت اللثام عنها الحكمة المتعالية، يتوصّل إليها بالطرق الثلاث المتقدّمة، وأنّ ما يصل إليه الكشف، وما تحكي عنه السنّة، يمكن للعقل أن يصل إليه، ويستدلّ عليه. وقد يتصوّر أنّ هذه الطرق في عرض بعضها، والتنافي واقعٌ فيما بينها.
لكن الحقّ غير هذا، فإنّ هذه الطرق ليست في عرض بعضها البعض حتى يقع التنافي فيما بينها، وإنّما هي في طول بعضها البعض، ويأتي دور المكاشفة والشهود حينما ينتهي دور العقل والبرهان.
انتهى
|
|
|
|
|