النفوس السوية تمتثل قول الله تعالى : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } (60) سورة الرحمن ، فهي دائماً تقابل المعروف بالثناء والدعاء والعرفان ، ويجزي الإحسان بالإحسان .
وقد جبلت النفوس أو القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها ، وهذا الأمر الطبيعي جعله الله في عموم بني البشر ، لكن هناك فئة شاذة منتكسة مخالفة للدين والفطرة والعقل ، لا ترد الجميل ، ولا تعرف للوفاء قيمة ، بل إنها كما يقول بعض العوام : ( تعض اليد التي تمتد إليها ) ، وتسيء إلى من أحسن إليها قولاً وعملاً ، وهذا الأمر لا يتصف به إلا أهل القلوب والعقول السقيمة .
وبالمناسبة فإن قول ( اتق شر من أحسنت إليه ) من الأحاديث الموضوعة التي لا يجب نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها كلمة بالغة الدقة، وفيها من الموضوعية الشيء الكثير ، لأنها تحكي حالاً وصورة واقعية لنكران الجميل من قبل ضعاف النفوس .. وإليكم أمثلة من ذلك :
فعندما يحسن شخص إلى آخر ، ويقرضه قرضاً حسناً ، ويطلب سداده ، فإنه يجد منه العناء والمشقة في سداد هذا الدين ، ولو وصل الأمر إلى أقسام الشرطة ، والمحاكم ، والإمارات ، فقد لا يطول منه شيئاً بل تسويفاً ومماطلة ، وإمعاناً في الأذى .
وكم من شيخ فاضل تلقى العلم عنده ( طويلب علم ) فقلب له ظهر المجن ، وأساء إلى شيخه همزاً ولمزاً ، وقولاً وفعلاً .
وهناك حالات أخرى لمن يحسن إلى لئيم فلا يجد منه إلا لؤماً وخسة ، وكم من محسن أشفق على ضعيف ، وكم من صاحب معروف حن وعطف على صاحب حاجة فمده بالعون والشفاعة ، أو الدعم المادي ، وتنكر لمعروفه بما ينطبق عليه قول الشاعر :
إذا أكرمت الكريم ملكته *** وإن أكرمت اللئيم تمردا
وهكذا هم اللئام إذا اتجه الإحسان إليهم ، ووصل المعروف عليهم ، قابلوا ذلك بالإساءة ، ونكران الجميل .
وإنني هناك لا أيَئّس الناس من عمل المعروف ، وتحجيمهم ، وتثبيطهم .. لكنني أؤكد على أن عمل الخير والمعروف والإحسان كما هو يتطلب الصبر في حال أدائه ، يتطلب الصبر أيضاً بعد الفراغ منه ، تعظيماً للأجر ، وزيادة في البلوى ، فإن لم يحصل الشكر فقد يكون ماهو أسوأ منه ، ولكن أصحاب الهمم العالية ، العاملين لوجه الله ، لا ينتظرون جزاءً ولا شكوراً من الخلق .
لا يضرهم المخذلون والمتنكرون ، فيردون عليهم ويقابلون إساءاتهم بالإحسان { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } (9) سورة الإنسان ، وهذا حال السلف الصالح ، وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع ( مسطح ) الذي كان ينفق عليه ، ثم سعى في إشاعة الفاحشة على الصديقة بنت الصديق ، فأقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق عليه ، ولكن ما إن نزل قوله تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (22) سورة النور ، قال أبو بكر : بلى ، والله إني أُحِبُّ أن يغفرَ الله لي ، فرجعَ إلى مِسْطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : واللهِ لا أنزعها منه أبداً ، وعاد أبو بكر إلى الإنفاق والإحسان على ( مسطح ) .
وفعل اللئام والشواذ لا يفل عزيمة أهل الهمم العالية ، والخصال الحميدة ، وأصحاب المعروف في أن يبذلوا معروفهم ، ويواصلوا عطاءهم، لأن عملهم لله وفي الله، وابتغاء مرضاته ، فشتان بين الكرام وبين اللئام .. فيا أيها المحسن ويا صاحب المعروف لا يضرك غمط من غمطك، ولا جحود من جحدك ، وأحمد الله أنك صاحب اليد العليا ، واعلم أن الله أجرى على يديك الخير ليعطيك الدرجات العليا في الجنة ، وسلّط عليك مَنْ أكرمته ليرفع مقامك عند الله ، لأن عملك لله - عز وجل - ولمرضاته لا لمرضاة الناس ؛ إذ رضى الناس غاية لا تدرك ، فعمل الخير وصف لك بأنك من الأخيار ، وإنكار المعروف دليل على الحمق ، وهذا وصفه ، قال تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } (84) سورة الإسراء ، وهذه الحكمة ( اتق شرَّ من أحسنت إليه ) لها تتمة وهي ( إن كان لئيماً ) ، قال تعالى : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } (60) سورة الرحمن ، ولا تنس المقولة القائلة : اعمل خيراً تلقَ شراً لا والله، اعمل شرًّا تلق خيراً لا والله .
وعلامة الإخلاص عمل الخير مع أهله ومع غير أهله ، لأن الإنسان الكامل مفطور على الرحمة ، كما هو الحال في سيرة نبي الرحمة ، فقد أحسن لمن أساء إليه عند المقدرة ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
خاتمة :
فوا عجباً لمن غذوت طفلاً *** ألفته بأطراف البناني
أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتدَّ ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل حين *** فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني