ما الذي قلد زينب الصديقة هذا الدور العظيم؟ إنّها صفاتها المثلى التي نذكرها تباعاً:
1 - الصديقة:
عشية يوم عاشوراء نظرت زينب (عليها السلام) إلى أرض الطف فإذا بها مثخنة بالجثث الطواهر، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأضاحى، وقد فصلت الرؤوس وسحقت الأجساد الطاهرة. وفي جانب آخر رمقت بقايا خيم محترقة، وثلة من الأطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى، وأصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم وأخرى ينادون العطش العطش.. وقد أحاط بهذا الوادي لجب جيش انتشى بالنصر، وتشبّع بروح الهمجية.
إنّ مجرّد تصور هذه الصورة الفجيعة تجعل أكثر الناس حلماً ينهار، ولكن زينب (عليها السلام) صمدت.. ماذا فعلت؟ لملمت الأطفال، وهدّأت النساء وصبرتهم ثم قامت لربّها تصلي، ولعلها كانت تدعو الله بضراعة لكي يمنحها الصبر والاستقامة، وأن يتقبّل من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ذلك القربان، كما كان دعاء أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته الكريمة حيث قال (عليه السلام): (اللهم أنت متعالِ المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت. أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً. احكم بيننا وبين قومنا بالحق، فإنهم غرّونا وخدعونا وخدعونا وخذلونا وغرّروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وأتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً برحمتك يا أرحم الراحمين)).
ثم قال (عليه السلام): (صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين).
بلى.. هذا الإيمان الخالص الذي تجلى في كلمات السبط الشهيد في تلك اللحظات الحاسمة، وذلك الموقف الذي تجلى عند الصديقة زينب بعد الشهادة طبع المسيرة الحسينية بطابع توحيدي خالص. إن أبرز صفات زينب كان تصديقها بما جاء في الكتاب وبينه الرسول، وهكذا تحمّلت تلك المصائب العظيمة التي احتسبتها عند الله..
ثم عادت (عليها السلام) إلى حيث كان المخيّم فلمّا انتصف الليل أخذت تصلي نافلة الليل، ورمقتها عينا سيد العابدين علي بن الحسين (عليها السلام) فسألها: عمّة لم تصلين صلاتكِ عن جلوس؟
قالت زينب: يا بن أخي؛ إنّ رجلاي لا تحملانني.
قبل أيام حيث نزلت قافلة السبط في أرض الطف جلس الإمام الحسين أمام خيمته، وأخذ يصلح سيفه وهو يتمثل بأبيات كان العرب تنشدها عندما يحسّ الواحد بالخطر الداهم وهو يقول: كم لك بالإشراق والأصيل والدّهر لا يقنع بالبديل يا دهر أفٍ لك من خليل من صاحب وطالب قتيل
فلما سمعت أخته الصديقة زينب ذلك صاحت: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة. ثم تجمعت في ذاكرتها مصائبها فقالت: اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.
فنظر إليها الحسين وقال لها: يا أختاه لا يذهبنّ بحلمك الشيطان. وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام.
فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي، ثم لطمت وجهها وهوت إلى جبينها فشقته وخرّت مغشياً عليها. وكل حي سالك سبيلي وإنما الأمر إلى الجليل
فقال لها الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن أفاقت: يا أختاه اتقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى الذي خلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده.
ثم قال لها: يا أختاه إني أقسمت عليك فأبري بقسمي لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت.
ومنذ تلك اللحظة عرفت زينب أنّ مسؤوليتها توجب عليها الصبر فتجلدت، واحتسبت الله في صبرها.
2 - الصبر:
لم يشهد التاريخ امرأة أعظم صبراً من زينب (عليها السلام).. لقد ذُبح أبناؤها عون ومحمد، وقيل عبد الله(10) على مشهد منها فلم تجزع، ثم استشهد عبر ساعات وأمام عينها إمامها الحسين وأخوتها وأبناء أخوتها فصبرت، وكانت مثلاً في رباطة الجأش والحكمة في تدبير الأمور، وقيادة الموقف الصّعب.
إنّها كانت أسيرة وربّما مكبّلة، وكانت قد أنهكتها المصائب والمتاعب الروحية والجسدية، ولكنها كانت تقود المعارضة من موقع الأسر، كما تدبّر شؤون الأسارى فيا له من صبر عظيم لا يمكن أن يناله بشر إلاّ بفضل الله، وحسن التوكل عليه. في عشيّة عاشوراء حين أحرقت بنو أمية خيام أهل البيت، جاءت زينب إلى الإمام زين العابدين وكان قد اشتدّ به المرض، فسألته باعتباره إماماً مفترض الطاعة بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، سألته عن واجبها فأمرها والنسوة بالفرار. فلما انتشر بقايا آل الرسول في أطراف وادي كربلاء عادت زينب إلى خيمة الإمام، وأنقذته من وسط النيران واطمأنّت على سلامته، ثم أخذت هي وأختها أم كلثوم بالتفتيش عن النساء والأطفال وجمعتهم تحت خباء نصف محترق.. إنّ مثل هذا العمل العظيم لا يصدر من امرأة وجمعتهم مفجوعة بعشرات المصائب العظيمة، إلاّ إذا كانت في قمّة الصبر، وما هذا الصبر إلا بالله العظيم.
وعندما نودي بآل الرسول بالرحيل من وادي كربلاء، ومرّوا بالأسرى على أجساد ذويهم نكاية بهم، فألقى الإمام زين العابدين نظرة وداع أليمة على جسد أبيه المقطع فاستبد به الحزن، ورمقته الصديقة زينب وأحسّت أن حجة الله وإمام زمانها علي بن الحسين (عليه السلام) في خطر، إذ يكاد الحزن يقضي عليه فأدركت الموقف وتوجهت إليه قائلة: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وأخوتي؟
فقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين، بالعراء مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم أو الخزر.
فقالت (عليه السلام) : لا يجزعنك ما ترى، فوالله إنّ ذلك بعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك وعمك، وقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، ويجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علواً.
وهكذا بعثت السدة زينب روح السكينة في قلب الإمام (عليه السلام). وعندما أدخل أسارى آل الرسول إلى مجلس ابن زياد، وهو العتل الزنيم ابن المرأة الفاجرة وأبوه زياد الذي لم يعرف له أب فقيل زياد بن مرجانة أو زياد بن أبيه. هنالك دخلت زينب (عليه السلام) متنكرة، حيث لبست أرثى ثيابها. فلما توجه إليها ابن زياد قائلاً: من هذه المتنكرة؟
قيل له: إنها زينب بنت علي.
فأراد ابن زياد أن يتشفى منها فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.
فقالت زينب (عليها السلام) : إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت (عليها السلام): ما رأيت إلا جميلاً هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينكم وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة.
فغضب ابن زياد؛ وكأنه همّ بها، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت زينب (عليها السلام): لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاءك فقد اشتفيت.
فقال ابن زياد: هذه سجّاعة؛ فلعمري لقد كان أبو سجّاعاً شاعراً.
فقالت: يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة.
وأضافت: وإن لي عن السجاعة لشغلاً، وإني لأعجب ممّن يتشفي بقتل أئمته، ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته.
إنها رباطة جأش، وصبر وعلم وحكمة.. لقد كانت زينب (عليها السلام) تحسّ بأنها مسؤولة بالدرجة الأولى عن حفظ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، ثم بقية الأسارى من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد قامت بذلك خير قيام.
ففي مجلس يزيد الطاغية عندما طلب أحد الأمراء منه فاطمة بنت علي (عليه السلام) وكانت وضيئة، وقال: يا يزيد هب لي هذه الجارية. فتعلقت بأختها زينب، فدافعت زينب (عليها السلام) عنها، وتوجهت إلى ذلك الشامي وقالت: كذبت والله ولعنت، ما ذاك لك ولا له.
فغضب يزيد وقال: بل كذبت، والله لو شئت لفعلته.
قالت (عليها السلام): لا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
فغضب يزيد ثم قال إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!!
فقالت (عليها السلام) : بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك.
قال يزيد: كذبت يا عدوة الله.
قالت: أمير يشتم ظالماً ويقهر بسلطانه.
فكأنه لعنه الله استحى فسكت، فأعاد الشامي لعنه الله فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقال له: أعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً
هذه صور من صبر الصديقة زينب (عليها السلام) وشجاعتها، وهي صور تعكس عمق ذلك القلب المؤيد بنور الإيمان.. وحين نقرأ معاً خطاباتها نعرف أنها لا تصدر إلا عن قلب مطمئن بسكينة الإيمان، واثق بالنصر الإلهي، وموقن باستقامة طريقه وسلامة منهجه.
3 - البلاغة:
علم واسع، وحكمة بالغة، وخطاب فصل، وشجاعة ربانية، وأدب نافذ، وتعبير فصيح.. كل ذلك يشكل عناصر بلاغة الصديقة زينب. لقد كانت بنت ثلاث سنوات حين اصطحبت أمها إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث خطبت أمها الزهراء (عليها السلام) بذلك الخطاب الهام الذي جمعت فيه كل قيم الرسالة ومعاني الرفض، ثم كانت زينب هي التي تروي لنا ذلك الخطاب العظيم.
وروي أنه سألها أبوها عن مسألة قالت بكل ثقة: بلى أمي قد علمتني إياها.
وقد بلغ من علمها بالله ومعرفته أن أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) أجلسها وأخاها العباس إلى جانبيه، وهما صغيران وقال للعباس: قل واحد. فقال واحد. فقال: قل اثنان. قال: استحي أقول باللسان الذي قلت واحد اثنان.
فقبّل علي (عليه السلام) عينيه، ثم التفت إلى زينب وكانت على يساره والعباس على يمينه، فقالت: يا أبتاه أتحبّنا؟
قال: نعم يا بنية، أولادنا أكبادنا. فقالت: يا أبتاه حبّان لا يجتمعان في قلب؛ حب الله وحب الأولاد، وإن كان لابدّ فالشفقة لنا والحب لله خالصاً. فازداد علي بيهما حباً
عرفان زينب بالله لم يشذ عن عرفان جدّها وأبيها وأمها والسبطين، إنها عاشت في بيت الوحي، ومن ذلك العرفان أوتيت بصيرة في الدين حتى شهد لها الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالقول: أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة.
وقد أوصى الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زينب، وكانت في مستوى تحمل أعباء الرسالة، بدلالة أنّ أخاها الحسين أوصى إليها لتكون نائبة عن الإمام زين العابدين في تلك الأيام العصيبة.
أما حكمتها فكفى دليلاً عليها قيادتها للمعارضة في تلك الظروف، وبعد تلك الفاجعة العظيمة.
أما خطابها الفصل، وكلماتها النافذة، فكفى شهادة على ذلك قول حزيم الأسدي عن خطابها في الكوفة حيث قال: فلم أر والله خفرة أنطق منها كأنما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين